تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : آيات ظاهرها التعارض



منال
06-25-2008, 09:02 PM
السلام عليكم


هذا الموضوع جهد أحد الإخوة الافاضل "لنا الله" واستأذنته فى نقله فجزاه الله خيرا وسدد خطاه


آيات ظاهرها التعارض



(نَسُوا الله فَنَسِيهم (




من الثابت في أصول العقيدة الإسلامية أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال، ومنـزَّه عن صفات النقص، وقد قال تعالى مقررًا هذه العقيدة غاية التقرير: { ليس كمثله شيء } (الشورى:11)، وقال سبحانه أيضًا: { أفمن يخلق كمن لا يخلق } (النحل:17)؛ والعقل يقتضي كذلك، أن الخالق غير المخلوق .


وقد وردت في القرآن الكريم بعض الآيات، تتحدث عن نسبة النسيان لله سبحانه، من ذلك قوله تعالى: { نسوا الله فنسيهم } (التوبة:67)؛ وبالمقابل، فقد وردت آيات أخرى، تنفي عنه سبحانه صفة النسيان، كقولهعز وجل: { وما كان ربك نسيا } (مريم:64) .


وقد يبدو للوهلة الأولى، أن بين الآيتين تعارضًا؛ فكيف السبيل لرفع ما يبدو من تعارض ظاهر ؟



لقد أجاب أغلب المفسرين عنهذا التعارض، بأن قالوا: إن النسيان يطلق على معنيين؛ أحدهما: النسيان الذي هو ضدالذكر ومقابل له، وهو الحالة الذهنية التي تطرأ على الإنسان، فتغيِّب عن ذاكرته بعض الأمور؛ ثانيهما: يطلق النسيان ويراد به ( الترك )؛ قالوا: والنسيان بمعنى ( الترك ) مشهور في اللغة، يقال: أنسيت الشيء، إذا أمرت بتركه؛ ويقول الرجل لصاحبه: لاتنسني من عطيتك، أي: لا تتركني منها.


وبناء على هذا المعنى الثاني للنسيان،وتأسيسًا عليه، وجهوا قوله تعالى: { نسوا الله فنسيهم }، فقالوا: إن الآية جاءت على أسلوب المشاكلة والمقابلة والمجاراة، وهو أسلوب معهود في كلام العرب، بحيث يذكرونالشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته؛ وبحسب هذا الأسلوب، جاء قول عمرو بن كلثوم في معلقته المشهورة:


ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا


فسمى جزاء الجهل جهلاً؛ مصاحبة للكلام، ومشاكلة له .


ومنه قول جحظة البرمكي ، وقد دُعي إلى طعام في يوم بارد، وكان لا يجد ثوبًا يقيه ألم البرد، قال:


قالوا: اقترح لونًا يجاد طبخه قلت: اطبخوا لي جبة وقميصًا


فعبرالشاعر عن حاجته لما يقيه ألم البرد بفعل الطبخ، وإنما فعل ذلك مجارة ومشاكلة لمقدمالكلام .


وعلى هذا الأسلوب جاء القرآن أيضًا، كما في قوله تعالى: { وجزاءسيئة سيئة مثلها } (الشورى:40)؛ إذ من المعلوم أن السيئة الأولى من صاحبها سيئة؛لأنها معصية من فاعلها لله تبارك وتعالى، أما الثانية فهي عدل منه تعالى، لأنهاجزاء من الله للعاصي على معصيته، فالكلمتان وإن اتفقتا لفظًا، إلا أنهما اختلفتا معنى؛ فالأولى على الحقيقة، والثانية على المقابلة .


ومن هذا الباب أيضًا،قوله تعالى: { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } (البقرة:194)،فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاء لا ظلم، بل هو عين العدل، لأنه عقوبة للظالم علىظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول .


وجريًا على هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: { نسوا الله فنسيهم }، أي: تركوا طاعة الله، وأعرضوا عن اتباع أمره، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته .


قال أهل التفسير، وعلى هذا التوجيه يُفهم كل ما في القرآن من نظائر ذلك؛ كقوله تعالى: { يخادعون الله وهو خادعهم } (البقرة:142)، { ومكروا ومكر الله } (آل عمران:54)، وقوله سبحانه: { ويمكرون ويمكر الله } (الأنفال:30)؛ فليس المقصود من هذه الآيات، وصفه سبحانه بالخداع والمكر، فاللهسبحانه منـزه عن مثل هذه الصفات وما شابهها، وإنما المراد من هذا الأسلوب المجاراةوالمقابلة، على ما تقدم .


وحمل ( النسيان ) في حقه تعالى على معنى ( الترك ) أمر متعين؛ إذ لا يستقيم في حقه سبحانه أن يوصف بالنسيان؛ لأن النسيان من صفات النقص في البشر، والله سبحانه موصوف بصفات الكمال والجلال، وهو منـزه عن صفات النقص .


وبحسب هذا التوجيه للآية، يمكننا أن نفهم قوله سبحانه: { فاليوم ننساهم } (الأعراف:51)، وقوله عز من قائل: { وكذلك اليوم تنسى } (طه:126)؛ فليس المقصودبالنسيان هنا المعنى الأول، وإنما المقصود منه المعنى الثاني، الذي هو معنى الترك .


وعلى هذا المعنى، يكون النسيان الوارد في قوله تعالى { نسوا الله }، هوالنسيان المقصود والمتعمد، على معنى أنهم لم يأخذوا بأوامر الله، وتركوها وراءظهورهم؛ ولذلك استحقوا الذم والعقوبة. بخلاف ما لو حُمل النسيان على المعنى المعروف، فإنهم لم يكونوا يستحقوا ذمًا ولا عقابًا؛ لأن النسيان - كعارض من العوارض البشرية - ليس في وسع البشر دفعه ولا منعه، بل هو من مقتضيات الطبيعة البشرية؛ ومن المعلوم شرعًا أن النسيان المعهود من البشر لا يحاسب عليه الإنسان، وإن كان لا يسقطبه التكليف .


وختامًا نقول: إن قوله تعالى: { نسوا الله فنسيهم }، وماشابهه من آيات، لا يتعارض مع قوله سبحانه: { وما كان ربك نسيا } ونحوها من الآيات؛إذ المراد من النسيان في الآية الأولى ( الترك )؛ أما النسيان في الآية الثانية،فالمراد منه معناه المعهود بين الناس، والآية نافية له في حق الله سبحانه .

عزام
06-25-2008, 09:44 PM
بارك الله فيك
هناك احرف متشابكة ينبغي فصلها
يبدو ان كل منا يرى الاخطاء في موضوع الآخر :)
لو لدي قدرة التحرير لصلحتها لك عرفانا بسابق فضلك علينا.
عزام

منال
06-26-2008, 01:11 AM
الله يبارك في حضرتك بل أنتم أصحاب الفضل

سبحان الله قرات الموضوع على الوورد للتأكد من زيادة حرف أو نقصه أو أو ثم نقلته هنا ونظرت سريعا على الآيات فقط

تم فصل الأحرف وجزاك الله كل خير

الموضوع يتبع بإذن الله

مقاوم
06-26-2008, 07:49 AM
موضوع قيم ومفيد.
جزى الله الكاتب والناقل خيرا كثيرا.

منال
06-26-2008, 07:42 PM
بارك الله بحضرتك

(2)



آيات ظاهرها التعارض




وردت في القرآن الكريم آية، قال عنها عليٌّ رضي الله عنه: ما في القرآن آية أوسع منها؛ وقال عنهاعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: هي أرجى آية في القرآن؛ إنها قوله تعالى: { قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا } (الزمر:53) ففي هذه الآية يبين سبحانه أنه يغفر ذنوب عباده جميعها .




وبالمقابل وردت آية أخرى، يقول الله فيها: { إن الله لا يغفر أنيشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (النساء:48) وفي هذه الآية يخبر سبحانه أنهيغفر كل ذنب إلا الشرك به، وأنه يغفر ما دون الشرك من الذنوب لمن يشاء من عباده؟




وقد يبدو شيء من التعارض بين الآيتين الكريمتين؛ فقد ذكرت الآية الأولى أن الله يغفر الذنوب جميعًا، في حين أن الآية الثانية نفت أن يغفر الله ذنب من يشرك به، فكيف السبيل لإزالة ما يبدو من تعارض بين الآيتين ؟





لقد أجاب المفسرون على هذا التعارض الظاهر بين الآيتين بجوابين؛


الأول: أن قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دونذلك لمن يشاء } نص مطلق، قيدته نصوص أخرى تبين أن الله يغفر ذنوب عباده أيًا كانت إذا تاب العبد منها؛
من ذلك قوله تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولايقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما * يضاعف لهالعذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا } (الفرقان:68-69)،
فقد بين سبحانه في هاتينالآيتين أن الذي يدعو مع الله إلهًا آخر يلقى العذاب الأثيم، والمضاعف، والخلود في النار؛ ثم أخبر سبحانه بعد هاتين الآيتين مباشرة، أن العبد إذا تاب من كل الذنوب التي ارتكبها، بما فيها الشرك به، فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه، ويبدله بتلك الذنوب حسنات،


يقول تعالى: { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما } (الفرقان:70) فأوضحت هذه الآية أن التوبةمكفرة للذنوب، بما فيها الشرك، وهو أكبر الذنوب .





وقد وردت كثير منالأحاديث التي تخبر أن مغفرة الذنوب، بما فيها الشرك بالله، متعلقة بالتوبة منها،والإقلاع عنها؛ فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تقول وتدعوا إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فأنزل الله قوله: { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولايزنون } وقوله: { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } رواه البخاري و مسلم .





وهذا الحديث وما شابهه، يخبر أنه سبحانه يغفر جميع ذنوب عباده إذا تابوا منها، ويشير كذلك إلى أن على العبد ألا يقنط من رحمةالله مهما بلغت ذنوبه، فإن باب الرحمة والتوبة واسع ومفتوح .




فآية سورة الفرقان وهذا الحديث وما شابههما، بيَّنا أن قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أنيشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ليس على إطلاقه، وإنما مقيد بالتوبة من الذنوب؛ فإذا تاب العبد منها غفر الله ما كان منه، ولو كان شركًا، أما إذا لم يتب العبد منها، فإن عاقبته تكون ما ذكره سبحانه من الخلود في النار .





والجواب الثاني للجمع بين الآيتين، أن قوله تعالى: { إن الله يغفرالذنوب جميعا } نص عام، خصصته نصوص أخرى تبين أن مغفرة الذنوب متعلقة بالتوبة منها؛يوضح هذا اتفاق المسلمين على أن المشرك إذا مات على شركه، لم يكن مستحقًا للمغفرةالتي تفضل الله بها على عباده، بقوله: { ويغفر ما دونذلك لمن يشاء } .






ثم إن الآية التالية لآية الزمر، تؤكد هذا المعنى؛فقد جاء بعد قوله تعالى: { إن الله يغفر الذنوب جميعا } قوله سبحانه: { وأنيبوا إلىربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب } (الزمر:54) فهذه الآية دعت العباد إلى الرجوع إلى الله، والتسليم والاستسلام له في الأمر كله، لينالوا رضا الله سبحانه،وليأمنوا عذابه .




وهذا الجمع بين الآيتين هو الذي ذهب إليه أغلب المفسرين؛ حيث حملوا قوله تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } على من مات وهو مشرك بالله، ومعنى الآية عندهم: إن الله لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك من الذنوب. وقد جاء في الحديث، أن الله سبحانه يخاطب عباده، قائلاً: ( يا ابن آدم ! إنك لو أتيتني بذنوب كثيرة، ثم لقيتني لا تشركبي شيئًا، لأبدلتك مكانها مغفرة ) رواه الترمذي .

منال
06-30-2008, 07:50 PM
(3)

آيات ظاهرها التعارض


واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها؛ كيف لا وقد قال تعالى في محكم كتابه الكريم: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } (آل عمران:104) والأحاديث الثابتة في ذلك مستفيضة مشهورة .

لكن قد يُشكل على هذا الأصل ما جاء في سورة المائدة من قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } (المائدة:105) فقد يتبادر إلى الذهن أن ثَمَّة تعارض بين آية آل عمران - الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وبين آية المائدة، والتي يدل ظاهرها على لزوم الإنسان أمر نفسه، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، كما قد يفهم منها البعض ذلك، وليس الأمر في الواقع كذلك، وليس ثَمَّة تعارض بين الآيتين، وفيما يلي بيان لما قد يبدو من تعارض:


الآية، وتتأولونها على غير تأويلها: { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا أهتديتم } وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) رواه أصحاب السنن، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .

قال ابن كثير في توجيه آية المائدة: وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان فعل ذلك ممكنًا؛ ثم استدل على هذا التوجيه بالأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنَّه فلا يستجيب لكم ) رواه أحمد .

وإذا كان الأمر كذلك، فلا ينبغي أن يتوهم من هذه الآية أنها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن جميع ذلك واجب بأدلة كثيرة، جاءت بها الشريعة؛ يوضح هذا أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى؛ ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

على أن آية المائدة نفسها تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان ذلك من وجهين:

أولهما: أن قوله تعالى: { عليكم أنفسكم } معناه: ألزموا أنفسكم طاعة الله، وطاعة رسوله؛ ومن طاعة الله وطاعة رسوله القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

والوجه الثاني: أن قوله سبحانه: { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } يفيد أنه إذا تمسكنا بالهدى والتزمناه لم نؤاخذ بضلال من ضل، ولا بكفر من كفر؛ ومن جملة تمسكنا بالهدى، أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فإن ذلك داخل في قوله تعالى: { إذا اهتديتم } وعلى هذا يكون معنى الآية: إذا سلكتم طريق الهداية، ومن جملته أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، حينئذ لا يضركم إعراض المعرضين، ولا ضلال الضالين، فإنه { لا تزر وازرة وزر أخرى } (الإسراء:15) .

ويرشح ما ذكرناه، أن الخطاب في الآية الكريمة إنما جاء بصيغة الجمع: { عليكم أنفسكم } و { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } وليس بصيغة المفرد، فالمخاطبون في الآية هم جماعة المؤمنين، وليست الآية خطاب لأفراد مستقلين .

إذن، فليس في آية المائدة ما يعارض آية آل عمران؛ وليس فيها إطلاقًا ما يفيد أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى والرشاد. بل الذي تفيده عموم أدلة الشريعة - ومنها هذه الآية - وجوب دعوة الآخرين إلى هدى الله وشرعه. فإذا أقامت الأمة شرع الله في نفسها أولاً، تعيَّن عليها أن تدعوا الناس كافة، وأن تحاول هدايتهم .

وهكذا، فكما صحَّح الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه فهمًا معكوسًا لمقتضى آية المائدة، فكذلك نحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذا التصحيح؛ لأن القيام بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد صارت أشق على النفس، وأشد وطئًا

سـمـاح
10-20-2008, 10:53 AM
وصف سبحانه القرآن بأوصاف من صفات الكمال؛ فوصفه بأنه قرآن عربي، وقرآن مبين، وقرآن عظيم، وقرآن حكيم، وقرآن مجيد، وقرآن كريم، وأنه كتاب عزيز، وكتاب حفيظ، وكتاب مكنون، وغير ذلك من الأوصاف التي لم تجتمع لكتاب سماوي غير القرآن، فضلاً عن أن تجتمع في كتاب أرضي .

ومن الأوصاف التي وصف الله بها كتابه المحفوظ أنه { كتاب أحكمت آياته } (هود:1)، فجاء وصف القرآن كله بأنه كتاب (محكم)، ووصفه سبحانه في موضع آخر القرآن بأنه كتاب (متشابه)، وذلك في قوله سبحانه: { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها } (الزمر:23) و{ أحسن الحديث } القرآن، وأخبر سبحانه في موضع ثالث عن القرآن بأن { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } (آل عمران:7) .
وقد يتساءل البعض فيقول: كيف يصف سبحانه كتابه تارة بأنه كتاب محكم، وتارة أخرى بأنه كتاب متشابه، وتارة ثالثة بأن فيه آيات محكمات وفيه آيات متشابهات، أليس في هذا تعارض وتناقض ؟!

قبل الجواب على هذا السؤال، لا بد من الوقوف عند المقصود من كل آية من هذه الآيات الثلاث، ثم نتبع ذلك بمزيد إيضاح، كي يستبين لنا وجه الصواب في معنى هذه الآيات، فيرتفع من - خلال ذلك - ما يبدو بينها من تعارض أو تناقض .

أما قوله تعالى: { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }، فالراجح في معناها: أن (المحكمات) من الآيات، هي ما عُرف تأويله، وفُهم معناه وتفسيره، كقوله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } (المائدة:38)، فهذه الآية تتضمن حكماً واضحاً .

أما (المتشابه) من الآيات، فهي التي تشتبه على فهم كثير من الناس، ولا يزول هذا الاشتباه إلا بردها إلى (المحكم)؛ ويمكن أن يقال فيها: إنها ما لم يكن لأحد إلى علمها سبيل، بل هي مما استأثر الله تعالى بعلمها دون خلقه، كقوله تعالى: { إن الله عنده علم الساعة } (لقمان:34)، وقوله سبحانه: { ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي } (الإسراء:85)، ومن قبيل (المتشابه) أيضاً الحروف المقطعة في أوائل السور .

وأما قوله تعالى: { كتاب أحكمت آياته }، أي: أحكمت آياته في النظم والوضع، وأنه حق من عند الله، لا مدخل لأحد في نظمه ولا في معناه؛ فمعنى (الإحكام) هنا: أنه لا يتطرق إلى آياته تناقض ولا فساد، كإحكام البناء، فإن القرآن نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه، وأحكم أمر الشرائع إحكاماً لا إحكام بعده .

وقوله تعالى: { كتاباً متشابهاً }، أي: يشبه بعضه بعضاً في الصحة والفصاحة والحسن والبلاغة، ويصدق بعضه بعضاً، ويدل بعضه على بعض، فآياته متساوية في ذلك بحسب ما يقتضيه حال كل آية منها، فلا تعارض فيها ولا تناقض بينها ولا اختلاف، بل كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه - حتى في معانيه الغامضة - ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا عن حكيم عليم، بخلاف ما هو حاصل في كلام البشر، فالكاتب البليغ والشاعر المجيد لا يخلو كلام أحدهما من ضعف في بعضه، وأيضاً لا تتشابه أقوال أحد منهما، بل تجد لكل منهما قطعاً متفاوتة في الحسن والبلاغة وصحة المعاني .

إذا تبين المقصود من هذه الآيات، ننعطف على رفع ما يبدو بينها من تعارض، فنقول: إن المراد بـ (المحكمات) في قوله تعالى: { منه آيات محكمات } غير المراد من (المحكم) في قوله سبحانه: { أحكمت آياته }؛ إذ المراد بـ (المحكم) في سورة آل عمران ما لا التباس فيه، ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً، وهو المقابل لـ (المتشابه)؛ أما المحكم في سورة هود، فالمراد منه (الإحكام) في النظم، وأنه كله حق من عند الله، على معنى قوله تعالى: { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } (فصلت:42) .

وأيضاً، المراد من (المتشابه) في قوله سبحانه: { وأخر متشابهات } غير المراد من (التشابه) في قوله سبحانه: { كتاباً متشابهاً }؛ إذ المراد بـ (المتشابه) في سورة آل عمران ما كان من باب الاحتمال والاشتباه، على معنى قوله سبحانه: { إن البقر تشابه علينا } (البقرة:70)، أي: التبس علينا، أي: يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر؛ أما المراد بـ (المتشابه) في سورة الزمر، فالمراد منه التوافق في الوصف، بمعنى أن كله يشبه بعضه بعضاً، ولا يخالف بعضه بعضاً؛ لأن مصدره واحد، هو الله سبحانه، على معنى قوله تعالى: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } (النساء:82) .

وبما تقدم نعلم، أن (الإحكام) و(التشابه) في قوله تعالى: { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }، هما من باب التقابل، أي: أن (المحكم) مقابل لـ (المتشابه)، وبعبارة أخرى: (المحكم) بمثابة الأصل، و(المتشابه) بمثابة الفرع، يقول القرطبي: " فالمحكم أبداً أصل تُردُّ إليه الفروع، والمتشابه هو الفرع "؛ وعليه فـ (المحكم) و(المتشابه) في هذه الآية مصطلحان يندرجان ضمن مباحث أصول الفقه .

أما (المحكم) في قوله سبحانه: { أحكمت آياته }؛ فليس مقابلاً لـ (المتشابه) في قوله تعالى: { كتاباً متشابهاً }، بل كل منهما وصف للقرآن جميعه؛ إذ إحداهما تثبت أن القرآن كتاب (محكم) في النظم، والأخرى تثبت أن القرآن يشبه بعضه بعضاً من جهة اللفظ ومن جهة المعنى، فليس فيه لفظ ضعيف وآخر قوي، وليس فيه معنى بليغ وآخر غير بليغ، بل ألفاظه كلها في غاية الضبط والقوة والإحكام، ومعانيه كله بالغة النهاية في البلاغة والبيان؛ وعليه فـ (المحكم) و(المتشابه) هنا يندرجان في مباحث بلاغة القرآن وإعجازه .

فتحصَّل من مجموع ما تقدم: أن المراد بـ (المحكم) و(المتشابه) الوارد في قوله تعالى: { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات }، غير (المحكم) الوارد في قوله سبحانه: { كتاب أحكمت آياته }، وغير (المتشابه) الوارد في قوله تعالى: { كتاباً متشابهاً }، بل كل وصف من هذه الأوصاف جاء مناسباً للسياق الذي وردت فيه الآية، الأمر الذي ينفي التعارض تماماً بين هذه الآيات .

سـمـاح
10-29-2008, 08:17 PM
وقفة مع قوله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالا}

في سورة التوبة - وتسمى سورة القتال - نقرأ قوله تعالى: { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } (التوبة:41) وفي السورة نفسها في أواخرها، نقرأ أيضًا قوله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } (التوبة:122) وظاهر موضوع الآيتين قد يبدو مختلفًا؛ فالآية الأولى موضوعها الحث على الجهاد، والدعوة إلى المسارعة إليه، في كل حال، وعلى أية صفة؛ في حين أن موضوع الآية الثانية حث طائفة من المؤمنين على التفرغ لطلب العلم، وتعليم الآخرين. ومن جانب آخر، فإن الخطاب في الآية الأولى يتجه خارج نطاق المجتمع المسلم، إذ هو متوجه لعموم المؤمنين لمواجهة المعارضين لدعوة هذا الدين؛ في حين أن الخطاب في الآية الثانية داخل نطاق المجتمع المسلم، إذ هو دعوة للعلم والتعلم والتعليم .

والشيء المهم في الآيتين، والذي يستوقف القارئ، أن ظاهر الآية الأولى صريح في الدعوة العامة للنفير والجهاد في سبيل الله، بينما ظاهر الآية الثانية صريح في دعوة فريق من المؤمنين للتفرغ لطلب العلم، وتعليم غيرهم. ويبدو للوهلة الأولى أن بين الآيتين تعارضًا، فهل ثمة شيء من هذا القبيل ؟

وللإجابة على هذا السؤال، نخصص هذا المقال، والحديث فيه يدور حول جانبين؛ الأول: في معنى الآيتين الكريمتين على وجه الإجمال، والجانب الثاني: حول وجه التوفيق بين الآيتين .

لقد تعددت أقوال أهل التفسير، في معنى قوله تعالى: { انفروا خفافا وثقالا } وحاصل أقوالهم ثلاثة:
القول الأول: أن الآية عامة في خطابها، تدعو المسلمين جميعًا إلى النفير في سبيل الله، لا تستثني منهم أحدًا، وهذا القول هو اختيار شيخ المفسرين الإمام الطبري . ومعنى الآية على هذا القول يكون: إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافاً وثقالاً مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخفة والثقل. وعلى هذا القول، يكون الخطاب في الآية عامًا للمؤمنين في كل زمان ومكان .

القول الثاني: أن عموم الخطاب في الآية مخصوص بأدلة أخرى، وهذا القول هو اختيار القرطبي ، و الرازي ، ورجحه ابن عاشور . ودليل التخصيص على هذا القول، أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك، وقد اتفقوا أنه عليه الصلاة والسلام خلَّف النساء، وخلَّف من الرجال أقوامًا، وذلك يدل دلالة واضحة على أن الخطاب في الآية ليس عامًا، لكنه مخصوص بمن كان صاحب عذر يسمح له بالتخلف عن الجهاد. فلا يقتضي الأمر في الآية - وفق هذا القول - وجوب النفير على كل مسلم، فالعاجز والمريض ونحوهما لا يشملهما الخطاب. وإنما يجري العمل في كل جهاد على حسب ما يقتضيه الحال، وما يقتضيه المقام. والمعنى - وفق هذا القول - وجوب النفير لمن كان من أصحاب النفير، وفي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ( وإذا استنفرتم فانفروا ) رواه البخاري و مسلم .

القول الثالث: أن الآية منسوخة، وهو مروي عن ابن عباس وهو قول محمد بن كعب ، و عطاء . والناسخ عند من قال بهذا القول، قوله تعالى: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } قال القرطبي معقبًا على هذا القول: " والصحيح أنها ليست بمنسوخة " .

أما المعنى العام لقوله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } فالمفسرون في معنى الآية على قولين:

الأول: أن يقال: ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا، ويتركوا رسول الله وحده؛ فالله سبحانه ينهى بهذه الآية المؤمنين به، أن يخرجوا في غزو وجهاد وغير ذلك من أمورهم، ويَدَعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيداً. ولكن عليهم إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لجهاد، أن ينفر معه طائفة من كل قبيلة من قبائل العرب، كما قال الله جل ثناؤه: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } وهذا القول هو أحد الأقوال المروية عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية، وهو قول الضحاك و قتادة . واختاره الطبري .

وأنت إذا أمعنت النظر في هذا القول، تبين لك أنه حصر للآية ضمن نطاق معين، هو نطاق عهد الرسالة؛ وضمن زمان معين، هو زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وموجَّه لأشخاص معينين، هم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وإذا استحضرنا في هذا السياق القاعدة التفسيرية القائلة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، تبين لنا مدى قرب هذا القول من الصواب أو بعده عنه .

القول الثاني: أن الخطاب في الآية ليس على عمومه، وإنما خاص بأهل العلم، الذي فرَّغوا أنفسهم لطلب العلم وتعليم الآخرين، وتكون مهمة هؤلاء تعليم المجاهدين بعد عودتهم ما فاتهم من تحصيل للعلم، أثناء فترة نفرهم وجهادهم. وهذا القول مال إليه القرطبي ، ونصره ابن عاشور بقوة، ووهَّن قول من قال بخلافه. ووجَّه أصحاب هذا القول معنى الآية، فقالوا: إن الجهاد ليس فرض عين على كل مكلف، وإنما هو فرض على الكفاية؛ إذ لو نفر كل المكلفين للجهاد، لضاع مَن وراءهم من الأهل والأولاد، وإذا كان الأمر كذلك، فالمطلوب أن يخرج فريق من المؤمنين للجهاد والدعوة في سبيل الله، ويقيم فريق آخر يتفقهون في دين الله، ويحفظون من ورائهم الأنفس والأعراض والأموال، حتى إذا عاد المجاهدون من جهادهم، علَّمهم المقيمون ما تعلموه من أحكام الشرع .


هذا حاصل معنى الآيتين الكريمتين؛ أما التوفيق بينهما، فيقال:
إن العودة إلى قراءة الآيتين الكريمتين، ضمن السياق الذي وردتا فيه، يساعدنا على فهم الآيتين فهمًا مستقيمًا وسليمًا، ويكشف لنا مزيدًا من الوضوح لمعنى الآيتين، ويدفع بالتالي القول بوجود تعارض بينهما .
فقوله تعالى: { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } ورد بعدما تقدمه من آيات، تذم وتتوعد من تخلف أو تقاعس عن الجهاد في سبيل الله، وهي الحال التي كان عليها المنافقون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول تعالى مخاطبًا وذامًا ومتوعدًا من سلك هذا المسلك: { يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير * إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم } (التوبة:38) ثم جاء بعد هذه الآيات مباشرة، قوله تعالى: { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } فالآية هنا تحثُّ كل المؤمنين، وكل من كان من أهل الجهاد، أن ينفر لنصر دين الله وتأييده، ولا يَسَعُ أحد أن يتخلف عن إجابة هذا النداء، إلا من كان صاحب عذر؛ ثم لا بد هنا من اعتبار الظرف الذي نزلت فيه الآية الكريمة، إذ دعوة الإسلام كانت حينئذ قد دخلت مرحلة بناء دولتها عمليًا، وتثبيت أركانها واقعيًا، وذلك بعد أن تم بناء الدعوة عقديًا وفكريًا، ثم ما تلا ذلك من مرحلة المواجهة والمدافعة لأعداء هذا الدين. فكان المقام يستدعي أن يكون الخطاب بهذه القوة، وبهذا العموم، فجاء الخطاب على ما ترى، خطابًا عامًا، وخطابًا مباشرًا لجماعة المؤمنين .
فإذا انتقلنا إلى الآية الأخرى، وهي قوله تعالى: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } وجدنا أن الآية الكريمة وردت بعد قوله تعالى: { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } (التوبة:120) وإذ كانت هذه الآية قد حرَّضت فريقًا من المسلمين على الالتفاف حول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد لنشر دعوة الإسلام، كان من المناسب أن يذكر عقبها ضرورة نفر فريق من المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم للتفقه في الدين ليكونوا مرشدين لأقوامهم الذين دخلوا في الإسلام. إذ قد كان من مقاصد الإسلام بث علومه وآدابه بين الأمة، وتكوين جماعات قائمة بعلم الدين، وساعية لبثه ونشره في جماعة المسلمين؛ كي تصلح سياسة الأمة على ما قصده الدين منها. من أجل ذلك عقب التحريض على الجهاد بما يبين أن ليس من المصلحة تفرغ المسلمين كلهم للجهاد، بل لا بد من وجود طائفة ترابط على الجبهة العلمية، مقابلة للطائفة المرابطة على الجبهة العملية .

وأيضًا أرشد السياق إلى أن حظ القائم بواجب العلم والتعليم ليس أقل من حظ الغازي في سبيل الله، من حيث إن كليهما يقوم بعمل يقصد به تأييد هذا الدين ونصره، فهذا يؤيده بنشر سلطانه، وتكثير أتباعه؛ وذاك ينصره بتثبيت دعائمه، وتشيد بنيانه، وإعداد أتباعه، عقديًا وفكريًا؛ إذ إن ما تقوم به جهات العلم والتعليم في الأمة، تسهم إسهامًا بارزًا في انتظام أمر هذا الدين، وضمان بقائه، ودوام ظهوره على الدين كله .

يرشد لهذه المعاني، ما ورد في سبب نزول هذه الآية، فيما روي عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية: { إلا تنفروا يعذبكم عذاباً أليماً } { وما كان لأهل المدينة } قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد صلى الله عليه وسلم، ولم ينفروا معه، وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم، فأنزل الله عز وجل: { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } .
وعليه، فإذا كان الخروج للجهاد في سبيل إعلاء كلمة هذا الدين واجبًا؛ لأن في تركه إضاعة مصلحة الأمة، كان تركه من طائفة من المسلمين، تفرغًا للعلم والتعليم واجبًا بالمقابل؛ لأن في توجه جميع المسلمين للجهاد إضاعة مصلحة للأمة .

وإذا كان الأمر على ما ذكرنا، تحصَّل في الجمع والتوفيق بين الآيتين، أن يقال: إن النفر والجهاد - في الحالة الطبيعية للمجتمع المسلم - واجب على الكفاية، لا على التعيين، أي: واجب ومتعين على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي من مشروعية الجهاد؛ وبالمقابل فإن تركه متعين على طائفة كافية لتحصيل المقصد الشرعي، بما أمروا بالاشتغال به من العلم والتثقيف للأمة في وقت اشتغال الطائفة الأخرى بالجهاد ونشر الدعوة. وبهذا يستقيم - إن شاء الله - فهم الآيتين الكريمتين، ويتضح معناهما ومقصودهما، ويلتئم الجمع والتوفيق بينهما .

عزام
10-29-2008, 08:44 PM
اخت سماح
بارك الله فيك على هذا الجهد .. لكن احب ان اعرف ما هو مصدرك؟
الغريب اني قرأت تفسيرا مغايرا في الظلال لم يشر اليه التفسير الذي نقلته
لذا اسأل الاخوة مقاوم وطرابلسي عن ترجيحهم في الموضوع؟
عزام

(وما كان المؤمنون لينفروا كافة , فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة , ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون). .
ولقد وردت روايات متعددة في تفسير هذه الآية , وتحديد الفرقة التي تتفقه في الدين وتنذر قومها إذا رجعت إليهم . . والذي يستقيم عندنا في تفسير الآية:أن المؤمنين لا ينفرون كافة . ولكن تنفر من كل فرقة منهم طائفة - على التناوب بين من ينفرون ومن يبقون - لتتفقه هذه الطائفة في الدين بالنفير والخروج والجهاد والحركة بهذه العقيدة ; وتنذر الباقين من قومها إذا رجعت إليهم , بما رأته وما فقهته من هذا الدين في أثناء الجهاد والحركة . .
والوجه في هذا الذي ذهبنا إليه - وله أصل من تأويل ابن عباس - رضي اللّه عنهما - ومن تفسير الحسن البصري , واختيار ابن جرير , وقول لابن كثير - أن هذا الدين منهج حركي , لا يفقهه إلا من يتحرك به ; فالذين يخرجون للجهاد به هم أولى الناس بفقهه ; بما يتكشف لهم من أسراره ومعانيه ; وبما يتجلى لهم من آياته وتطبيقاته العملية في أثناء الحركة به . أما الذين يقعدون فهم الذين يحتاجون أن يتلقوا ممن تحركوا ,لأنهم لم يشاهدوا ما شاهد الذين خرجوا ; ولا فقهوا فقههم ; ولا وصلوا من أسرار هذا الدين إلى ما وصل إليه المتحركون وبخاصة إذا كان الخروج مع رسول اللّه - [ ص ] - والخروج بصفة عامة أدنى إلى الفهم والتفقه .
ولعل هذا عكس ما يتبادر إلى الذهن , من أن المتخلفين عن الغزو والجهاد والحركة , هم الذين يتفرغون للتفقه في الدين ! ولكن هذا وهم , لا يتفق مع طبيعة هذا الدين . . إن الحركة هي قوام هذا الدين ; ومن ثم لا يفقهه إلا الذين يتحركون به , ويجاهدون لتقريره في واقع الناس , وتغليبه على الجاهلية , بالحركة العملية .
والتجارب تجزم بأن الذين لا يندمجون في الحركة بهذا الدين لا يفقهونه ; مهما تفرغوا لدراسته في الكتب - دراسة باردة ! - وأن اللمحات الكاشفة في هذا الدين إنما تتجلى للمتحركين به حركة جهادية لتقريره في حياة الناس ; ولا تتجلى للمستغرقين في الكتب العاكفين على الأوراق !
إن فقه هذا الدين لا ينبثق إلا في أرض الحركة . ولا يؤخذ عن فقيه قاعد حيث تجب الحركة . والذين يعكفون على الكتب والأوراق في هذا الزمان لكي يستنبطوا منها أحكاماً فقهية "يجددون" بها الفقه الإسلامي أو "يطورونه" - كما يقول المستشرقون من الصليبيين ! - وهم بعيدون عن الحركة التي تستهدف تحرير الناس من العبودية للعباد , وردهم إلى العبودية للّه وحده , بتحكيم شريعة اللّه وحدها وطرد شرائع الطواغيت . . هؤلاء لا يفقهون طبيعة هذا الدين ; ومن ثم لا يحسنون صياغة فقه هذا الدين !
إن الفقه الإسلامي وليد الحركة الإسلامية . . فقد وجد الدين أولاً ثم وجد الفقه . وليس العكس هو الصحيح . . وجدت الدينونة للّه وحده , ووجد المجتمع الذي قرر أن تكون الدينونة فيه للّه وحده . . والذي نبذ شرائع الجاهلية وعاداتها وتقاليدها ; والذي رفض أن تكون شرائع البشر هي التي تحكم أي جانب من جوانب الحياة فيه . . ثم أخذ هذا المجتمع يزاول الحياة فعلاً وفق المبادئ الكلية في الشريعة - إلى جانب الأحكام الفرعية التي وردت في أصل الشريعة - وفي أثناء مزاولته للحياة الفعلية في ظل الدينونة للّه وحده , واستيحاء شريعته وحدها , تحقيقاً لهذه الدينونة , جدت له أقضية فرعية بتجدد الحالات الواقعية في حياته . . وهنا فقط بدأ استنباط الأحكام الفقهية , وبدأ نمو الفقه الإسلامي . . الحركة بهذا الدين هي التي أنشأت ذلك الفقه , والحركة بهذا الدين هي التي حققت نموه . ولم يكن قط فقها مستنبطاً من الأوراق الباردة , بعيداً عن حرارة الحياة الواقعة ! . . من أجل ذلك كان الفقهاء متفقهين في الدين , يجيء فقههم للدين من تحركهم به , ومن تحركه مع الحياة الواقعة لمجتمع مسلم حي , يعيش بهذا الدين , ويجاهد في سبيله , ويتعامل بهذا الفقه الناشئ بسبب حركة الحياة الواقعة .
فأما اليوم . . "فماذا" . . ? أين هو المجتمع المسلم الذي قرر أن تكون دينونته للّه وحده ; والذي رفض بالفعل الدينونة لأحد من العبيد ; والذي قرر أن تكون شريعة اللّه شريعته ; والذي رفض بالفعل شرعية أي تشريع لا يجيء من هذا المصدر الشرعي الوحيد ?
لا أحد يملك أن يزعم أن هذا المجتمع المسلم قائم موجود ! ومن ثم لا يتجه مسلم يعرف الإسلام ويفقه منهجه وتاريخه , إلى محاولة تنمية الفقه الإسلامي أو "تجديده" أو "تطويره ! " في ظل مجتمعات لا تعترف ابتداء بأن هذا الفقه هو شريعتها الوحيدة التي بها تعيش . ولكن المسلم الجاد يتجه ابتداء لتحقيق الدينونة للّه وحده ; وتقرير مبدأ أن لا حاكمية إلا للّه , وأن لا تشريع ولا تقنين إلا مستمداً من شريعته وحدها تحقيقاً لتلك الدينونة . .
إنه هزل فارغ لا يليق بجدية هذا الدين أن يشغل ناس أنفسهم بتنمية الفقه الإسلامي أو "تجديده" أوتطويره في مجتمع لا يتعامل بهذا الفقه ولا يقيم عليه حياته . كما أنه جهل فاضح بطبيعة هذا الدين أن يفهم أحد أنه يستطيع التفقه في هذا الدين وهو قاعد , يتعامل مع الكتب والأوراق الباردة , ويستنبط الفقه من قوالب الفقه الجامدة ! . . إن الفقه لا يستنبط من الشريعة إلا في مجرى الحياة الدافق ; وإلا مع الحركة بهذا الدين في عالم الواقع .
إن الدينونة للّه وحده أنشأت المجتمع المسلم ; والمجتمع المسلم أنشأ "الفقه الإسلامي" . . ولا بد من هذا الترتيب . . لا بد أن يوجد مجتمع مسلم ناشى ء من الدينونة لله وحده , مصمم على تنفيذ شريعته وحدها . ثم بعد ذلك - لا قبله - ينشأ فقه إسلامي مفصل على قد المجتمع الذي ينشأ , وليس "جاهزا" معدا من قبل ! ذلك أن كل حكم فقهي هو - بطبيعته - تطبيق للشريعة الكلية على حالة واقعة , ذات حجم معين , وشكل معين , وملابسات معينة . وهذه الحالات تنشئها حركة الحياة , داخل الإطار الإسلامي لا بعيدا عنه , وتحدد حجمها وشكلها وملابساتها ; ومن ثم "يفصل" لها حكم مباشر على "قدها" . . فأما تلك الأحكام "الجاهزة " في بطون الكتب ; فقد "فصلت" من قبل لحالات معينة في أثناء جريان الحياة الإسلامية على أساس تحكيم شريعة الله فعلا . ولم تكن وقتها "جاهزة " باردة ! كانت وقتها حية مليئة بالحيوية ; وعلينا اليوم أن "نفصل" مثلها للحالات الجديدة . . ولكن قبل ذلك يجب أن يوجد المجتمع الذي يقرر ألا يدين لغير اللّه في شرائعه ; وألا يفصل حكما شرعيا إلا من شريعة الله دون سواها .
وفي هذا يكون الجهد الجاد المثمر , اللائق بجدية هذا الدين . وفي هذا يكون الجهاد الذي يفتح البصائر ; ويمكن من التفقه في الدين حقا . . وغير هذا لا يكون إلا هزلا ترفضه طبيعة هذا الدين ; وإلا هروبا من واجب الجهاد الحقيقي تحت التستر بستار "تجديد الفقه الإسلامي" أو "تطويره" ! . . هروب خير منه الاعتراف بالضعف والتقصير ; وطلب المغفرة من الله على التخلف والقعود مع المتخلفين القاعدين !

سـمـاح
10-30-2008, 05:28 AM
السلسلة وجدتها في موقع (الشبكة الإسلامية) (http://www.islamweb.net/ver2/archive/readArt.php?lang=A&id=106657)

سـمـاح
11-03-2008, 04:29 PM
خصوص الذنب وعموم العقاب




في القرآن الكريم آيات كثيرة ترشد إلى أن الإنسان لا يتحمل عقاب ذنب فعله إنسان غيره، ولا يحاسب على جرم ارتكبه شخص آخر، من تلك الآيات قوله تعالى: { ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى } (الأنعام:164)، وقوله سبحانه: { كل امرئ بما كسب رهين } (الطور:21)، ونحو ذلك من الآيات التي تقرر هذا المعنى .
بالمقابل ثمة آيات أخرى، تفيد أن العقاب يلحق بمن ليس له يد في فعله أو ارتكابه، نقرأ في ذلك قوله تعالى: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } (الأنفال:25)، ونحو هذا قوله تعالى: { وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا } (الإسراء:16). فهاتان الآيتان تدلان على أن العقاب يعمُّ الناس جميعاً، مع أن الذنب والمعصية لم يكن منهم جميعاً، بل كان من فئة خاصة ومحددة، فئة الظالمين في الآية الأولى، وفئة المترفين في الآية الثانية .
وقد يبدو للقارئ العَجِل أن بين هذه الآيات تعارضاً وتناقضاً، من جهة أن بعضها يخصص العقاب بفاعل الذنب فحسب، والبعض الآخر يعمم العقاب على الفاعلين وعلى غير الفاعلين، وذلك لا يستقيم في شرائع البشر، فكيف يستقيم في شريعة خالق البشر؟ هذا وجه التعارض بين الآيات الآنفة الذكر .
وقد أجاب أهل العلم على هذا السؤال جواباً يزيل الإشكال، ويرفع ما يبدو من تعارض وتناقض بين تلك الآيات، فقالوا:
إن الأصل في العقاب أن يكون خاصاً، لكن لما كان الناس يعيشون في مجتمع واحد، ويتقاسمون معاً أفراح الحياة وأتراحها، كان عليهم أن يتحملوا المسؤولية الجماعية في بناء هذا المجتمع، ووضعه على مساره الصحيح، فإذا حاول البعض أن يخرق هذا المسار، أو أن يغير من اتجاهه، فإنه يتعين على الآخرين الأخذ على يده، وإعادته إلى جادة الصواب والرشاد، فإذا لم يفعلوا ذلك كان عليهم أن يتحملوا نتيجة ذلك التقصير .
إذن العقاب من حيث الأصل شخصي وفردي وهو جار كذلك، إذا لم يكن للذنب المرتكب تأثير على المجتمع، أما إذا كان الذنب يتعدى حدود الشخص وحدود الفرد، فإن على المجتمع في مثل هذه عليه الحالة أن يتحرك ليحفظ جانبه، ويحمي أمنه، فإن لم يفعل ذلك كان مقصراً، وبالتالي عليه أن يتحمل عاقبة هذا التقصير .
ونمثل لذلك بمثال يقرِّب الأمر، ويوضح المسألة، فنقول: إن الولد إذا فعل فعلاً مضراً بالآخرين، كأن يسب أو يشتم أهل الحي الذي يقيم فيه، أو يسرق بيتاً من بيوت ذلك الحي، أو يفعل شيئاً من هذا القبيل، فلا يمكن والحالة هذه أن نحاسب الولد فحسب، من غير أن نحاسب أباه أيضاً، فإن أباه مشارك له في كل ما فعل، ويتحمل قسطاً من المسؤولية والمحاسبة على فعل ولده؛ لأنه قصر في توجهيه توجيهاً سلمياً، وأهمل تنشئته تنشئة صالحة، وبالتالي كان عليه أن يتحمل جزاء ما قام به ولده، وليس له أن يقول: إن هذا من فعل ولدي، ولا أتحمل جزاء ما فعل .
وعلى هذا النحو يقال فيما نحن بصدده من الآيات، وذلك أن الناس إذا قصَّروا في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذلك مدعاة لعموم العقاب، وسبباً لنـزول العذاب، وليس لهم أن يقولوا: ليس الذنب ذنبنا، وليس من العدل عقابنا؛ لأنا نقول: ما داموا مسلمين، ويعيشون في هذا المجتمع معاً، ويتحملون جزءاً من التبعة والمسؤولية، كان عليهم ألا يدعوا الظالم يتمادى في ظلمه، وألا يتركوا أهل الغيِّ يسترسلون في غيهم، بل عليهم أن يأمروا بكل ما هو معروف، وأن ينهوا عن كل ما هو منكر، فإذ هم لم يفعلوا ذلك، فعليهم أن يتحملوا عاقبة أمرهم .
قال ابن العربي القرطبي مقرراً هذا المعنى: " إن الناس إذا تظاهروا بالمنكر، فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عليه فكلهم عاص. هذا بفعله وهذا برضاه. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضيَ بمنـزلة العامل " .
وهذا المعنى الذي قررناه آنفاً، تشهد له أحاديث عديدة، تشد من أزره، وتأخذ بيده إلى مصافِّ السنن الكونية التي أقام الله عليها أمر الحياة، { ولن تجد لسنة الله تبديلا } (الأحزاب:62) .
فمن تلك الأحاديث التي تؤكد على هذا الواجب الاجتماعي، واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قوله صلى الله عليه وسلم: ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها، إذا استقوا من الماء، مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ) رواه البخاري. ومعنى ( استهموا ): اقترعوا، أي: اقترعوا من يجلس في أعلى السفينة، ومن يجلس في أسفلها .
قال القرطبي بعد أن ساق هذا الحديث: " ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة. وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال علماؤنا: فالفتنة إذا عملت هلك الكل. وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر وعدم التغيير " .
ومنها ما ورد في "الصحيحين" عن زينب بنت جحش رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه فزعاً، وهو يقول: ( لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج... )، قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ( نعم، إذا كثر الخبث )، و( الخبث ): الزنى .
ومنها ما صحَّ عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } (المائدة:105)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يده، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه )، رواه أصحاب السنن إلا النسائي .
ومنها ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحلُّ لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم } (المائدة:78)، إلى قوله: { فاسقون } (المائدة:81)، ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً ) رواه أبو داود. ومعنى ( لتأطرنه ): أي لتحملنه على الحق والصواب، ولو عن غير إرادة منه .
وفي لفظ آخر عند الترمذي: ( والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم )، قال الترمذي: حديث حسن .
وفي مسند الإمام أحمد أن عديًّا رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك، عذَّب الله الخاصة والعامة ) .
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة }، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يُقرُّوا المنكر بين ظهرانيهم، فيعمهم الله بالعذاب. قال ابن كثير معقباً على قول ابن عباس: وهذا تفسير حسن جداً .
وقد يقال أيضاً: إن الآيات التي خصت الجزاء بفاعل الذنب فحسب دون غيره محمولة على عذاب الآخرة، فالأمر يومئذ ينطبق عليه قوله تعالى: { كل امرئ بما كسب رهين }، وينطبق عليه كذلك قوله سبحانه: { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } (انحل:111)، فكل إنسان يوم القيامة، يوم الحساب والجزاء، مرتهن بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر .
أما الآيات التي نصت على عموم العذاب، فمحمولة على العقاب الدنيوي، وينطبق عليها الآيات الناصة على عموم العقاب، كقوله سبحانه: { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون } (الأعراف:96)، وقوله تعالى: { وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } (النحل:112) .
يرشد لهذا المعنى ما ثبت في "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: ( إذا أنزل الله بقوم عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم )، فالعذاب في الدنيا مشترك، أما في الآخرة فالحساب يكون بحسب الأعمال والنيات .
ويرشد له أيضاً ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب جسمه، وتحركت أطرافه في منامه، فقالت: يا رسول الله! صنعت شيئاً في منامك لم تكن تفعله، فقال: ( العجب: إن ناساً من أمتي يؤمون بالبيت برجل من قريش، قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خُسف بهم )، فقلنا: يا رسول الله! إن الطريق قد يجمع الناس، قال: ( نعم، فيهم المستبصر، والمجبور، وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم )، فالمَهْلَك واحد للجميع، أما المرجع والمآب فبحسب الأعمال والنيات .
والمهم في الأمر، أن على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويبذلوا غاية الوسع في القيام بهذا الواجب الاجتماعي، ولا ينبغي أن يَدَعُوا أهل الفساد يمرحون في المجتمع ويسرحون من غير أن يأخذوا على أيديهم، فإن لم يفعلوا ذلك، فإن العذاب لا شك نازل بهم. فهذه سنة الله في الأولين والآخرين { فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا } (فاطر:43) .

سـمـاح
11-08-2008, 04:15 PM
صيغة المبالغة (أظلم) في القرآن

وردت في القرآن في خمسة عشر موضعاً آيات تصف بالظلم من يقوم ببعض الأفعال والأقوال المنهي عنها شرعاً؛ من ذلك قوله تعالى: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } (البقرة:114)، ومنها قوله سبحانه: { ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } (المائدة:140)، ومنها قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته } (الأنعام:21)، ومنها قوله سبحانه: { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها } (الكهف:57)، ومنها قوله سبحانه: { فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه } (الزمر:32) ونحو ذلك من الآيات .

وهذه الآيات جاءت باستعمال صيغة المبالغة (أفعل) وهذه الصيغة تفيد أن الشخص الموصوف بها لا أحد غيره يفوقه في تلك الصفة؛ فأنت إذا قلت: لا أحد أجود من حاتم، فهذا يعني أن حاتماً أجود الناس، ولا يفوقه أحد آخر بهذا الجود؛ وعلى هذا الأسلوب تجري صيغة المبالغة في الأوصاف والأفعال .

والآيات التي صدَّرنا بها الحديث أخبرت بأنواع متفرقة من الأفعال؛ فأخبرت أنه لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه؛ وأخبرت أنه لا أحد أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله؛ وأخبرت أنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً؛ وأخبرت أنه لا أحد أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربه فأعرض عنها؛ وأخبرت أنه لا أحد أظلم ممن كَذَب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه، وعلى هذا المنحى أخبرت باقي الآيات التي جاءت على هذه الصيغة .

وقد يبدو للقارئ أن ثمة تعارضاً بين هذه الآيات؛ وذلك أن كل آية من هذه الآيات أخبرت عمن وصفته بأنه ( أظلم )، وهذا يقتضي أن المتصف بذلك الوصف أظلم من غيره؛ فمثلاً الآية الأولى أخبرت أن من يمنع العبادة في مساجد الله هو أظلم الناس، وهذا الإخبار قد يُفهم منه أنه لا أحد أظلم ممن يقوم بهذا الفعل، وهذا بحسب ما تقتضيه صيغة المبالغة ( أفعل )؛ ومثل ذلك يقال في سائر الآيات الواردة على هذه الشاكلة .

ولا شك أن نفي أن يكون أحد أظلم ممن يمنع مساجد الله أن يُعْبَدَ الله فيها، يعارضه الذي يفتري على الله الكذب، ويعارضه الذي يكتم شهادة عنده من الله، ويعارضه الذي يُعرض عن ذكر الله، ويعارضه كل ما جاء في تلك الآيات التي سيقت هذا المساق؛ إذ كل آية من هذه الآيات توهم التعارض مع غيرها من الآيات التي تصف بعض الناس بأنه (أظلم) مَن يقوم بهذا الفعل المذكور فيها. هذا وجه الإشكال الذي قد يبدو للبعض بين هذه الآيات .

وقد أعرض أكثر المفسرين عن هذا الإشكال، ولم يولوه اهتماماً، وربما لم يجدوا فيه إشكالاً يستحق الوقوف عنده، وتعرض إليه بعض المفسرين، ك أبي حيان و الآلوسي .
وكان ممن تعرض لهذا الإشكال، وتوقف عنده الزركشي في كتابه "البرهان"، حيث نقل أجوبة المفسرين عليه، واختار قولاً مال إليه، ونحن نلخص الأجوبة التي ذكرها في هذا الصدد على النحو التالي:
الجواب الأول: أن صيغة المبالغة (أظلم) الواردة في هذه الآيات وأمثالها مخصصة من عموم السياق الذي وردت فيه؛ فقوله تعالى: { ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه } مخصص من عموم المانعين - المانعين لكل حق - فيكون أظلم المانعين من منع ذكر الله .

وكذلك الأمر في قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا }، معناه أن أظلم المفترين والكاذبين من يفتري على الله كذباً، وكأنه قيل: لا أحد من المفترين (عموم المفترين) أظلم ممن افترى على الله كذباً. فصيغة المبالغة (أظلم) في الآية مخصصة من مطلق المفترين .
وعلى هذا المنحى (التخصيص) من العموم تفهم سائر الآيات التي جاءت على هذه الشاكلة؛ وبالتالي لا يكون ثمة تعارض مع غيرها من الآيات .


الجواب الثاني: أن صيغة المبالغة (أظلم) في كل آية من تلك الآيات خاصة بأول من قام بالفعل الذي جاء ذمُّه في كل آية؛ إذ لمَّا لم يسبق أحد إلى مثل ذلك الفعل، حُكم عليهم بأنهم (أظلم) ممن جاء بعدهم، سالكاً طريقتهم؛ فصيغة المبالغة (أظلم) في آية المانعين مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، تعني بحسب هذا الجواب، أن من سبق إلى هذا المنع من عموم المانعين، هو أظلمهم؛ وكذلك الأمر في صيغة المبالغة (أظلم) في آية المفترين على الله كذباً، فإن أظلمهم من بدأ بهذا الافتراء، وسبق غيره ممن جاء بعده، وبهذا لا يكون تعارض أيضاً بين الآيات؛ لأن صيغة المبالغة (أظلم) في كل آية من تلك الآيات تتحدث عن الأسبقية الزمنية لذلك الفعل، كالمنع، والافتراء، والإعراض عن ذكر الله .


الجواب الثالث: أن الآيات سيقت مساق الاستفهام، والاستفهام فيها ليس على سبيل الحقيقة، وإنما على سبيل الاستعارة؛ لبيان عظم تلك الأفعال، وبالتالي لا يتعارض ذلك مع كون غيره أظلم منه إن فُرض ذلك، وكثيراً ما يستعمل هذا في كلام العرب، بقصد تهويل الأمر وتعظيمه، فيقال مثلاً: أي شيء أعظم من الزنى؛ وأي شيء أعظم من شرب المسكر. فقائل ذلك يقصد بيان عظم الإتيان بتلك الأفعال، ولا يقصد أن تلك الأفعال هي الأعظم، وأنه لا يوجد أعظم جُرماً منها، ولو قيل للمتكلم بذلك: أنت قلت: إن الزنى وشرب المسكر أعظم الأشياء لأبى ذلك .

وهذا الجواب الثالث هو الذي ارتضاه الزركشي ، وقال بعد أن ساقه: فليُفهم هذا المعنى، فإن الكلام ينتظم معه، والمعنى عليه .
ثم إن أبا حيان الأندلسي في تفسيره "المحيط" قد أجاب على هذا الإشكال جواباً غير الذي تقدم، حاصله: أن كل آية من هذه الآيات أثبتت صفة (الظلم) بصيغة المبالغة لمن وصفتهم، فيكون الجميع مشتركين في هذا الوصف (أظلم)، ولا يعني ذلك أن يكون أحدهم أقل أو أكثر ظلماً من الآخر؛ غاية ما تعنيه الآيات أن هؤلاء المذكورين هم (أظلم) من غيرهم .
قال الألوسي : " وقصارى ما يفهم من الآيات (أظلمية) أولئك المذكورين فيها ممن عداهم؛ كما أنك إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وو خالد ، لا يدل على أكثر من نفي أن يكون أحد أفقه منهم "، ولا يدل ذلك على أن أحدهم أفقه من الآخر .

على أن مما ينفي وجود تعارض بين هذه الآيات وما شاكلها، أنها واردة في الكفار، فهم متساوون في (الظلم)، وإن اختلفت طرق ظلمهم، فكلها مؤدية إلى الكفر، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة للكفار، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم، وللعصاة من المؤمنين، من جهة اشتراكهم فيه، فنقول: الكافر أظلم من المؤمن، ونقول: لا أحد أظلم من الكافر، ومعناه: أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره من عصاة المؤمنين .

وبما تقدم يتبين أن الآيات موضوع الحديث، وإن وردت كلها بصيغة المبالغة (أظلم): { ومن أظلم }، و{ فمن أظلم }، إلا أن هذه الصيغة - كما يقول أهل اللغة - ليست على بابها، وإنما المراد منها بيان عِظَم تلك الأفعال. وبهذا ينتفي أن يكون تعارض بين تلك الآيات .