تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أصدق ما قد ننطق به أمي



مراسلو الرابطة
06-25-2008, 04:06 AM
مراسلو الرابطة
صرخة قلم- 21/6/2008 ، مراسلو الرابطة




أصدق ما قد ننطق به
"أمي"



عرفتها الأشعار وتعودت على جمالها، وغنتها الأنغام فعذُبت بذكرها، ووصفت أعمالها الكلمات فعَلت بمقامها، ونطق بها الطفل في أول رحلته نحوالكلام فكسب قبلة من ثغرها، وأعطاها الإسلام حقها فقال أمك أمك أمك وفاء لتقديماتها.

إن قلت عاطفة حنانأً رعاية، قلت أمّ، إن قلت تربية تضحية دموعاً، قلت أم، إن غضبت إن تعبت إن فرحت إن نجحت قلت أمي... فمن ليس له أم إلى من يذهب وإلى من ينطق باسمها؟ ومن فقدها أو خسرها لا بد أن يعود ليراها صورة محفورة في باله وشخصية حفرت انجازاتها في قلبه وعقله، سيراها في تصرفاته وحركاته وكلماته سيرى عيونها فيه فقد كان عيونها.

أحببت أن أفتتح مقالي بهذه الكلمات لما تحمله من معان إلى أبي محمود، ولما جسّده في قصته، رغم أنها تجسد قصص الكثيرين وذكرياتهم.
أبومحمود رجل ستينيٌ العمر، جلسنا نقلب صفحات التاريخ القديمة معاً، نستفسر عن كل صورة في ألبوم صور كبير جمعه بعد رحيله عن دار أمه، ورحيلها عن دار الدنيا...

طفولة وحي وجيران
فتحنا مجلد الصور... فكانت الصورة الأولى لشاب صغير يمسك بذيل ثوب أمه... نظر إليها أبومحمود بعمق محاولاً استجماع رحيق أمه الذي زال عن الثوب الذي كان يمسك بذيله بقوة، لكنه لم يرحل من قلبه ووجدانه...

نظرت في عينيه فلمحت فيهما دمعاً يتلالأ كحبات ثمينة تساوي جنى العمر الذي حصده في غربته الطويلة... وبين الصور ارتسمت صورة أخرى، ولكن هذة المرة لباب دار أمه فتذكر معه أحلام الطفولة التي عاشها "بشقاوة" مع أبناء الحي والجيران...

أمي
وعندما سألناه عمّا يتذكرعن والدته قال بصوت جريح، "أذكر قوة شخصيتها!" فقد كانت ملكة الدار وسيدته. كنا ثمانية أبناء "أشقياء" وكانت هي من تحمل مسؤليتنا بعد رحيل والدي. كانت هي "الأم والمربية والأب في آن معاً". وأردف "كنت أذكر تهافت الجيران إلى منزلنا لما كانت تقدمه من تقدير للجيرة" مشبهاً منزله بأنه مسرح لكل داخل وخارج! ثم تمتم بوصف مبدع عن أمه قائلا "كانت ذات رصانة لم أعرف لها مثيلاً، وكانت تملك روحاً قيادية لم أستلذ بحلاوتها إلا بعد رحيلها".


http://i25.tinypic.com/2ewfez9.jpg


مراهقة.... أبواب الشباب:
كان موعدنا بأرشيف صور أبي محمود مع سيارة قديمة الطراز، ابتاعها بعد أن جمع ثمنها من كد بدأ منذ كان في الثالثة عشر من عمره.. عن هذه الصورة تحدث أبومحمود: "أذكر يومها أني أخذت السيارة وتنزهت بها في جونية، وبعد ساعات من اللهو مع الأصدقاء عدت أدراجي إلى المنزل... وليتني لم أعد"! وعندما سألناه عن السبب قال " كانت أمي تقف عند الباب تترقب وصولي وبيدها "شحاطة" (نعال) انهالت بها عليّ بالضرب المبرح، فبت ليلتي خارج المنزل وتحديداً عند باب الدار..."

رحيل الغالية....
لم أتجرأ على سؤاله.. كنت أخاف من حزنه المفرط... فتجنبت سؤاله، ولكنّ الحديث استدرجنا إلى لحظات الوفاة التي لم يحضرها أبومحمود.. فقد كان "غارقاً في ثلاثين عاماً من الغربة" بعيداً عن الأم والوطن والعائلة.. وبكلمات موجزات قال: "لا أنس حتى اليوم تاريخ مماتها الذي لم ألحقه ولم أحضره لأودعها"، وأضاف: كل ما أطلبه نظرة إلى وجهها النضر، وقبلة بين عينيها حرمتني وحرمتها إياها ثلاثون عاماً!"

بعيداً عن ذكريات أبي محمود وألبوم صوره الذي جمع أجمل مافي طفولته وشبابه، تحدثنا إلى عمر، وهوشاب لبناني مغترب من بيروت، يبلغ من العمر 26 ربيعاً، قصد الولايات المتحدة الأميركية بغرض الدراسة وتحقيق فرصة العيش الكريم، فابتعد مجبراً عن أمه. لكنه ظل يحمل في قلبه ذكريات عن همساتها وحنانها الصادق... سألنا عمر عن أمه. تُرى ماذا قال عنها؟ وإلى أين رجعت به الذاكرة؟


أمي...
عن صفات أمه تحدث عمر... وما أصعب أن يتحدث المرء عن أمه وهي بعيدة عنه.. لم نستطع أن نرصد تعابير وجهه ودلالاتها، لكننا استطعنا أن نستنبط من انفعال الكلمات التي كان يكتبها كثيراً من التقدير والحنين.. قال عنها "هي عصبية... لكني لا أذكر أنها تعصّبت يوماً علي!" وعن حنانها: "كانت تتمتع أمي بحنيّة عالية وقد تطبعتُ بطباعها" كما أردف قائلاً: "أمي كانت تعاتبني عندما كنت أتأخر في رجوعي إلى البيت" وعن لحظات بكاء أمه قال: "رأيت دموع أمي أكثر من مرة... كنا "انعزبها" كثيراً في المنزل" وعن اللحظات الأكثر تأثراً في حياة عمر " لحظات توديعها لي واستقبالها لي بعد رجوعي" لحظات مكللة بالدمع والاشتياق، رفض عمر التحدث عنها لما تحمله من معان له....

قرار السفر...
بعد أن اتصف حديثنا بكثير من الليونة وجموح الخيال، رجعنا بعمر للحظات قراره السفر، الذي لقي رفضاً من الأهل، لكنهم مع الوقت قبلوا بسفره للدراسة... وعن كيفية قبولهم لقراره هذا قال "كنت أشعر أن أمي تقتنع مني بسرعة"...

ويبقى لكل منا حكاية وحنين، فبين حكايات أبي محمود القديمة عن أمه، وبين كلمات عمر وحنينه إلى والدته، تترسم صور فيها من المعاني ما تدمع لها العين وتترقرق الأنظار شغفاً وحباً زُرع فينا فتوّجناه بمرصعات من الماس والذهب.....


http://i26.tinypic.com/dqmypl.jpg

فليحمل كل منا هدية لفرح أمه...

وأغلى ما قد نقدمه هوقلب ينبض عشقاً لها.. وكلمات صادقة كعيونها ومعاملة نحظى من خلالها برضاها فترضى والله يرضى.