تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أصل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين



عزام
05-26-2008, 05:05 PM
أصل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين

د. عثمان جمعة ضميرية(* )
[email protected]
من الظواهر التي يلاحظها المتابعون للأحداث السياسية والفكرية في حياتنا المعاصرة: كثرة الندوات والمؤتمرات الوطنية والإقليمية والدولية التي يشارك فيها المسلمون وغير المسلمين، أو ينفرد بعقدها أحد الطرفين دون الآخر. ولن نقف هنا لنبدي رأياً في مثل هذه المؤتمرات والدوافع الكامنة وراءها والفائدة المترتبة عليها. وإنما نشير إشارة عابرة إلى المنهج الذي ينهجه المؤتمرون والمتحدِّثون؛ ففي مثل هذه الندوات والحوارات كثيراً ما يقف المتحدث موقف المدافع عن الإسلام، فيلجأ إلى التسويغ أمام بعض الهجمات المغرضة على الإسلام والمسلمين، وقد يدفعه ذلك إلى شيء من التكلّف والتمحُّل في تفسير النصوص وتعليل الحوادث والوقائع، أو تبنِّي بعض الآراء التي قد لا تتفق مع ما هو مقرر في الأحوال العادية أو مع ما يمكن قوله فيها. ولو أردت أن أضرب بعض الأمثلة على ذلك لوجدتها في هذا الاهتمام الكبير بالحوار، في الوقت الذي يقوم فيه الطرف الآخر بالهجوم علينا من كل جهة ومحاربتنا بكل وسيلة مع التظاهر بالدعوة إلى الحوار والتسامح والانفتاح... ومن الأمثلة أيضاً: ما ذهب إليه بعض الأساتذة والباحثين في تقرير الأصل في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، وتقسيم العالم إلى دار الإسلام ودار الحرب، والكلام على دار العهد وطبيعتها.
ونعرض في هذه المقالة قضيةً واحدة من هذه القضايا التي انتشر القول فيها يميناً ويساراً، حسب المنهج والدوافع، وهي: القاعدة العامة أو الأصل العام في علاقة دار الإسلام بدار الحرب (الدولة الإسلامية بالدولة غير المسلمة). فالبحث محصور في هذا الجانب دون الجوانب الأخرى كالعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين الذين يعيشون على أرض الدولة الإسلامية. ونبيّن أولاً معنى كلمة الأصل ليتحرَّر البحث، ثم نتبع ذلك بفقرات موجزة لبيان المسألة والآراء فيها، لنصل إلى ما نراه صواباً موافقاً للأدلة الشرعية، بغض النظر عن حال الضعف التي تسيطر على الأمة الإسلامية، فتجعل القول الصواب وكأنه خطأ أو محض خيال. والله المستعان، وبه التوفيق.
* أولاً: معنى كلمة الأصل:
تطلق كلمة «الأصل» في اللغة العربية على معنيين:
(أحدهما): أساس الشيء الذي يبنى عليه غيره، من حيث أنه يبتنى عليه، بناء حسيّاً أو معنوياً.
(والثاني): منشأ الشي، أو ما أُخذ منه الشيء مثل: القطن أصل المنسوجات؛ لأنها تنشأ منه وتؤخذ. ثمَّ كثر استعماله حتى قيل: أصلُ كلِّ شيء: ما يستند ذلك الشيء إليه؛ فالأب أصل للولد، والنهر أصل للجدول. كما يطلق أيضاً على ما يتوقف عليه الشيء، وعلى المبدأ في الزمان، أو على العلة في الوجود(1).
ثمَّ نقل علماء الشريعة كلمة «الأصل» إلى معانٍ أُخَر، مشتركاً اصطلاحياً، فأصبح يطلق بإطلاقات متعددة وهي:
أ - الأصل بمعنى الدليل. وهذا ما تعارف عليه الفقهاء والأصوليون؛ حيث يقولون: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة. أي: دليلها.
ب - الأصل بمعنى الراجح، أي: الأَوْلى والأحرى من الأمور. مثل قولهم: الأصل في الكلام الحقيقة». أي: الراجح عند السامع هو المعنى الحقيقي دون المعنى المجازي، وقولهم: الكتاب أصل بالنسبة إلى القياس. أي: راجح.
ج - الأصل بمعنى المقيس عليه الذي يقابل الفرع في القياس، كما في قولهم: الخمر أصل النبيذ، بمعنى أن الخمر مقيس عليها والنبيذ مقيس.
د - الأصل بمعنى القانون والقاعدة الكلية التي تُرَدُّ إليها الضوابط والاستثناءات، وتتفرع عنها الأحكام.
هـ ـ الأصل بمعنى المستصحَب، فيقال لمن كان متيقناً من الطهارة ويشك في طروء الحدث: الأصل الطهارة. أي: تستصحَب الطهارة حتى يثبت حدوث نقيضها؛ لأن اليقين لا يزول بالشك.
و - الأصل بمعنى القاعدة المستمرة. ومن الأمثلة على هذا المعنى قولهم: أكل الميتة على خلاف الأصل. أي: خلاف الحالة المستمرة والقاعدة العامة(2). ولا ينافي هذه الأصالة أن يتخلف الأصل في موضع أو موضعين.
فهذه المعاني لكلمة الأصل معانٍ اصطلاحية تناسب المعنى اللغوي؛ فإن المدلول له نوع ابتناء على الدليل، وفروع القاعدة مبنيَّة عليها، وكذا المرجوح كالمجاز مثلاً له نوع ابتناء على الراجح، وكذا الطارئ بالقياس إلى المستصحب.
والذي نريده في هذا المقام هو المعنى الأخير لكلمة «الأصل» وهو القاعدة المستمرة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن كلمة «الأصل» بإطلاقاتها ومعانيها لا تعني حكماً تكليفياً من الوجوب والحرمة... فإذا قلنا: الأصل في العلاقة بين المسلمين والحربيين هو الحرب أو السلم أو الدعوة، فإن هذا لا يعني أننا نصدر حكماً تكليفيّاً على هذه العلاقة بأنه واجب أو حرام مثلاً. وإنما نبيِّن فقط القاعدةَ العامة التي تحكم هذا العلاقة والصِّلات بين المسلمين وغيرهم من الأمم والدول غير المسلمة.
* ثانياً: أصل العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين:
ونبدأ بذكر نبذة مما جاء في كتاب «السِّير الكبير» للإمام محمد بن الحسن الشَّيْبَاني ـ وهو أول من أفرد للعلاقات الدولية كتاباً قائماً برأسه، وهو أبو القانون الدولي في العالم ـ لنستخلص منها موقفه من هذه المسألة ورأيه فيها لنقارنه بآراء أخرى. قال ـ رحمه الله ـ: «وإذا لقي المسلمون المشركين؛ فإن كانوا قوماً لم يبلغهم الإسلام، فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم، وإن كان قد بلغهم الإسلام ـ ولكن لا يدرون أنّا نقبل منهم الجزية، فينبغي ألاّ نقاتلهم حتى ندعوَهم إلى إعطاء الجزية. به أَمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر ما ينتهي به القتال. قال الله ـ تعالى ـ: {حَتَّى يُعْطُوا الْـجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29]، إلا أن يكونوا قوماً لا تُقبل منهم الجزية ـ كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب ـ فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. فإذا أَبَوا الإسلام قوتلوا من غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية»(3).
* ثالثاً: طبيعة الدعوة الإسلامية:
وحتى يكون الكلام أكثر وضوحاً في هذه المسألة؛ فإنه ينبغي أن نتعرف على طبيعة الدعوة الإسلامية والنصوص التي تحكم علاقة المسلمين بغيرهم، وعندئذ يتحدَّد أصل هذه العلاقة.
إن الدعوة الإسلامية التي أنزلها الله ـ تعالى ـ على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دعوة عالمية ورسالة خاتمة للرسالات السابقة. أراد الله ـ تعالى ـ لها أن تكون دعوة إنسانية موجهة للبشر جميعاً، لا تخاطب أقواماً بأعيانهم ولا جنساً بذاته، رضيها الله ـ تعالى ـ للناس ديناً، فكانت هي «الدين» الكامل الذي أتمَّ الله ـ تعالى ـ به علينا النعمة فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] .
وقد تواردت النصوص الشرعية بدلالتها القاطعة على عموم رسالة الإسلام وعالميتها منذ بداية الدعوة وهي لا تزال محصورة في شعاب مكة المكرمة، وأصحابها لا يزالون يتخفَّوْن في دار الأرقم بن أبي الأرقم وسط المجتمع الجاهلي الواسع؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى الناس كافة. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] . {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
والخطاب موجَّهٌ للناس جميعاً: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] .
والقرآن الكريم أنزله الله ـ تعالى ـ ليكون ذكراً للعالمين جميعاً، وليس لأمة بعينها: {إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [التكوير: 27] . {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] . {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [النساء: 174] بل هو بلاغ لكل من يبلغه خبره وينتهي إليه أمره في عصره وفي سائر العصور إلى يوم القيامة: {وَأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ} [الأنعام: 19] . والجنُّ والإنس في هذا الخطاب سواء: {يَا مَعْشَرَ الْـجِنِّ وَالإنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } [الأنعام: 130].
وأشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عموم بعثته وعالمية دعوته فقال: «أُعطيت خمساً لم يُعْطهنَّ أحدٌ قبلي: كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى كل أحمر وأسود ـ وفي لفظ: إلى الناس عامة ـ وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطَهوراً؛ فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلَّى حيث كان، ونُصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأُعطيت الشفاعة» (1). وقال صلى الله عليه وسلم : «فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ: أُعطيت جوامع الكَلِم، ونصرت بالرّعب، وأُحِلَّت لي الغنائم، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأُرسلت إلى الخلق كافة، وخُتِم بي النبيون» (2). ثمَّ وجَّه الدعوة لأهل الكتاب بخاصة فقال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ـ يهودي أو نصراني ـ ثمَّ يموت ولم يؤمن بي إلا كان من أصحاب النار»(3).
ومما يشير إلى عالمية دعوته ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعموم رسالته: أن المعجزة الكبرى التي أيَّده الله ـ تعالى ـ بها ـ مع ما أيّده به من معجزات ـ كانت معجزة خالدة دائمة تختلف عن معجزات الأنبياء السابقين، عليهم الصلاة والسلام؛ حيث كانت تنقضي معجزاتهم المادية بوقوعها، ولا يبقى أثرها قائماً، ولهذا كانت الشرائع قبل شريعة محمد صلى الله عليه وسلم إنما خُصَّ بها قوم دون قوم، وكانت شريعته عامة لجميع الناس. ولما كان هذا كله إنما فضل فيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه فضلهم في الوحي الذي استحق به اسم النبوة. ولذلك قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ منبِّهاً على هذا المعنى الذي خصَّه الله ـ تعالى ـ به: «ما من نبيٍ من الأنبياء إلا قد أُعطي من الآيات ما مثلُه آمن عليه البشر، وإنِّما كان الذي أُوتِيتُه وحياً أوحى الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة»(4).
فهذه الدعوة الأخيرة الخاتمة الناسخة للدعوات السابقة رسالة مفتوحة إلى الأمم كلها، وللأجيال كلها، وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان، فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للقريب والبعيد، لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها، ثمَّ تبقى بعد ذلك قصة تروى لا واقعاً يُشْهد(5).
وإن مما يدل على عالمية الإسلام، وأنه خطاب موجَّه للإنسان بما هو إنسان دون النظر إلى جنسه أو لونه أو إقليمه: أن الإسلام هو نظام الكون كله؛ فإن كلَّ ما في هذا الكون من أصغر ذرة فيه إلى أكبر جرم من الأجرام السماوية، إنما يخضع لله ـ سبحانه وتعالى ـ خضوعاً اضطرارياً؛ فقد اتجهت إرادة الله ـ تعالى ـ إلى هذا الكون فأوجدته، وأودعه ـ سبحانه ـ قوانينه التي يتحرك بها، والتي تتناسق بها حركة أجزائه فيما بينها كما تتناسق حركته الكلية سواء بسواء. قال ـ سبحانه وتعالى ـ: {إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [النحل: 40] . {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2].
وهذا الإنسان ـ كذلك ـ في جانب من جوانب وجوده منقادٌ لقانون الفطرة مجبول على اتّباعه. وفي جانب آخر أوتي حرية الاختيار والرأي والعمل. وحتى يتم التناسق بين هذين الجانبين من جهة، وبين وجوده كله ووجود الكون ونظامه من جهة أخرى، حتى يتم هذا وذاك لا بُدَّ أن يخضع الإنسان لله ـ سبحانه وتعالى ـ ويستسلم له ويدين بشرعه. وهكذا يكون الإسلام دين البشرية كلها، بل ديــن الموجــودات كلها، تلك التي تخضـع لله ـ سبحانه ـ وتطيع: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإن مِّن شَيْءٍ إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] . {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [آل عمران: 83] .
ومما يؤيد عموم دعوة الإسلام للبشرية جميعها مما يتصل بهذا الجانب الذي أشرنا إليه: أن الواقع العملي لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته جاء يترجم عن هذه الدعوة العالمية. فبعد أن كان صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج وفي المواسم الأخرى، يدعوهم إلى الإسلام، وبعد أن انتقل بالدعوة إلى المدينة الطيبة وأعلى الله دينه ومكَّن له في الجزيرة العربية... بعدئذ بدأ صلى الله عليه وسلم يبعث بالكتب والرسائل إلى الملوك والأمراء وزعماء العالم يدعوهم إلى الإسلام، فكتب إلى هرقل عظيم الروم، وكتب إلى كسرى عظيم فارس، وكتب إلى نجاشيّ الحبشة، وكتب إلى المقوقس ملك مصر والإسكندرية، وكتب إلى غيرهم من الملوك والزعماء(6).
وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بإبلاغ هذه الدعوة، فصدع بالأمر ودعا الناس جميعاً إلى دين الله ـ تعالى ـ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94] . {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْـمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]. {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67].
وهذه الدلائل كلها تقوم شاهداً عدلاً وحجة قاطعة على أن الإسلام دعـوة للناس جميعاً منـذ اللحظة الأولى التي بعــث الله ـ تعالى ـ فيها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره بالقراءة باسم ربه «الذي خلق»؛ إذ موضوعها هو «الإنسان» وهي موجهة كذلك «للإنسان» بما أنه إنسان، والكلُّ في هذا سواء. واستمر النبي صلى الله عليه وسلم في القيام بهذه الدعوة إنفاذاً لأمر ربه ـ تبارك وتعالى ـ حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً. وحمل الرسالةَ خلفاؤه من بعده، وأعلى الله كلمته وأظهر دينه على الأديان كلها(1).
* رابعاً: علاقةُ دعوةٍ ينبثق عنها أصلُ العلاقة الدولية:
ومن ذلك كله يمكن أن ندرك أن علاقة المسلمين بغيرهم من الأمم الأخرى ـ على اختلاف ألوانها ولغاتها وأديانها ـ ليست في حقيقتها علاقة سلم ولا علاقة حرب ابتداءً، وأن الأصل ليس هو السلم مطلقاً، وليس هو الحرب مطلقاً، «وإنما هي علاقة دعوة؛ فالأمة المسلمة أمة دعوة عالمية تتخطى في إيمانٍ وسموٍّ وعفوية كل الحدود والحواجز التي تنتهي إليها، أو تتهاوى عندها المبادئ الأخرى، سواء كانت هذه الحدود والحواجز جغرافية أو سياسية أو عرقية أو لغوية... وهي بذلك تفتح أبواب رحمة السماء لأهل الأرض أجمعين»(2).
وإنما تكون العلاقة ـ بعد ذلك ـ علاقة سلم أو حرب، ويكون الأصل هو السلم أو الحرب، بعد تحديد موقف الأمم والدول الأخرى من دعوة الإسلام قبولاً أو رفضاً. ولذلك يقول الدكتور الغنيمي: «إن علاقة الدولة الإسلامية بأيٍّ من دول دار المخالفين تتوقف على سياسة تلك الدول الإسلامية. وتلك ـ لعمر الحق ـ بدهية من بدهيات السياسة الدولية. فإن هي نهجت منهج الموادعة والمسالمة كان حكمها هو ما قررت الآية الكريمة: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]. وعندئذٍ لا يطلب من المسلمين أن يمارسوا إكراهاً على هؤلاء؛ لأن الإقساط يتنافى مع الإكراه»(3).
بل إننا نقول: إن الإكراه يتنافى دائماً مع الإقساط، وحتى في الحرب لا يجوز أن يقع إكراه على قبول الدين. ونقول أيضاً: إن وقفت دار المخالفين من الدعوة الإسلامية موقف الرفض والعداء والحرب فإن حكمها هو ما قررته الآية الكريمة التي جاءت تالية للآية السابقة وهي قوله ـ تعالى ـ: {إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِـمُونَ} [الممتحنة: 9].
وقرر الإمام محمد بن الحسن ـ رحمه الله تعالى ـ أنه إذا لقي المسلمون المشركين وكانوا لم يبلغهم الإسلام، فليس ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم؛ لقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]. وبه أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، فقال: «... فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله»(4). ولأنهم ربما يظنون أنَّا نقاتلهم طمعاً في أموالهم وسبي نسائهم وذراريهم. ولو علموا أنّا نقاتلهم على الدين لأجابوا إلى ذلك من غير أن تقع الحاجة إلى القتال. وفي تقديم عرض الإسلام عليهم دعاء إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فيجب البداية به(5).
ولذلك يقول العلاَّمة أبو القاسم السِّمْنَانِيُّ الحنفي (499 هـ): «وكل من لم تبلغه الدعوة إلى الإسلام - فالسنة أن يُدعى إلى الإسلام ويعلم ما يدعى إليه ـ ونبين له شرائعه وفرائضه وأحكامه، فإن أسلم كُفَّ عنه وخلِّي وشأنه، ودعي إلى التحول إلى دار الإسلام والكون فيها، فإن لم يُجِبْ إلى ذلك كله دُعي إلى الجزية، فإن بذلها كفّ عنه، وإن امتنع استعين بالله وقوتلوا على اسم الله وملة رسول الله صلى الله عليه وسلم »(6).
ويقول الكاساني (ت 785 هـ): إن كانت الدعوة لم تبلغهم فعلى المجاهدين الافتتاح بالدعوة إلى الإسلام باللسان، لقول الله ـ تبارك وتعالى ـ: {ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. ولا يجوز لهم القتال قبل الدعوة؛ لأن الإيمان وإن وجب عليهم قبل بلوغ الدعوة بمجرد العقل فاستحقوا القتل بالامتناع، لكن الله ـ تبارك وتعالى ـ حرَّم قتلهم قبل بعثِ الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبلوغِ الدعوة إياهم، فضلاً منه ومِنّةً، قطعاً لمعذرتهم بالكلّية... ولئلا يبقى لهم شبهة عذر {فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [القصص: 47] .
كما يجب تقديم هذه الدعوة كذلك؛ لأن القتال ما فرض لعينه وذاته، بل للدعوة إلى الإسلام. والدعوة دعوتان: دعوة بالبنان وهي القتال، ودعوة بالبيان وهو اللسان، وذلك بالتبليغ. والثانية أهون من الأولى؛ لأن في القتال مخاطرة بالروح والنفس والمال. وليس في دعوة التبليغ شيء من ذلك، فإذا احتمل المقصود بأهون الدعوتين لزم الافتتاح بها(1).
وهذا يعني: أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أهل الحرب في هذه الحال هو السلم. ويبقى هذا قائماً إذا كان قد بلغهم الإسلام ولكن لا يدرون أنا نقبل منهم الجزية ونعقد لهم الذمّة. فينبغي ألاّ نقاتلهم حتى ندعوهم إلى ذلك، وبهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمراء الجيوش، وهو آخر ما ينتهي به القتال، وفي هذا التزام بعض أحكام المسلمين والانقياد لهم في المعاملات فيجب عرضه عليهم إذا لم يعلموا به(2).
ويحول هذا العلاقة إلى حرب فيما عدا ذلك «فإن كانوا قوماً لا تقبل منهم الجزية كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب، فإنه لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. فإذا أَبَوا الإسلام: قوتلوا من غير أن يعرض عليهم إعطاء الجزية»(3).
وروى الإمام محمد أيضاً عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو القتل» وقال: بهذا كان يأخذ أبو يوسف(4).
وكذلك: من تقبل منهم الجزية إذا عرض عليهم الإسلام ولم يقبلوه، وعرضت عليهم الجزية فلم يقبلوها أو يلتزموا بها، فإن العلاقة بهم علاقة حرب. لذلك قال الإمام محمد بن الحسن: «فينبغي أن لا نقاتلهم حتى ندعوهم إلى إعطاء الجزية. وهو آخر ما ينتهي به القتال» يعني: فإن لم يلتزموا ذلك فقد وجب علينا قتالهم.
* خامساً: مذهب جمهور الفقهاء:
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأصل في العلاقة مع غير المسلمين هو الحرب والقتال، وأن السلم ليست إلا هدنة يستعدُّ بها لاستئناف القتال والاستعداد له(5). فلا ينبغي موادعة أهل الشرك إذا كان بالمسلمين عليهم قوة؛ لأن فيه ترك القتال المأمور به.
وإن لم يكن بالمسلمين عليهم قوة فلا بأس بالموادعة؛ لأنها خير للمسلمين، ولأن هذا من تدبير القتال. وحينئذ تكون الموادعة جهاداً معنىً؛ لأن المقصود ـ وهو دفع الشر ـ حاصلٌ بها. وإن السلم المطلق لا يكون إلا بإسلامٍ أو أمانٍ ـ أي بالدخول في دين الإسلام أو الرضا بعهد الذمّة. ولذلك قالوا: يقاتَل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، ويقاتَل من سواهم من الكفار حتى يسلموا.
وقالوا: إن الجهاد لإعلاء كلمة الله وقتال الكفار الذين امتنعوا عن الإسلام وأداء الجزية ـ وهم ممن تُقْبل منهم ـ واجب كفائي على المسلمين كل سنة وإن لم يبدؤونا بالقتال. وإن دعت الحاجة إلى القتال في كل عام أكثر من مرة وجب ذلك عليهم. ولهذا لا تجوز المهادنة مع الأعداء إذا كانت الهدنة مطلقة لم تقيد بمدة (6)؛ لأن الإطلاق يقتضي التأبيد، وذلك يفضي إلى ترك الجهاد بالكلية، وهو غير جائز(7).
قال الإمام محمد بن الحسن في «السِّير الكبير»: «الجهاد واجب على المسلمين، إلا أنهم في سعة من ذلك حتى يُحتاج إليهم؛ لقوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]. ولقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ؛ حتى لو اجتمع المسلمون على تركه اشتركوا في المأثم. وفي مثل هذا يجب على الإمام النظر للمسلمين؛ لأنه منصوب لذلك نائب عن جماعتهم. فعليه ألاّ يعطل الثغور، ولا يَدَع الدعاء إلى الدين، وعليه حثُّ المسلمين على الجهاد، ولا ينبغي أن يَدَع المشركين بغير دعوة إلى الإسلام أو إعطاء الجزية إذا تمكن من ذلك».
هذه خلاصة ما جاء من نصوص عند العلماء المتقدمين، وهو ما نصّ عليه أيضاً المتأخرون من العلماء المحققين، فقال الشوكانيُّ: «وأما غزو الكفار ومناجزة أهل الكفر، وحملهم على الإسلام أو تسليم الجزية، أو القتل، فهـو معلوم من الدين بالضرورة الدينية، ولأجله بعث الله ـ تعالى ـ رسله وأنزل كتبه، وما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلى أن قبضه إليه جاعلاً هذا الأمر من أعظم مقاصده ومن أهم شؤونه. وأدلة الكتاب والسنة في هذا لا يتسع لها المقام، ولا لبعضها. وما ورد في موادعتهم أو في تركهم إذا تركوا المقاتلة: فذلك منسوخ ـ باتفاق المسلمين ـ بما ورد من إيجاب المقاتلة على كل حال مع ظهور القدرة عليهم والتمكن من حربهم وقصدهم في ديارهم …» (1).
وقال السيِّد صدِّيق حسن خان عن جواز الصلح مع الكفار: «ذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز أن يكون أكثر من عشر سنين؛ لأن الله ـ سبحانه ـ قد أمرنا بمقاتلة الكفار، فلا يجوز مصالحتهم بدون شيء من جزية أو نحوها. ولكنه لما وقع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم كان دليلاً على الجواز إلى المدة التي وقع الصلح عليها. ولا تجوز الزيادة عليها، رجوعاً إلى الأصل وهو وجوب مقاتلة الكفار ومناجزتهم الحرب ...» (2).
ولذلك يرى أستاذنا الدكتور مصطفى كمال وصفي ـ رحمه الله ـ أن علاقة المسلمين مع غير المسلمين لا تقوم على وجهها الإسلامي إلا إذا كان للمسلمين هيبة تكفل لهم قيام الأحكام الشرعية وحسن تطبيقها؛ فإن تطبيق الشريعة الإسلامية في المحيط الدولي يتطلب عزاً وكرامة وهيبة، فيكون لتسامحها ومرونتها أثره في حسن الدعوة وحسن التمثل بالمسلمين. وبدون ذلك فإن التحدُّث بالعزة الإسلامية يحمل على الاستخفاف فتطمع فينا الدول، وينتهزون ذلك ويستغلونه لمصالحهم كما حدث بالنسبة لمعاهدات الامتيازات التي أولاها العثمانيون ـ وهم في قوتهم ـ للأوربيين، فكانت أول مسمار في نعش هذه الدولة. ومن أهم ما يوجبه الإسلام أن نقوم ببثِّ الهيبة الإسلامية كل سنة بإظهار القوة العسكرية الإسلامية على الحدود؛ فإن القيام بالغزوات الآن محفوف بالقيود الدولية، لذلك يجب ـ على الأقل ـ بثُّ الهيبة على الحدود بعد تحرير أراضي المسلمين والجهاد لنصرة أقلياتهم المغلوبة، وهو عمل يسهل مع مضي الوقت وزيادة النفوذ الدولي، وإن يكن صعباً في البداية، كما يجب القيام بالدعوة والتوعية بصورة فعَّالة موازية للحرب المضادة على الأقلِّ(3).
* سادساً: الأدلة على الأصل في العلاقات:
واستدل جمهور الفقهاء على ما ذهبوا إليه بأدلة من القرآن الكريم، والسنة النبوية، ومن الواقع العملي في السيرة النبوية، ومن المعقول:
أ - فمن القرآن الكريم: عموم الآيات الموجبة للجهاد والقتال التي لم تقيِّد الوجوب ببداءة الكفار لنا بالقتال. كقوله ـ تعالى ـ:
1 - {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـمُعْتَدِينَ (91 ) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191 ) فَإنِ انتَهَوْا فَإنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 190 - 192] .
فقد أمر الله ـ تعالى ـ بقتال الكفار وأهل الشرك الذين يناصبون المسلمين القتال ويتوقع ذلك منهم؛ فهم بحالة من يقاتلوننا فعلاً؛ لأن جواز دفع المقاتَلِ عن نفسه ما كان محرَّماً قط حتى يقال إنه أذن فيه بعد التحريم، وإنما المراد به: الذين يقاتلونكم ديناً، ويرون ذلك جائزاً اعتقاداً، ولم يرد به حقيقة القتال(4). ويؤيد ذلك أن الله ـ تعالى ـ أخبر أن هذا شأنهم دائماً فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
أما الذين ليس من شأنهم القتال: كالنساء والصبيان والرهبان؛ فإن هؤلاء لا يجوز قتلهم لئلا يكون ذلك عدواناً؛ إذ إن العدوان يكون بقتلهم وقتل من أعطى الجزية من أهل الكتاب والمجوس. فإن انتهوا عن الشرك والكفر بالله وعن قتال المسلمين، بأن دخلوا في الإسلام أو قبلوا الخضوع لأحكامه بالتزام الجزية وعقد الذمّة لهم، فإن الله يغفر لهم ما قد سلف.
ثمَّ أمر الله ـ تعالى ـ بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين حتى لا يكون شرك بالله، وحتى لا يعبد دونه أحد، وتضمحل عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكون العبادة والطاعة لله وحده دون غيره (1).
وهذا ما ذهب إليه حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما، وذهب إليه عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل من علماء السلف، وهو ما رجَّحه الإمام الطبري وجمهور المفسرين رحمهم الله تعالى(2).
وقال الشوكاني: «فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غايةٍ هي ألاّ تكون فتنة، وأن يكون الدين لله، وهو الدخول في الإسلام، والخروجُ عن سائر الأديان المخالفة له؛ فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحلَّ قتاله»(3).
2 - وقال ـ تعالى ـ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
قال الطبري ـ رحمه الله ـ: «يعني بذلك: فرض عليكم القتال ـ والقرآن الكريم يستعمل معه هذا الفعل «كُتب» لبيان الطلب والفرضية في مواضع كثيرة ـ وعنى بذلك أنه مفروض على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقط فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين. ولا تنافي هذه الفرضية أن الجهاد فيه «كُرْهٌ لكم» أي: شاقٌّ عليكم، من حيث نفور الطبع عنه لما فيه من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح»(4).
3 - وفي سورة التوبة آيات كثيرة ناطقة بهذا، كقوله ـ تعالى ـ: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْـحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 5].
وعموم الآية الكريمة يقتضي قتل سائر المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، وأن لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، إلا أنه ـ تعالى ـ خصَّ أهل الكتاب بإقرارهم على الجزية ـ كما سيأتي في الآية الثالثة ـ وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية من مجوس هجر (5)، وتقدم في الحديث الصحيح عن بريدة صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث سرية قال: «إذا لقيتم المشركين فادعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا فادعوهم إلى الجزية، فإن فعلوا فخذوا منهم وكُفُّوا عنهم»(6)، وذلك عموم في سائر المشركين فَخُصَّ منه من لم يكن من مشركي العرب بالآية، وصار قوله ـ تعالى ـ: {فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} خاصاً في مشركي العرب دون غيرهم(7). فإن تابوا ورجعوا عمّا هم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والتزام الفرائض والاعتراف بوجوبها، فعندئذ خلُّوا سبيلهم. أي: دَعُوهم فليتصرفوا في أمصاركم ويدخلوها(8). وبذلك تنتهي حالة الحرب معهم.
4 - ثمَّ أمر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بقتال المشركين جميعاً فقال: {وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]
ففي هذه الآية الكريمة أمر بقتال الذين يقاتِلون، فعُلم من ذلك أن شرطَ القتالِ كونُ المقاتَل مقاتِلاً ـ أي ممن يمكن أن يقاتل، فهو شرط للقتال وليس علة له(9).
قال الجصَّاص: إن الآية الكريمة تحتمل وجهين: أحدهما الأمر بقتال سائر أصناف أهل الشرك إلا من اعتصم منهم بالذمة وأداء الجزية. والآخر: الأمر بأن نقاتلهم مجتمعين متعاضدين غير متفرقين.
ولما احتمل الوجهين كان عليهما؛ إذ ليسا متنافيين؛ فتضمن ذلك الأمرَ بالقتال لجميع المشركين، وأن يكونوا مجتمعين متعاضدين على القتال(01). وذلك أن جماعة المشركين كافة يرون قتالكم كافة مجتمعين متعاضدين، فاجتمعوا أنتم ـ أيها المسلمون ـ لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يقاتلونكم.
وعلى كل حالٍ فمعنى الآية الكريمة: قاتلوهم بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة؛ فهم يقاتلونكم جميعاً، لا يستثنون منكم أحداً ولا يُبْقون منكم على جماعة(1)؛ وذلك أنهم يقاتلونكم لدينكم لا انتقاماً ولا عصبية، ولا للكسب كدأبهم في قتال قوِيّهم لضعيفهم؛ فأنتم أوْلى بأن تقاتلوهم لشركهم.
5 - أما قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ فقد جاءت الآية الكريمة التالية بشأنهم؛ حيث قال الله ـ تعالى ـ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْـحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْـجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
وكان نزول هذه الآية الكريمة ـ والآيات التالية لها في السياق ـ حين أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم، فكانت تمهيداً لغزوة تبوك ومواجهة الروم وعمالهم من الغساسنة المسيحيين العرب. وقيل: نزلت في شأن بني قريظة والنضير من اليهود، فصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين.
وفي هذه الآية الكريمة تحديد للعلاقات مع أهل الكتاب من الكفار خاصة، بعد أن حددت الآيات السابقة في السورة نفسها طبيعة العلاقات بين المسلمين والمشركين؛ فإن الجميع قد أطبق عليهم هذا الوصف، وهو الكفر، فإن الكفر وإن كان أنواعاً متعددة مذكورة في القرآن والسنة بألفاظ متفرقة، فإن اسم الكفر يجمعها.
وقد أبان الله ـ تعالى ـ في هذه الآية الكريمة أن الفرض في أهل الكتاب ومن دان دينهم قبل نزول القرآن كله: أن يقاتَلوا حتى يعطوا الجزية أو يُسْلِموا(2).
وسياق الآية الكريمة يلهم أن الأوصاف الواردة فيها هي صفات قائمة بالقوم الموجهة إليهم الغزوة التي نزلت الآية تمهيداً لها، وأنها إثبات حالة واقعة بصفاتها القائمة. فهذه الصفات لم تذكر هنا في الآية الكريمة على أنها شرط لقتال أهل الكتاب، وإنما ذكرت على أنها أمور واقعة في عقيدة القوم وواقعهم، وأنها مسوِّغات ودوافع للأمر بقتالهم. ومِثْلُهم في هذا الحكم كلُّ من تكون عقيدته وواقعه كعقيدتهم وواقعهم. وقد حدَّد السياق من هذه الصفات القائمة:
أولاً: أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: أنهم لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله.
ثالثاً: أنهم لا يدينون دين الحقِّ.
ثمَّ بيَّن السياق في الآيات التالية كيف أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، وذلك بأنهم:
أولاً: قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وأن هذا القول يضاهئ قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين؛ فهم مثلهم في هذا الاعتقاد الذي لا يعدُّ صاحبه مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيحَ ابن مريم. وأن هذا مخالف لدين الحق. وهو الدينونة لله وحده بلا شركاء. فهم بهذا مشركون لا يدينون دين الحق.
ثالثاً: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم؛ فهم محاربون لدين الله. ولا يحارب دين الله مؤمن بالله واليوم الآخر يدين دين الحق أبداً.
رابعاً: يأكل كثير من أحبارهم ورهبانهم أموال اليتامى بالباطل؛ فهم إذن لا يحرِّمون ما حرَّم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم سواء كان المقصود رسـولهم أو محمد صلى الله عليه وسلم .
وهذه الصفات كانت واقعة بالقياس إلى نصارى الشام والروم، كما أنها واقعة بالقياس إلى غيرهم منذ أن حرَّفت المجامع الدينية دين المسيح (وقالت ببنوة عيسى وبتثليث الأقانيم ـ على كل ما بين المذاهب والفِرَق من خلاف يلتقي كله على التثليث ـ على مدار التاريخ حتى الآن)(3).
وإذن فهو أمر عام يقرر قاعدة مطلقة في العلاقة مع أهل الكتاب الذين تنطبق عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم... ولا يمنع من هذا العموم أن الأوامر النبوية استثنت أفراداً وطوائف بأعيانها لتُتْرك بلا قتال، كالأطفال والنساء والشيوخ والعَجَزَة والرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الأديرة... بوصفهم غير محاربين ـ فقد منع الإسلام أن يقاتَل غير المحاربين من أية ملَّة ـ وهؤلاء لم تستثنهم الأوامر النبوية؛ لأنهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على المسلمين، ولكن لأنه ليس من شأنهم أصلاً أن يقع منهم الاعتداء؛ فلا محل لتقييد هذا الأمر العام بأن المقصود به هم الذين وقع منهم اعتداء فعلاً. فالاعتداء قائم ابتداءً، الاعتداء على ألوهية الله، والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير الله؛ والإسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية الله سبحانه، والدفاع عن كرامة الإنسان في الأرض، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة والحرب والعداء ولا مفرَّ من مواجهة طبائع الأشياء.
وهذا كله هو ما فهمه المفسرون من الآية الكريمة؛ فإنهم أجمعوا على أن قوله ـ تعالى ـ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29] يعني اليهود والنصارى الذين لا يدينون دين الإسلام. ولم يقيّدوا جواز قتالهم بأن يكونوا من المعتدين، ولم يفهموا أن كلمة «مِنْ» في الآية للتبعيض، فيكون هناك أهل كتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ويدينون دين الحق ـ بعد بعثة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويكون هناك فرقة أخرى لا تؤمن بالله... وهي التي أباح الإسلام قتالها، ولذلك قالوا: إن قوله ـ تعالى ـ: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بيان لقوله: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 45] أي: من الموصوفين بهذه الصفات الأربع من أهل الكتاب؛ فالصفات الأربع راجعة إلى الضمير المذكور أولاً. والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم؛ لأن الواجب في المشركين القتالُ أو الإسلام، والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية(1).
ولذلك لا نجد مستنداً صحيحاً لما ذهب إليه بعض الكاتبين من أن «صياغة النص ـ في آية التوبة السابقة ـ واستعمال كلمة «من» بمعنى بعضهم أو فريق منهم ظاهرةُ الدلالة على أن الأمر بالقتال ليس موجهاً ضدَّ (كل) أهل الكتاب بصفتهم هذه، بل فقط ضدَّ فريق منهم تميز بصفة عدوانية ونكرانية للقيم الإنسانية الأساسية... وأن النص إنما يخص فريقاً من أهل الكتاب قد ارتد فعلاً عن العقيدة المسيحية(2)، عقيدة الإيمان بالله وبالبعث، وأصبح يعبد القوة في صورتها العدوانية ويستعبد الناس بها، وإن اتخذوا العقيدة المسيحية الشكلية قناعاً لسلطانه، أو أنه يخص فريقاً منهم دعا إلى إنكار وجود الله أو إلى إلغاء الدين»(3).
6 - وقال الله ـ تعالى ـ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] .
ففي الآية الكريمة حثٌّ للمؤمنين على الجهاد وتحريم للتثاقل والجبن عن قتال المشركين والضعف، أو الدعوة إلى الصلح والمسالمة ابتداءً، فمنع الله ـ تعالى ـ المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا، أو يلتزموا حكم الإسلام بعقد الذمّة؛ فالمسلمون هم الغالبون، وآخرُ الأمر لهم وإن غُلِبوا في بعض الأوقات(4). يقول العلامة محمد صدِّيق خان في تفسير هذه الآية الكريمة: «أي: لا تضعفوا عن القتال وتدعوا الكفار إلى الصلح ابتداءً منكم؛ فإن ذلك لا يكون إلا عند الضعف. قال الزجَّاج: منع الله المسلمين المؤمنين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا.
واختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة؟
فقيل: إنها محكمة وناسخة لقوله ـ تعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] .
وقيل: منسوخة بهذه الآية».
ثمَّ قال: «ولا يخفى أنه لا مقتضى للقـــول بالنسخ؛ فإن الله ـ سبحانه ـ نهى المسلمين في هذه الآية أن يدعوا إلى السّلم ابتداءً، ولم يَنْه عن قَبول السّلم إذا جنح إليها المشركون؛ فالآيتان محكمتان ولم تتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النسخ أو التخصيص. وجملة {وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ} مقررة لما قبلها من النهي. أي: وأنتم الغالبون بالسيف والحجة»(5).
7 - وقال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْـمُتَّقِينَ } [التوبة: 123].
يقول الله ـ تعالى ذكره ـ: قاتلوا مَنْ وَلِيَكُم من الكفار دون من بَعُد منهم، فابدؤوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم داراً، دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية الكريمة يومئذ: الروم؛ لأنهم كانوا سكان الشام يومئذ، وكانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على أهل كل ناحيةٍ قتالُ مَنْ وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم، ما لم يضطّر إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام. فإن اضطروا إليهم، لزمهم عونهم ونصرهم؛ لأن المسلمين يدٌ على مَنْ سواهم(1).
قال الإمام أبو بكر الرازي الجصَّاص: «خَصَّ الأمر بالقتال للذين يلونهم من الكفار، وقال في أول السورة: {فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وقال في موضع آخر: {وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] فأوجب قتال جميع الكفار، ولكنه خصَّ بالذكر الذين يلوننا من الكفار؛ إذ كان معلومـاً أنه لا يمكننا قتال جميع الكفار في وقت واحد، وأن الممكن منه هو قتال طائفةٍ، فكان قتال مَنْ قَرُب منهم أَوْلى بالقتال ممن بَعُد؛ لأن الاشتغال بقتال مَنْ بَعُد منهم مع ترك قتال من قَرُب لا يؤمَنُ معه هَجْم(2) من قرب على ذراري المسلمين ونسائهم وبلادهم إذا خلت من المجاهدين. فلذلك أمر بقتال من قرب قبل قتال مَنْ بَعُد، وأيضاً: لا يصح تكليف قتال الأبعد؛ إذ لا حدَّ للأبعد يُبْتَدَأ منه القتال كما للأقرب. وأيضاً: فغير ممكن الوصول إلى قتال الأبعد إلا بعد قتالِ مَنْ قَرُبَ وقَهْرِهم وإذْلاَلِهم. فهذه الوجوهُ كلُّها تقتضي تخصيص الأمر بقتال الأقرب»(3).
فالآية الكريمة تضع خطة الحركة الجهادية ومداها كذلك، وهي الخطة التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده بصفة عامة، فسارت عليها الفتوح الإسلامية، تواجه مَنْ يلون «دار الإسلام، ويجاورونها، مرحلة فمرحلة، فلما أسلمت الجزيرة العربية ـ أو كادت ولم تَبْقَ إلا فلول منعزلة لا تؤلِّف قوة يُخشى منها على دار الإسلام بعد فتح مكة ـ كانت غزوة تبوك على أطراف بلاد الروم، ثمَّ كان انسياح الجيوش الإسلامية في بلاد الروم وفي بلاد فارس... والأمر بقتال الذين يَلُون المسلمين من الكفـار، لا يذكــر فيه أن يكونوا معتدين علـى المســـلمين ولا على ديارهم. وندرك أن هذا هو الأمر الأخير الذي يجعل «الانطلاق» بهذا الدين هو الأصل الذي ينبثق منه مبدأ الجهاد، وليس هو مجرد «الدفاع» كما كانت الأحكام المرحلية أول العهد بإقامة الدولة الإسلامية في المدينة.
ويريد بعض الذين يتحدثون عن العلاقات الدولية في الإسلام أن يتلمسوا لهذا النص النهائي الأخير قيداً من النصوص المرحلية السابقة، فيقيدوه بوقوع الاعتداء أو خوف الاعتداء! والنص القرآنيُّ بذاته مطلق، وهو النص الأخير. وقد عوَّدنا البيان القرآني عند إيراد الأحكام أن يكون دقيقاً في كل موضع، وأن يتخير اللفظ المحدَّد، ويسجل التحفظات والاستثناءات والقيود والتخصيصات في ذات النص، إن كان هناك تحفظ أو استثناء أو تقييد أو تخصيص»(4).
ب ـ ومن السنة النبوية: استدل الجمهور بحديث ابن عمـــر ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة. فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّ الإسلام، وحسابهم على الله»(5).
فقد أمر الله ـ تعالى ـ نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويلتزموا أحكام الإسلام. واللام في كلمة «الناس» للجنس فيدخل في هذا: المشركون وأهل الكتاب الملتزمون للجزية إن لم يسلموا. ولكن خرج أهل الكتاب من هذا العموم بدليل آخر هو آية التوبة السابقة، ونحو ذلك من الآيات والأحاديث. ويدل عليه رواية النَّسَائي: «أُمرت أن أقاتل المشركين»(6). ولهذا قال الطِّيبيُّ: هو من العام الذي خُصَّ منه البعض؛ لأن القصد الأوليّ من هـذا الأمـر حصـول المطلـــوب، كقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فإذا تخلف منه أحد في بعض الصور لعارضٍ، فإن ذلك لا يقدح في عمومه. ألا ترى أنَّ عَبَدَة الأوثان إذا وقعت المهادنة معهم تسقط المقاتلة وتثبت العصمة، ويجوز أن يعبَّر بمجموع الشهادتين وفعل الصلاة والزكاة عــن إعــلاء كلمة الله ـ تعالى ـ وإذعان المخالفين، فيحصل بذلك في بعضهم بالقول والفعل، وفي بعضهم بإعطاء، وفي الآخرين بالمهادنة»(7).

عزام
05-26-2008, 05:06 PM
* سابعاً: مذهب معاصر:
في العصر الحديث ذهب بعض الكاتبين والباحثين إلى أن الأصل في العلاقات بين المسلمين وغيرهم هو السِّلم(1). ولم نجد أحداً من علمائنا وفقهائنا السابقين قال بمثل ما قال هــؤلاء المعـاصـرون (2). حتـى الذين تكلموا على قضية السلم لم يكن كلامهم منصبّاً على القاعدة العامة المستمرة في العلاقات، وإنما على حالات معينة يدعو الإسلام فيها إلى السلم والمصالحة والبر بالمخالفين. وجاء كلامهم هذا في وقت كان المسلمون فيه يتربعون على قمة المجد؛ والعزةُ تملأ جوانحهم، والعدو أشدَّ رهبة... ومع ذلك وجدوا أنَّ سماحة الدين الإسلامي ومبادئه الفاضلة تدعو إلى ذلك، ولن يُخشى أن ينتهي هذا الكلام بأحد إلى الدعوة لنبذ الجهاد وتركه حتى يقول إنه لا يجوز الجهاد إلا عندما يقع العدوان علينا، ولو وقع فينبغي دفعه سلماً، ثمَّ يكون التهافت على السلم الرخيصة الذليلة.
* ثامناً: أدلة المعاصرين:
استدل أصحاب هذا الاتجاه بأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن القواعد الفقهية العامة ومن المعقول. ولكن النظرة الدقيقة إلى ما استدلوا به ترينا أن عموم الأدلة التي استندوا إليها في غير محل النـزاع، ولا تدل على ما ذهبوا إليه، إن لم نقل إنها تدل على عكس ما ذهبوا إليه.
فمن القرآن الكريم: حشد أصحاب هذا الاتجاه مجموعة من الآيات الكريمة هي الآية (208) من سورة البقرة، والآية (61) من سورة الأنفال، والآيتان (90 و 94) من سورة النساء، كما استدلوا ببعض الوقائع التاريخية والقواعد الفقهية التي ستأتي عند المناقشة بإذن الله تعالى.
* تاسعاً: مناقشة أدلة المعاصرين:
وبكلمة إجمالية نذكر أن هذه الأدلة قد وضعت في غير موضعها، وأنطقها هؤلاء بما لم تنطق، وحمّلوها ما لا تحتمل. ويظهر هذا بالنظر في هذه الأدلة واحداً بعد الآخر.
* أما الآية الأولى، وهي قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقـــــرة: 208]. فإنها تأمـــر المـؤمنين بالله ـ تعالى ـ المصدِّقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك (1).
يقول شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر الطبري ـ رحمه الله ـ: اختلف أهل التأويل في معنى «السِّلم» في هذا الموضع. فقال بعضهم: معناه الإسلام. قال ذلك: ابن عباس ومجاهد وقتادة والسُّدي وابن زيد والضحَّاك.
وقال آخرون: بل معنى ذلك ادخلوا في الطاعة. قال ذلك الربيع بن أنس(2). ثمَّ رجح التأويل الأول وهو قول من قال معناه: ادخلوا في الإسلام كافة؛ لأن الآية مخاطب بها المؤمنون؛ فلن يعدو الخطاب ـ إذْ كان خطاباً للمؤمنين ـ من أحد أمرين:
إما أن يكون خطاباً للمؤمنين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم المصدِّقين به وبما جاء به. فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان: ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم؛ لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان يمارس حرباً بترك الحرب. فأما المُوالِي فلا يجوز أن يقال له: «صالِحْ فلاناً» ولا حربَ بينهما ولا عداوة.
أو يكون خطاباً لأهل الإيمان بمن قَبْلَ محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدّقين بهم وبما جاؤوا به من عند الله، المنكرين محمداً ونبوته، فقيل لهم: «ادخلوا في السلم» يعني به الإسلامَ، لا الصلح؛ لأن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى ذلك دعاهم، دون المسالمة والمصالحة. بل نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الصلح فقال: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35]، وإنما أباح له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال، إذا دعوه إلى الصلح، ابتداءَ المصالحة، فقال له ـ جلَّ ثناؤه ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]. فأما دعاؤهم إلى الصلح ابتداءً فغير موجود في القرآن، فيجوز توجيه قوله: {ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} إلى ذلك» (3).
وحتى لو قلنا إن المراد «بالسِّلم» هو المسالمة والصلح وترك الحرب، فإن ذلك ـ عند من قال به ـ يعود إلى المعنى الأول، حيث جوَّز أبو علي الفارسيّ أن يكون «السلم» هنا بمعنى الصلح؛ لأن الإسلام صلح على الحقيقة. ألا ترى أنه لا قتال بين أهله، وأنهم يدٌ على مَنْ سواهم(4)؟ وسبب نزول الآية الكريمة يؤكد ذلك(5). فأصبح واضحاً من هذا أن هناك إجماعاً من علماء التفسير على أن الآية لا تعني بحالٍ التعاملَ بين المسلمين وغيرهم.
ولو تنـزلنا ـ جدلاً ـ وقلنا بذلك، فإنها لا تدل على ما يريده أصحاب الدعوة إلى أن السِّلم هو الأصل في العلاقات الدولية؛ لأنها بذلك تعني أن الحرب كانت قائمة، ثمَّ جاءت الدعوة إلى السلم والصلح، فلم يكن السِّلم أصلاً في التعامل.
* وأما قوله ـ تعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]؛ فهو في سياق آيات سورة الأنفال التي تأمر بنبذ العهود إذا خيف من الأعداء خيانة لها ونقض، مع تهديد الكفار والأمر بإعداد العدة والقوة لإرهابهم؛ حيث قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] إلى قوله: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} أي: إن خفت من قوم خيانة وغدراً فانبِذْ إليهم عهدهم على سواء، وآذِنْهم بالحرب؛ فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتِلْهم، وإن مالوا إلى المسالمة إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية ونحوها من أسباب السلم والصلح كالمصالحة والمهادنة {فَاجْنَحْ لَهَا} أي: فمِلْ إليها واقبل منهم ذلك(6).
ولذلك قال الإمام محمد بن الحسن بجواز الموادعة والمعاهدة للمشركين إذا لم يكن بالمسلمين قوة، استناداً إلى هذه الآية الكريمة؛ لأن هذا من تدبير القتال؛ فإن على المقاتل أن يحفظ قوة نفسه أولاً، ثمَّ يطلب العُلُوَّ والغلبة إذا تمكَّن من ذلك(1).
فالآية الكريمة ـ إذن ـ إنما تتعلق بالهدنة؛ لأن «السِّلم» هاهنا معناها الهدنة بلا خلاف. والهدنة عمل من أعمال الحرب. فهذا الحكم لا يفيد السلام الدائم المطلق كما وهم المحتجون بذلك(2).
هذا، وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية: هل هي محكمة أو منسوخة؟ على رأيين:
أ - ذهب بعض السلف إلى أنها منسوخة (3)؛ فإن الميل إلى الصلح والمسالمة، إنما كان قبل نزول سورة «براءة»، وكان النبي (يوادع القوم إلى أجل، فإما أن يسلموا وإما أن يقاتلهم، ثمَّ نسخ ذلك بقوله ـ تعالى ـ: {فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقوله: {وَقَاتِلُوا الْـمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] . فأمر بقتال المشركين على كل حال حتى يسلموا.
وقيل هي منسوخة بقوله ـ تعالى ـ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } [التوبة: 29]، أو بقوله ـ تعالى ـ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ}
[محمد: 35].
ب ـ والرأي الثاني، وهو ما ذهب إليه عامة العلماء، من أن الآية محكمة غير منسوخة. وهو ما رجحه الإمام الطبري؛ لأن القول بالنسخ لا دلالة عليه من الكتاب ولا السنة ولا العقل؛ لأن الناسخ لا يكون إلا من نفي حكم المنسوخ من كلِّ وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخاً.
وقول الله ـ تعالى ـ: {فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} غيرُ نافٍ حكمُه حكمَ قوله ـ تعالى ـ: {وَإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61]؛ لأن هذه الآية إنما عنى بها بني قريظة، وكانوا يهوداً أهل كتاب، وقد أذن الله ـ تعالى ـ بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم.
وأما قوله ـ تعالى ـ: {فَاقْتُلُوا الْـمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} فإنما عُنِيَ به مشركو العرب من عَبَدة الأوثان الذين لا يجوز قبول الجزية منهم، فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه(4).
ولذلك قال الجصَّاص: «وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين؛ فالحال التي أمر فيها بالمسالمة هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوِّهم. والحال التي أمر فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية هي حال كثرة المسلمين وقوَّتهم على عدوهم، وقد نهى الله ـ تعالى ـ عن المسالمة عند القوة على قهر العدو وقتلهم»(5).
وقد أوجز الزمخشري القول في ذلك فقال: «والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاحَ الإسلامِ وأهلِهِ من حرب أو سلم، وليس بحتم أن يقاتَلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً»(6).
وفي ضوء هذه الأحكام المستفادة من الآية الكريمة، وبعد عرض آراء العلماء في ذلك ننتهي إلى أن الآية محكمة ليست منسوخة(7)؛ وإنما هي تواجه مرحلة معينة وواقعاً معيناً. ولذلك يقول الأستاذ سيد قطب ـ رحمه الله: «إن الأحكام المرحلية ليست منسوخة؛ بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة. ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدِّد ـ عن طريق الاجتهاد ـ أيَّ الأحكام هو أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف، في زمان من الأزمنة، في مكان من الأمكنة؛ مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها متى أصبحت الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام، كما كان حالها عند نزول سورة التوبة؛ وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه الأحكام الأخيرة النهائية سواء في معاملة المشركين أو أهل الكتاب»(8).
* وأما قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِـمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} [النساء: 94]. فهي في غير محل النـزاع، ولا دلالة فيها على أن الأصل في العلاقات هو السلم؛ لأنها تبين حكماً من أحكام الحرب والجهاد؛ حيث جاء الأمر فيها من الله ـ تعالى ـ للمؤمنين إذا ساروا في الأرض لجهاد الأعداء أن يتأنَّوْا ويتثبتوا في قتل من أشكل عليهم أمره فلم يعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا يعجلوا فيقتلوا من التبس عليهم أمره، ولا يُقدموا على قتل أحد إلا مَنْ علموه يقيناً حرباً لله ولرسوله. ولذلك لا يجوز أن يقولوا لمن استسلم لهم فلم يقاتلهم مظهراً لهم أنه من أهل الإسلام، لا يجوز لهم أن يقولوا له: لستَ مؤمناً؛ إذ ينبغي أن يكتفوا بظاهر الإسلام في كلمة اللسان؛ إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان؛ فقد حكم الله ـ تعالى ـ بصحة إيمان من أظهر الإسلام، وأَمَرَنا بإجرائه على أحكام المسلمين، وإن كان في المغيَّب على خلافه؛ لأن الأحكام تُنَاط بالمظَانّ والظواهر لا على القطع وإطلاع السرائر. وهو يوجب أن مَنْ قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو قال: إني مسلم، أنه يحكم له بالإسلام؛ لأن قوله ـ تعالى ـ: {لِـمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ} يعني: إظهار تحية الإسلام، وقد كان ذلك عَلَماً لمن أظهر به الدخول في الإسلام؛ وعلى قراءة {لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَم} إنما معناه: لمن استسلم فأظهر الانقياد لما يدعى إليه من الإسلام. والمعنيان متقاربان(1).
هذا، وسبب نزول الآية الكريمة يؤكد ذلك، فقد وردت روايات كثيرة في سبب نزولها، يجمعها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت رجلاً معه غنم له، فقال لهم: السلام عليكم ـ وفي بعضها أنهم لحقوا به فقال: أشهد إن لا إله إلا الله ـ فظنوا أنه أظهر ذلك تعوُّذاً من القتل فحسب، فقتلوه وأخذوا غنمه، ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه، فوجد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وَجْداً شديداً. وكان قد سبقهم الخبر قبل ذلك، ونزلت الآية الكريمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قتلتموه إرادةَ ما معه؟» ثمَّ قرأ عليهم الآية الكريمة. وحمل النبي صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله، وردَّ عليهم غنيماته(2).
فظهر من معنى الآية وسياقها ومن سبب نزولها أنه لا دلالة فيها على أصل التعامل بين المسلمين وغيرهم، وأنها ليست دعوة مطلقة إلى السلم، وإنما هي دعوة للتثبت لئلا يقتل في الجهاد أحد ممن دخل في الإسلام ولو في تلك اللحظة هرباً من القتل؛ إذ الأصل أنه يصبح معصوماً بمجرد نطقه بالشهادتين.
* وأما قوله ـ تعالى ـ: {فَإنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } [النساء: 90] .
فقد جاء في سياق الآيات الكريمة (87 ـ 94) من سورة النساء، وهي تبدأ بتقرير قاعدة التصور الإسلامي للتوحيد وإفراد الله ـ سبحانه ـ بالألوهية، ثمَّ تبين طريقة التعامل مع الطوائف الآتية:
أ - المنافقين غير المقيمين في المدينة.
ب - الذين يرتبطون بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.
ج - المحايدين الذين تضيق صدورهم بحرب المسلمين وحرب قومهم كذلك وهم على دينهم.
د - المتلاعبين بالعقيدة الذين يظهرون الإسلام إذا قدموا المدينة، ويظهرون الكفر إذا عادوا إلى مكة المكرمة.
هـ - حالات القتل الخطأ بين المسلمين، والقتل العمد، على اختلاف المواطن(3).
والآية الكريمة فيها إشارة إلى سُموِّ أحكام الإسلام في اختيار السلم حيثما وجد مجالاً للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار، وعدم الوقوف في وجه الدعوة بالقوة، مع كفالة الأمن للمسلمين وعدم تعريضهم للفتنة أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر.
ومن ثمَّ يجعل الإسلام كلَّ من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين ـ عهد ذمة أو هدنة ـ شأنه شأن القوم المعاهدين، يعامَل معاملتهم، ويسالَم مسالمتهم. وهي روح سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام.
كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى، وهي الأفراد والقبائل أو المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال.
وواضحٌ من هذا: الرغبة السلمية في اجتناب القتال حيثما كفَّ الآخرون عن التعرض للمسلمين ودعوتهم، واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم. وهؤلاء الذين يتحرَّجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم، كانوا موجودين في الجزيرة العربية وفي قريش نفسها؛ ولم يُلْزمهم الإسلام أن يكونوا معه أو عليه؛ فقد كان حسبه ألاّ يكونوا عليه(4).
وقال الإمام الطبري: إن المعنيَّ بهذه الآية هم المنافقون، إذا استسلموا لكم صلحاً منهم لكم فلا سبيل لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، فلا ينبغي التعرض عليهم (5).
ونقل الإمام البَغَوِيُّ عن بعض السلف: أنهم مَن انضم إلى قوم بينكم وبينهم عهد وميثاق فدخلوا في حلف ولجؤوا إلى جوارهم، وضاقت صدورهم عن قتالكم بسبب العهد الذي بينكم. ويجوز أن يكون المعنى: إنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم، فهؤلاء إذا اعتزلوكم وانقادوا للصلح واستسلموا، فما جعل الله للمسلمين عليهم طريقاً بالقتل والقتال(1). فالسبب الموجب لترك التعرُّض لهم هو تركهم للقتال(2).
وأبدى العلاّمة أبو بكر الرّازي الجصَّاص رأياً في أنَّ منع قتال مَنْ هذا وصفه مِنَ الكفار منسوخ باتفاق العلماء حيث قال: «إن هذه الآيات فيها حظر قتال من كفَّ عن قتالنا من الكفار، ولا نعلم أحداً من الفقهاء يحظر قتال من اعتزلنا من المشركين. وإنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره. فقد حصل الاتفاق من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان وَصْفُه ما ذكرنا. والله الموفق للصواب» (3).
والذي ننتهي إليه من هذه الأقوال: أن الآية الكريمة وإن كان فيها دعوة إلى السلم، فإنما ذلك مع قوم مالوا إلى المصالحة والمهادنة وانقادوا للطاعة، أو اعتزلوا قتال المسلمين، فكانوا في موقف الحياد. وليس في الآية نسخ؛ لأن هذا الحكم المستفاد منها من الأحكام المرحلية التي أشرنا ـ فيما سبق ـ إلى أنها تواجه واقعاً معيناً في مرحلة معينة. وذلك كله لا يتعلق بأصل التعامل بين المسلمين والكفار، ولا بالقاعدة العامة فيها.
* وأما ما استدلوا به من الواقع التاريخي، وهو أن حروب النبي صلى الله عليه وسلم كانت لردّ العدوان والبغي، وأنه لم يقاتل إلا دفاعاً(4).
فهذا في بيان حال واقعة، وليست بياناً لأصل أو مبدأ تُرَدُّ إليه الوقائع. مع أن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وحروبه فيها ما هو دفاع وما هو هجوم ابتداءً. ولهذا لا يصح الاستدلال بذلك على أصل العلاقات وأنها السلم المطلق.
* بقي من أدلة المعاصرين جملة من القواعد الفقهية، مثل: «الأصل في الدماء الحظـر»، و «الضـــرورات تقــدر بقـدرها» و «الأصل في الأشياء الإباحة»(5).
وهذه كلها لا علاقة لها بموضوع بحثنا، ولا تدل على شيء مما أرادوه. كما أن ما نقلوه عن بعض الأئمة كقول مالك: «لا ينبغي لمسلم أن يهريق دمه إلا في حق، ولا يهريق دماً إلا بحق»(6)، إنما جاءت في سياقٍ آخر لا علاقة له بمسألتنا، وهذا السياق هو: هل يجوز للمسلم أن يقاتل مع غير المسلمين؟(7).
ولذلك نجد أن النتيجة التي وصل إليها أستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي عندما قال: «والخلاصة أن الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هو السلم. والحرب عارض لدفع الشر... وفقهاؤنا قرروا أن الأصل في العلاقات هو الحرب، دون أن يكون لذلك سند تشريعي، إلا ما كان تصويراً منهم للواقع» (8).
هذه النتيجة ليست مسلَّمة؛ لأنه قد تبين لنا السند التشريعي لما ذهب إليه الفقهاء، وهو الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة. أما ما عرضه هو فلا سند له من النصوص الشرعية إلا التمحل والتأويل للنصوص ليجعلها موافقة للقانون الدولي الذي عبّر عنه بقوله: «وفي صدد المقارنة نجد أن ما انتهينا إليه من اعتبار السلم أصل العلاقات في الإسلام هو الأمر المقرر لدى فقهاء القانون الدولي حيث يقولون: الحالة الطبيعية بين الدول هي السلام، والحرب وقتية عارضة مهما كان سببها»(9).
ويعبِّر عــن هـــذا أيضاً: قـــولُ الشيخ عبد الوهـاب خلاّف ـ رحمه الله ـ «وقال فريق آخر من العلماء: إن أساس علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول لا تغاير ما قرره علماء القانون الدولي أساساً لعلاقات الدول الحاضرة …»(10). مع أن في ذلك عكساً للترتيب، فلم يكن هناك قانون دولي عندما قال الفقهاء المسلمون بما ذهبوا إليه.
-------------------------------------
( * ) أستاذ العقيدة الإسلامية بجامعة أم القرى في الطائف.
انظر: «معجم مقاييس اللغة»: 1/ 901، «المعجم الوسيط»: 1/ 02.
انظر معاني كلمة الأصل هذه في: «التلويح على التوضيح» للتفتازاني: 1/ 9.
انظر: «السِّير الكبير» مع شرح السَّرْخَسِيّ: 1 / 57 ـ 77.
أخرجه البخاري: 1/ 634، ومسلم: 1/ 073.
أخرجه مسلم، في الموضع السابق، ص (173).
أخرجه مسلم: 1/134.
أخرجه البخاري: 6/3، ومسلم 1/134. واللفظ له.
انظر: «في ظلال القرآن» للأستاذ سيد قطب: 91/4852.
انظر: «زاد المعاد»: 3/692 ـ 697، «مجموعة الوثائق السياسية»، ص (641) وما بعدها.
ولذلك كان من العجب والغريب، بعد معرفة هذه الأدلة والشواهد، ما يلهج به بعض المستشرقين ممن عنوا بدراسة السيرة النبوية ودعوة الإسلام، من إنكارهم هذه الصفة العالمية للإسلام، حيث يقول وليم موير مثلا: «إن فكرة عالمية الرسالة قد جاءت فيما بعد. وإن هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه. ويذهب كذلك كايتاني إلى هذا الرأي. انظر: «الدعوة إلى الإسلام» تأليف توماس أرنولد، ترجمة حسن إبراهيم حسن وعبد المجيد عابدين، ص (94 - 05).
وهذا نموذج لتفكير المستشرقين ومناهجهم وأساليبهم يشير إلى أن بعضهم يقول ما لا يعقل أو يفكر بأدوات تفكير لا يفكر فيها إلا أمثالهم. فكيف جاءت فكرة عالمية الإسلام فيما بعد رغم الآيات المكية والواقع العملي للدعوة؟ وهل كان هرقل وكسرى والنجاشي عرباً يوجه إليهم النبي صلى الله عليه وسلم الدعوة على أنهم عرب؟!
«ما هي علاقة الأمة المسلمة بالأمم الأخرى؟» د. أحمد محمود الأحمد، ص (7 ـ 8).
انظر: «قانون السلام في الإسلام» د. محمد طلعت الغنيمي، ص 401. وراجع: «الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي» د. عبد الله إبراهيم الطريقي، ص 62.
أخرجه مسلم: 3/ 7531.
انظر: «شرح السِّير الكبير» للسرخسي: 1/ 57 ـ 67.
«روضة القضاة وطريق النجاة» للسمناني: 3/1237، تحقيق د. صلاح الدين الناهي.
«بدائع الصنائع» للكاساني: 9/4304 ـ 4305 بتصرف يسير.
انظر: «شرح السِّير الكبير»: 1/76، وراجع «المبسوط»: 10/7، «البدائع»: 9/ 5034.
«السِّير الكبير»: 1/76 ـ 77 و 189. مع شرح السَّرْخَسِيّ، وانظر: «تفسير القرطبي»: 16/273 حيث قال: «حكم من لا تقبل منه الجزية أحد أمرين: إما المقاتلة، وإما الإسلام؛ لا ثالث لهما».
انظر: «كتاب السِّير» للشيباني، ص (222) بتحقيق د. مجيد خدوري، «شرح السِّير الكبير»: 5 / 8071.
جعل الأستاذ ظافر القاسمي هذا المذهب نظرية لفريق من الباحثين المتأخرين. وناقش ذلك من خلال ردِّه على الشيخ صالح بن سعد اللحيدان في كتابه: «الجهاد في الإسلام» فأوهم الأستاذ القاسمي أن هذا مذهب الباحثين المتأخرين، بل مذهب فريق منهم، بينما نجد أن هذا مذهب عامة الفقهاء المتقدمين، ولم نجد ـ كما سيأتي ـ لأيٍّ منهم ما يخالف ذلك، إلا ما روي عن سفيان الثَّوْرِيّ ـ رحمه الله ـ في الجهاد الدفاعي وعدم وجوب البدء بالقتال إن لم يقاتلونا. وإن كان هذا في غير ما نحن فيه؛ لأنه ـ رحمه الله ـ لم يحرم الجهاد أو يمنعه، بل هو ينفي وجوب البدء إن لم يقاتلونا. وقد وضعه بعض الكتَّاب في غير موضعه، وأنطقوا الإمام سفيان ـ رحمه الله ـ بما لم يقل به. انظر: «الجهاد والحقوق الدولية العامة في الإسلام» تأليف ظافر القاسمي، ص (160).
وهذا أحد القولين في مذاهب العلماء. وفي قول آخر أنه يجوز ذلك وهو الذي نصَّ عليه الشافعي في «المختصر». والمذكور عن أبي حنيفة: أنها لا تكون لازمة بل جائزة، فإنه جوَّز فسخها متى شاء. وهذا القول الثالث مال إليه ورجحه ابن قيم الجوزية واستدل له بجملة أدلة. انظر: «أحكام أهل الذمّة»: 2/ 674 ـ 094، وهذه المسألة جديرة ببحث مستقل.
انظر نصوص العلماء وأقوالهم في: «المبسوط»: 10/2 ـ 3، «الكافي في فقه أهل المدينة» لابن عبد البر: 1/466 المجموع شرح المهذب»: 18/47 ـ 48، «المغني»: 01 183 ـ 383.
انظر: «السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار» للشوكاني: 4/158 ـ 159. وهو بحروفه في «الروضة الندية» لصديق حسن خان: 2/479 ـ 480. وقارن بـ «أحكام أهل الذمّة»:2/ 674 ـ 094.
انظر: «الروضة الندية» 22/ 974 ـ 084.
انظر: «مصنفة النظم الإسلامية» د. مصطفى كمال وصفي، ص (339 ـ 341).
ولذلك لا يصح قول الدكتور محمد كامل ياقوت في كتابه «الشخصية الدولية في القانون الدولي العام والشريعة الإسلامية» ص (388): «إن الآية انصبت على تقرير مبدأ تحريم الحرب والقتال إلا في حالة وحيدة، حالة الدفاع ضد عدوان قائم وفي حدود هذا الدفاع، واعتبرت تعدي حدود الدفاع الشرعي عدواناً حرَّمه الشرع … وإن النصوص لا تجيز إلا قتال المعتدين، ثمَّ لا تجيز قتال المعتدين إلا إلى الحد الكافي لحسم عدوانهم دون التمادي في القتال».
يقول علماء اللغة العربية: إن «حتى» تدخل على الفعل المضارع فينصب بعدها بأن مضمرة وجوباً؛ وذلك مشروط بأن تكون دلالة الفعل بعدها على الاستقبال. لذلك يقول العلاَّمة جمال الدين محمد بن مالك الطّائي الجياني في كتابه «شرح الكافية الشافية»: 3/1542: «إنَّ (حتى) ينتصب الفعل بعدها بـ «أن» واجبةَ الإضمار. والغالب كون ما بعدها في النصب غايةً لما قبلها، كقوله ـ تعالى ـ: {لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْنَا مُوسَى} [طه: 91] . وقد تكون للتعليل وعلامتها أن يَحْسُن في موضعها (كي) … ولا يكون الفعل في الحالين إلا مستقبلاً». وفي ضوء هذا التوجيه اللغوي النحوي يفهم أن المراد من قوله ـ تعالى ـ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] الاستمرار في القتال حتى تمتنع الفتنة مستقبلاً؛ فهي إذن ليست في موضع الدلالة على أنه لا يكون قتال إلا إذا وقعت الفتنة على المسلمين. والله أعلم. وانظر أيضاً: «شرح ابن عقيل على الألفية»: 2/45 (المكتبة التجارية).
انظر: «تفسير الطبري»: 3/561 ـ 574، «تفسير مجاهد»: 1/98، «تفسير البغوي»: 1/212 ـ 214، «تفسير القرطبي»: 2/347 ـ 354، «أحكام القرآن» للجصَّاص: 1/260 ـ 261، «أحكام القرآن» لإلْكِيا الهراس: 1/121، «تفسير أبي السعود»: 1/240، «تفسير ابن كثير»: 1/ 722 ـ 822.
«فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير» للشوكاني: 1/ 191.
«تفسير الطبري»: 4/295 ـ 299، وانظر: «تفسير البغوي»: 1 542 ـ 642.
انظر: «صحيح البخاري»: 6/2579. وراجع «نصب الراية» للزيلعي: 3/ 844 ـ 944.
أخرجه مسلم: 3/ 7531.
انظر: «أحكام القرآن» للجصَّاص: 3/ 18.
انظر: «تفسير الطبري»: 14/134 ـ 135، «تفسير البغوي»: 4/13 ـ 14، «تفسير القرطبي»: 8 / 27.
انظر: «الصارم المسلول على شاتم الرسول» لابن تيمية، ص (282).
انظر: «أحكام القرآن» للجصَّاص: 3/111. وراجع «الطبري»: 41/ 142 ـ 242.
«في ظلال القرآن»: 3/ 2561.
انظر: «أحكام القرآن» للشافعي: 2/53، وله أيضاً «اختلاف الحديث» ص (56 و 157 ـ 158).
انظر: «تفسير الطبري»: 14/198، «البغوي»: 4/ 33 ـ 43.
انظر: «تفسير الطبري»: 14/198، «البغوي»: 4/33، «المحرر الوجيز»: 6/456، «أحكام القرآن» للجصَّاص: 3/91، «أحكام القرآن» لابن العربي: 2/919،، «تفسير المنار» لرشيد رضا: 01/043.
ليس هناك عقيدة مسيحية وعقيدة يهودية منزَّلة من عند الله تعالى، وإنما هي عقيدة واحدة ودين واحد بعث الله ـ تعالى ـ به جميع الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهو دين الإسلام وعقيدة الإسلام منذ آدم إلى أن ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، كما أخبر الله ـ تعالى ـ عنهم في كتابه الكريم في آيات كثيرة، كما في سورة البقرة (130 ـ 133) وآل عمران (67) والأنعام (162 ـ 163) والأعراف (126)... إلخ . وانظر: «الإسلام وعلاقته بالشرائع الأخرى» ص (11) وما بعد، لكاتب هذا المقال.
انظر: «الشخصية الدولية في القانون والشريعة الإسلامية» د. محمد كامل ياقوت، ص (405 ـ 406).
انظر: «تفسير الطبري»: 26/63، «تفسير البغوي»: 7/29، «زاد المسير من علم التفسير» لابن الجوزي: 7/413، «تفسير ابن كثير»: 4/182، «أحكام القرآن» للجصَّاص: 3/ 393.
«نيل المرام في تفسير آيات الأحكام» للسيد محمد صدّيق خان، ص (353 ـ 354).
انظر: «تفسير الطبري»: 14/574 ـ 575.
قال في «المعجم الوسيط» (2/974): «هَجَم المكانَ ونحوه هَجْماً: اقتحمه».
«أحكام القرآن» للجصَّاص: 3/ 261.
انظر: «في ظلال القرآن»: 3/1736 ـ 1737 بتصرف، وعن القول في دلالة النصوص والأحكام المرحلية والنصوص والأحكام النهائية على منهج الإسلام في الحركة والجهاد انظر أيضاً: 1564 ـ 1583 و 1620 ـ 0361.
أخرجه البخاري: 1/75، ومسلم: 1/ 35.
أخرجه النَّسَائي 7/75، وأبو داود: 3/334، والبيهقي: 3/ 29.
انظر: «الكاشف عن حقائق السنن» للعلامة حسين بن محمد الطيبي، ورقة (17).
(1) كان أول من كتب في ذلك: الشيخ عبدالوهاب خلاَّف، ثمَّ الأستاذ عبد الرحمن عزام، ثمَّ الدكتور محمد عبد الله دراز، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمود شلتوت، وتابعهم على ذلك من جاء بعدهم وأخذ عنهم، كالدكتور حامد سلطان، ومحمد سلام مدكور الذي كان له التأثير على أستاذنا الدكتور الزحيلي في رسالته: «آثار الحرب» حيث قال الدكتور مدكور في كتابه: «معالم الدولة الإسلامية» ص (20) بعد أن أشار إلى رسالة الدكتور الزحيلي: «... وكانت تحت إشرافي، وكان يتجه أولاً إلى هذا الرأي (الحرب أساس العلاقات) ولكنه أثناء الإعداد والتوجيه اقتنع بما أتجه إليه من أن الحرب في الإسلام دفاعية...».
(2) بخلاف ما أوهمه كلام الأستاذ ظافر القاسمي في كتابه عن «الجهاد والحقوق الدولية...» ص (160). ولذلك كان الدكتور محمد حافظ غانم ـ رحمه الله ـ دقيقاً في هذا عندما قال: «وقد ذهب بعض الفقهاء المعاصرين إلى القول بعكس ما تقدم، فقرروا أن الأصل في العلاقة بين الجماعة الإسلامية وغيرها هو السلم …» فهو رأي لبعض المعاصرين، فضلاً عن أن يكون رأي الفقهاء أو جمهورهم من المتقدمين. انظر: «مبادئ القانون الدولي العام» د. محمد حافظ غانم، ص (54).
(1) انظر: «تفسير ابن كثير»: 1/ 248.
(2) «تفسير الطبري»: 4/251 ـ 252. وانظر: «تفسير البغوي»: 1/240، «الكشاف» للزمخشري: 1/127، «المحرر الوجيز»: 2/197، «زاد المسير»: 1/255، «تفسير القرطبي»: 3/22 ـ 23، «الدر المنثور»: 1/579، «روح المعاني» للآلوسي: 2/99 - 100، «تفسير المنار»: 2/256 -259، «في ظلال القرآن»: 1/ 206 ـ 211.
(3) انظر: «تفسير الطبري»: 4/ 254 ـ 255.
(4) انظر: «البحر المحيط» لأبي حيان الغرناطي: 2/ 120 ـ 121.
(5) انظر: «تفسير البغوي»: 1/240، «أسباب النزول» للواحدي، ص (97).
(6) انظر: «تفسير الطبري»: 14/40، «تفسير البغوي»: 3/373، «المحرر الوجيز»: 6/363، «أحكام القرآن» للجصَّاص: 3/69، «تفسير القرطبي»: 8/39، «البحر المحيط»: 4/513، «تفسير ابن كثير»: 2/ 323.
(1) «شرح السِّير الكبير»: 5/1689.
(2) انظر: «مصنفة النظم الإسلامية» لأستاذنا الدكتور مصطفى كمال وصفي، ص (291).
(3) ذهب إلى القول بالنسخ: ابن عباس وقتادة ومجاهد وعكرمة والحسن رحمهم الله. انظر: «تفسير الطبري»: 14/ 41.
(4) «تفسير الطبري»: 14/42 ـ 43. وانظر كلاماً جيداً أيضاً في: 11/209.
(5) أحكام القرآن» للجصَّاص: 3/69 ـ 70 باختصار. انظر: «المبسوط» للسرخسي: 10 / 86.
(6) «الكشاف» للزمخشري: 2/133.
(7) ومما يجدر ذكره هنا توفيقاً بين الرأيين: أن معنى النسخ عند علماء أصول الفقه المتأخرين يختلف عنه عند المتقدمين؛ فهو عند الأصوليين: «رفع حكم شرعي بدليل شرعي متراخٍ». وأما عامة السلف فكانوا يطلقون النسخ على رفع الحكم بجملته تارة ـ وهو اصطلاح المتأخرين السابق ـ ويطلقونه على رفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة أخرى، إما بتخصيص العام أو تقييد المطلق أو حمله على المقيد وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخاً. فالنسخ عندهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه. ولعل هذا البيان يكون سبباً لتلاقي الرأيين في بحثنا، فالذين قالوا بأن آية السيف نسخت آيات الصبر والمسالمة... إنما يحمل كلامهم على المعنى الثاني للنسخ. والذين قالوا بأن الآية محكمة غير منسوخة أرادوا المعنى الأول للنسخ.
(8) انظر: «في ظلال القرآن»: 3/ 1580.
(1) انظر: «تفسير الطبري»: 9/70 ـ 71، «تفسير البغوي»: 2/ 269.
(2) انظر: «تفسير البغوي»: 2/ 268 ـ 269.
(3) انظر: «في ظلال القرآن»: 2/ 233.
(4) المرجع السابق نفسه.
(5) «تفسير الطبري»: 9/24 ـ 25. وراجع «تفسير القرطبي»: 5/308.
(1) «تفسير البغوي»: 2/260 ـ 261، وانظر: «أحكام القرآن» للجصَّاص: 2/221.
(2) «تفسير الفخر الرازي»: 10/229.
(3) انظر: «أحكام القرآن» للجصَّاص: 2/222.
(4) انظر: «العلاقات الدولية في الإسلام» لأبي زهرة، ص (49 ـ 50)، «آثار الحرب» د. الزحيلي، ص (134)، «العلاقات الدولية في الإسلام» د. الزحيلي، ص (97) وما بعدها.
(5) «العلاقات الدولية في الإسلام» د. الزحيلي، ص (101)، «آثار الحرب»، ص (135).
(6) المراجع السابقة.
(7) انظر «المدونة» للإمام مالك: 2/31 ـ 32، «اختلاف الفقهاء» للطبري، ص (195).
(8) «آثار الحرب»: د. الزحيلي، ص (136).
(9) نفسه، ص (137).
(10) «السياسة الشرعية» للشيخ عبد الوهاب خلاف، ص (71).

ايمان نور
06-17-2008, 06:37 PM
لى عودة إن شاء الله تعالى
وهذا رابط مفيد اسأل الله أن ينفع به
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=12685
حياك الله أخى ورفع قدرك