تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الأخوة الإسلامية



المهاجر7
05-25-2008, 10:55 PM
د. علي بن عمر بادحدح
الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون

معنىً عظيم من المعاني الإيمانية الإسلامية ، ومعلمٌ بارز من معالم الوحدة والقوة ، ومعالي الأمة ، يجدر بنا دائماً أن نكرر الحديث عنه ، وأن نعيد القول فيه ، وأن نكثر من التواصل به ، وأن نجاهد ونجتهد في التحقق بموجبه ، ولعلنا نُبرز أهميته من الواقع الذي وقع فيه ، وبدأ به ، عندما بُعث رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - . لقد بُعث - عليه الصلاة والسلام - في مكة المكرمة ، في العرب ، في قريش ، في تلك البقاع ، وقد كان لأولئك القوم علائقهم ، التي تربطهم وأواصرهم التي تشد بعضهم إلى بعض ، وكانت عندهم بعض معاني التلاحم ، وكثير من معاني الوحدة ، والنصرة والنجدة ، كانت عندهم حمية جاهلية ، وعصبية قبلية ، وطبقية متفاوتة مبنية على أسس أسسوها ، وقواعد أرسوها ، فكان قائلهم يقول مبيناً قوة تلك الرابطة وعظمتها :
وهل أنا إلا من غزية إن غوت **** غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
ويقول قائل العرب :
"لا يسألون أخاهم في النائبات على ما قال برهاناً " .
فهم ينصرون ، ويهبون ، وينجدون لأنهم تربطهم تلك العلاقة ، التي كانت بينهم .. {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية } . هي جاهلية ، لكنها كانت آصرة ، ورابطة كانت شيئاً يضم الأفراد بعضهم إلى بعض ، ليجعل منهم قبيلة واحدة ، أو ليجعل منهم مجتمعاً واحداً ، وجاء الإسلام ، وتنّزل القرآن ، وأشرقت أنوار الإيمان ، وبدأ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ينشر النور ، يضيء به القلوب ، ويشرح به الصدور ، ويسّكن به النفوس ، ويهدي به العقول ، ويرشد به البصائر ، فاستل من بين تلك الكثرة الكاثرة ، والجموع الغفيرة ، وتلك القواعد والعلائق نفراً من أصحابه ؛ أبو بكر - رضي الله عنه - ، علي - رضي الله عنه - ، عثمان – رضي الله عنه - ... خرج أولئك النفر الأوائل ، من ذلك المجتمع ، وكان خروجهم إلى الإيمان ، ودخولهم في الإسلام ، يعني أن تنبتّ علائقهم ، وأن تنقطع روابطهم ، وأن يكونوا نشازاً في ذلك المجتمع ، وأن يكونوا قلة في كثرة تخالفهم ، فكان لابد أن يُعوضوا عن الرابطة برابطة ، وعن الأواصر بأواصر ، وعن قوة التلاحم بتلاحم أفضل وأقوى . ومن هنا جاءت الأخوة الإيمانية ، والرابطة الإسلامية ، جاءت بديلة عن الحمية الجاهلية ، عن العصبية القبلية ، عن العلاقات المادية ، عن الأواصر النَسبية ، جاءت وجاء بها الإسلام ليجعلها بمنهجه أقوى ، وليجعلها أيضاً أرقى وأبقى ، فجاء الإسلام بهذا المعنى العظيم ، وجعله أقوى .
** أهمية الأخوة في الإسلام
ولننظر كيف جُعلت هذه الأخوة ، والآصرة أقوى من تلك العلائق الأرضية ، والعصبيات الجاهلية ، لقد ربطها المنهج الإسلامي بالإيمان ، فجعلها جزءً منه ، إنها ليست أمراً عارضاً ، إنها ليست نافلة من القوم ، إنها ليست مجرد علاقات شخصية ، يُمكن لي أن أقيمها مع أخي المسلم ، ويُمكن لي أن أقطعها . كلا ليس ذلك كذلك ، فلنستمع ولننتبه إلى الآيات التي نحفظها ونرددها عندما يقول الحق - جل وعلا - :{ إنما المؤمنون إخوة } .
ونحن نعلم أن هذا الأسلوب في لغة العرب ، أسلوب حصر وقصر - أي المؤمنون إذا كانوا كاملي الإيمان لا يكونون إلا إخوة والأخوة لا تكون إلا من مؤمنين صادقين في إيمانهم - فمقتضى الإيمان ؛ أخوة صادقة ، وحقيقة الأخوة الصادقة مستمدة من الإيمان ، فليس الأمر شيئاً عارضاً - كما أشرت - وهذا رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - يقول في صحيح مسلم في نص صريح واضح بيّن: ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) .
وحسبك بذلك بياناً وإعلاءً لمنزلة المحبة في الله والأخوة ، إنها دليل كمال الإيمان ، وعلامة وجوده ، وبرهان أثره في قلب المؤمن ، بل استمع إلى رسول الهدى - عليه الصلاة والسلام - وهو يبيّن الرقي ، والعلو ، والسمو ، والقوة لهذا المعنى المهم من معاني الإسلام والإيمان ، يقول - عليه الصلاة والسلام - : ( إن أوثق عُرى الإيمان ؛ الحب في الله ، والبغض في الله ) .
أي أقواها وأشدها ، وأحكمها ، وأمتنها الحب في الله ، والبغض في الله ، إن خفقة القلب، وميل النفس والمشاعر ، والأحاسيس عند المؤمنين ، لا تخضع للأهواء ، ولا تخضع للأمزجة ، ولا تخضع للمصالح ، بل هي مستمدة ومرتبطة بالإيمان ، والإسلام جعل الأخوة الإسلامية أقوى عندما ربطها بالإيمان ، وعندما ربطها بالتوحيد والإيمان ، وعندما جعلها قرينة ووجهاً لعملة واحدة مع الإيمان ، ليخرج أولئك النفر الذين بدأ الرسول - عليه الصلاة والسلام - بهم بعد أن قطعوا أواصرهم ، إلى أواصر أقوى ، وإلى أواصر أرقى ، فهي أرقى ، لأنها تسمو على كل المعاني الأرضية ، فليست تتعلق بعرق ، ولا ترتبط بجنس ، ولا تستند إلى لغة ، ولا ترتبط بتراب من الأرض ، أو قطعة منها ، ولا إلى هوية يحملها المرء يوماً ويتركها يوماً آخر ، بل جعلها أرقى وأسمى من ذلك ، عندما جعلها ترتبط بالله - سبحانه وتعالى - فتكون أخوة في الله ، وتكون محبة في الله ، وتكون نصرة لله ... ذلك يدل على أنها أرقى من كل ذلك ، فهي لا تقتصر على لغة دون لغة ، بل تجمع عربي وأعجمي ، ولا تقتصر بجهة دون جهة ، بل تربط شرقياً وغربياً ،ولا تتصل بمرتبة دون مرتبة ، فتجمع بين عالم ومتعلم ، ولا تقتصر على أي تفريق يفرق به الناس بين بعضهم في هذه الحياة الدنيا ، جُعلت لتكون أرقى وأسمى فتكون أشمل وأوسع فتجمع الناس ، ومن هنا ربطها الله - سبحانه وتعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بمزيدٍ من الأجر ، وعظيمٍ من الثواب حتى تتعلق بها القلوب ؛ وحتى تدرك أن لها مكانة سامية رفيعة ، وحتى تبرز أنها عند الله - عز وجل - بالمكان الذي يتعلق به العبد المؤمن المخلص لربه - سبحانه وتعالى - .
روى الترمذي في سننه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( المتحابون في جلال الله على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم الأنبياء والشهداء ) .
إنها منزلة رفيعة عالية ، إنها مكانة سامقة شامخة ، إنها أمر يسمو فوق كل الأمور الدنيوية العارضة ، إنها التي جمعت بين سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي والصحابة - رضوان الله عليهم - . أبو بكر من تيم ، وعمر من بني عدي ، وخالد من بني مخزوم ... كلهم ذابت بينهم الفوارق ، وتلاشت بينهم الاختلافات ، ولم يعد بينهم شيءٌ يميّزهم إلا الشعار القرآني الرباني : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } .
كذلك أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم – بقوله : { لا فرق بين عربي ، ولا أعجمي ، ولا أسود ، ولا أحمر إلا بالتقوى ، كلكم لآدم وآدم من تراب }
جعلها أرقى من هذه المعاني الأرضية ، التي يتصارع عليها الناس ، فيجتمعون عليها أو لأجلها أو لمصلحتها حيناً ، ويفترقون أحياناً كثيرة ، قد يجمعهم الدرهم والدينار لمصلحة ، ثم يكون أعظم سببٍ من أسباب تفريقهم ، قد تجمعهم دعاوى من القوميات أو العصبيات يتحمسون لها ، ثم يختلفون عليها ، ويتفرقون شذر مذر ، أما الأسمى والأرقى فهو ذلك الإيمان الجامع ، وهو ذلك الإسلام الذي يوّحد بين كل المختلفات لتكون شيئاً واحداً : { وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدونِ } .
ولقد منّ الله - سبحانه وتعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وعلى المؤمنين بمنن كثيرة ، لكن سياق القرآن يُبرز لنا المنة بتلك الأخوة ، لأنها من أعظم الأواصر وأقواها وأبقاها ؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - دعا المؤمنين فقال : { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } .
ويقول في سياق المنة على رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - :{ وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم }.
** الأخوة في مجتمع الرعيل الأول
والقرآن يذكر أن الألفة بين القلوب ، وأن الرابطة بين القلوب ، ليست صوراً ولا أشكالاً ، ولا مظاهر ، ولا مفاخر ، وإنما حقائق في أعماق القلوب ، وأغوار النفوس ، إنه الإيمان المُستكن في القلب ، واليقين الراسخ في النفس ، إنها المشاعر الصادقة الخالصة لله سبحانه وتعالى.
وجعلها أقوى وأرقى ، ثم جعلها أبقى ، تدوم ما دامت السماوات والأرض ، تمتد آفاقاً وآماداً طويلة من الزمن ، وتنتهي بعد الحياة الدنيا إلى الآخرة : { الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدو إلا المتقين } .
" إلا " استثناءٌ خاص بأهل الإيمان ؛ من المتقين الذين جعلوا آصرتهم في الله - عز وجل - ، جعلوا أخوتهم له - سبحانه وتعالى - ، إنها أخوة تمتد في الزمن كله ، لتخترق حاجز الحياة الدنيا ، وتمتد إلى الآخرة بإذن الله - عز وجل - . هذه الرابطة خرج بها أولئك النفر ، فجمعتهم بعضهم إلى بعض ، ثم جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - الأساس العظيم ، الذي أقام عليه مجتمع الإسلام ، وشيّد على أساسه بنيان دولة الإسلام ، عندما قدِم إلى المدينة ، فجاءت الصورة الفريدة النادرة التي لم يسجل تاريخ البشرية مثلها ، تلك الصورة التي افترضها النبي - صلى الله عليه وسلم - في مبدأ الهجرة ، أخوة بين المهاجرين والأنصار .. بين مهاجرين خلفوا ورائهم الأهل ، وتركوا الديار ، وتخلوا عن الأموال ، وتركوا مواطن الصبا ، وتركوا مراتع الطفولة ، وتركوا تاريخهم وحياتهم ، وخرجوا من ذلك كله ، وانقطعوا وانبتّوا من الدنيا وأسبابها ، وكان لابد أن يكون هناك تعويض ، وأن يكون التعويض أقوى ، وأرقى ، وأبقى ، وجاءت هذه الأخوة الإيمانية لتكون أصدق تعويض عن علائق النسب ، عن ما خلفوا ورائهم من الديار ، وعن ما استغنوا عنه ، أو تخلوا عنه من الأموال ، فإذا الأنصاري أخٌ للمهاجري ، وهو أعظم عنده ، وأحب إليه من أخيه ، من أمه وأبيه .
ولقد صور القرآن ذلك تصويراً عجيباً ، وبيّن أن أعماق النفوس والقلوب كانت متحدة مرتبطة ، قام على أساسها ذلك البناء الشامخ الذي شيده رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - فقال الله : { والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ممّا أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } .
يحبونهم محبة من أعماق القلوب ، ولا يجدون في صدورهم شيئاً ولا حرجاً .. أن فتحوا ديارهم ،أن قسموا أموالهم ، أن بذلوا محبتهم ،أن فتحوا كل شيء ليقتسمه إخوانهم معهم ، بل وقد زادوا على ذلك { يؤثرون على أنفسهم ولو كان لهم خصاصة } وحسبك بذلك منزلة لو كانوا في فقر وشدة وحاجة كانوا يؤثرون إخوانهم ، ويقدمونهم على أنفسهم مرتبة عالية ، وصورة مشرقة ، وآصرة فريدة ، وعلاقة وطيدة ، لا تكون إلا في ظلال الإيمان ، ولا تكون إلا على مبدأ الإسلام ، أقام عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك البناء الأول ، والمجتمع الأمثل .
ونعرف القصص الكثيرة ، في تلك المؤاخاة الفريدة ، كما ثبت في مؤاخاة عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع ، عندما حلّ عليه ضيفاً وأخاً ، فقال سعد - رضي الله عنه - لعبد الرحمن : هذا مالي أشطره شطرين ؛ فلك نصفه ، ولي نصفه . وهاتان زوجتيّ اختر إحداهما فأطلقها ، فتعتد فتتزوجها ، فقال عبد الرحمن : " أمسك عليك زوجك ، وأبقِ عليك مالك ، ودلني على السوق " . ثم فتح الله عليه .
صورة من الأخوة والوحدة قوية عظيمة وطيدة ، بنى عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - المجتمع المسلم ، واستمرت ودامت ، فكانت قوته ومتانته ، التي لم تسمح مطلقاً بأي فارق ، وبأي شيءٍ يغيّر بين الناس من أهل الإيمان والإسلام ، بل قد جعلت أخوة الإيمان أعلى ، كما كان مصعب - رضي الله عنه - عندما انجلى غبار بدر ، بنصرة الإسلام والمسلمين ، وإذا أحد الأنصار معه أسير ، هو الأخ الشقيق لمصعب - رضي الله عنه - فيقول مصعب للأنصاري : شد عليه وثاقه فإن له أماً تفديه . فيقول شقيق مصعب : أهذه وصاتك بي يا مصعب ! قال : هو أخي من دونك .
تلك المعاني هي التي شُيد عليها بناء الإسلام ، ومن هنا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرص ما يكون على هذه الأخوة ألا تخدش ، وألا تغيّر ، وما من موطن إلا وكان - عليه الصلاة والسلام - يؤكد عليها ، ويحثّ عليها ، وينبه على أجرها ، ويذكر مثوبتها ، ويؤكد على معانيها ، ويحذّر من خطرها ، ويوم كانت هذه الأخوة قائمة ، كان - عليه الصلاة والسلام - دائم الاطمئنان لا يجزع ، لأنه يعلم أن القلوب متآخية ، وأن النفوس متآلفة ، وأن وحدة الإيمان جامعة ، وأن آصرة الإسلام موحدة ، فليس هناك شيءٌ يُخشى عليه إذا وجد الإيمان بالله - سبحانه وتعالى - ، والأخوة مع المؤمنين ؛ فإن أسباب المادة بعد ذلك تكون شيئاً عارضاً ، يقوى بها أهل الإسلام ، ويمكنون في الأرض بإذن الله .
في يوم الأحزاب وهو ذلك اليوم العصيب الذي وصفه الله عز وجل بقوله : { إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك أبتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديدا } .
في ذلك الموقف العصيب يقول - عليه الصلاة والسلام - عندما بلغه خبر نقض بني قريظة من يهود بعهدها ، فكان ذلك آخر الخطب ، وأعظمه ، وأفدحه في ذلك الموقف العصيب ، يكبّر النبي - صلى الله عليه وسلم – ويقول : الله أكبر ، الله أكبر ، أبشروا .. يبشر أصحابه ، لأنهم قلوب متآلفة ، و صفوفاً متراصة ، ووحدة لا يُخشى معها بإذن الله - عز وجل - على أهل الإيمان .
ومن ثم ينبغي لنا أن نعرف هذه الآصرة ، وأن نعرف قيمتها ، وأن نعرف قوتها ، ورقيها وبقائها ، ونعرف أنها أساس لمجتمع الإسلام ، ولدولة الإسلام ، ولقوة الإسلام ، في كل زمان ومكان ، وأنها متى ما سرى إليها الضعف ، ومتى ما استعاض المسلمون بغيرها ، فإنهم حينئذٍ يتفرقون ، وما أكثر أسباب التفرق ، وما أكثر مرجعيات هذا التفرق ، يمكن أن ينقسم الناس إلى عرب ، وإلى عجم ، والعرب من بعد ينقسمون إلى أهل شام ، وأهل حجاز ، وأهل نجد ، وأهل مصر ، وأهل يمن ، ثم في كل بلد يُمكن أن ينقسموا إلى شرق وغرب ، ثم في كل مصر صغير يمكن أن ينقسموا إلى قبائل ، وإلى عوائل ، حتى يصبح ذلك الجمع الهائل من أمة الإسلام أوزاعاً مقطعة ، وأشلاءً ممزعة ، تدوسها الأقدام ، ولا يلتفت إليها الناس .
نسأل الله - عز وجل - أن يديم أخوتنا فيه ، وأن يعقد بين قلوبنا بآصرة الإيمان وأن يوحد بين صفوفنا بوحدة الإسلام .
الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون

إن أمر الأخوة الإسلامية عظيم جداً ، وإن كثير من الناس ينظر إلى هذا الموضوع ، أو الأمر ، فيراه معروفاً ، ويراه أمراً لا نحتاج تكرار قوله ، وليس الأمر كذلك فكم نرى من اهتمام النبي - صلى الله عليه وسلم - بأي تأثير ، وأي خلل ، وأي شائبة ، قد تعترض هذه الأخوة لماذا ؟ لأنها سبب فرقة ، لماذا؟ لأنه من بعدها يكون الخلاف ، لماذا ؟ لأنه من بعد ذلك يكون النزاع والشقاق ، وتكون الحالقة التي قال عنها النبي- صلى الله عليه وسلم - :( لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ) .
ما الذي أضعف أمة الإسلام ؟ فرقة بين الصفوف .. عصبيات جاهلية استجدت من جديد .. قوميات وعرقيات ، وتفريق وهويات وبلاد وغير ذلك من الأمور ، حتى صار المرء ينكر نفسه ، لا يعرف هل هو من أمة الإسلام ، أو هو من قبيلة كذا ، أو من بلد كذا ، كأن الأواصر قد انقطعت ، كأننا حينئذٍ لم نستشعر ما يجري ، أو ما يكون ، أو ما ينبغي أن نشعر به لإخواننا المسلمين هنا أو هناك ، تأمل ماذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحذر منه ويخوّف منه .
في الصحيح من حديث جابر - رضي الله عنه - : ‏غزونا ‏ ‏مع النبي -‏ ‏صلى الله عليه وسلم - ‏ ‏وقد ‏ ‏ثاب ‏ ‏معه ناس من ‏ ‏المهاجرين ،‏ ‏حتى كثروا ، وكان من ‏ ‏المهاجرين ‏ ‏رجل ‏ ‏لعاب ‏، ‏فكسع ‏ ‏أنصارياً ‏، ‏فغضب الأنصاري غضبا شديدا ، حتى تداعوا وقال الأنصاري : يا ‏ ‏للأنصار ، ‏ ‏وقال المهاجري يا ‏ ‏للمهاجرين ‏ ‏فخرج النبي -‏ ‏صلى الله عليه وسلم -‏ ‏فقال : ‏ ‏ما بال ‏‏دعوى‏ أهل الجاهلية ؟‏ ثم قال : ما شأنهم ؟ فأخبر ‏ ‏بكسعة ‏ ‏المهاجري الأنصاري ، قال : فقال النبي -‏ ‏صلى الله عليه وسلم - :‏ ‏دعوها فإنها خبيثة ، وقال ‏ ‏عبد الله بن أبي بن سلول :‏ ‏أقد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى ‏ ‏المدينة ‏ ‏ليخرجن الأعز منها الأذل ، فقال ‏‏عمر :‏ ‏ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث ‏! ‏ ‏فقال النبي ‏ - ‏صلى الله عليه وسلم - :‏ ‏لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه.
هنا يدخل الشيطان .. هنا يجد المنافقين طريقاً معبدة ، ليشقوا الصفوف ، ولننتبه إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، : ( إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تحسسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخوانا ) .
لن تتحقق أخوة بذلك وإذا وُجدت الأخوة فلا تحاسد ، ولا تباغض ، ولا تدابر . ما بالنا نرى في النفوس نُفرة ، وفي القلوب افتراقاً ، وفي الصفوف خللاً ، وهناك إعراض ، وهناك تدابر ، وهناك لمز بالقول ، كل ذلك لأن الأخوة ليست معمقة في القلوب ، ليست حية في النفوس ، خطأ يسير كان - عليه الصلاة والسلام - يحذر منه أشد الحذر .
هذا أبو ذر - رضي الله عنه - يخبرنا عن نفسه ؛ وهو أنه كان معه غلاماً له فغضب منه لأمر من الأمور ، فعيّره بأمه - في بعض الروايات أنه كانت له أم أعجمية – قال : فسببته فعيّرته بأمه ، فبلغ ذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم – فقال ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) الصحابي الجليل أبي ذر - رضي الله عنه - خامس خمسة ، من السابقين إلى الإسلام الرجل العظيم الزاهد ( إنك امرؤ فيك جاهلية ) !! .
قال ابن حجر - رحمه الله - : وفيه أن المعاصي من أمر الجاهلية ، فقد جعلها النبي خصلة من خصال الجاهلية ، لأنها سبب للتفريق على غير أساس الإيمان والتقوى ، ومن هنا ندرك أنه - عليه الصلاة والسلام - كان شديد الحذر والتنبيه حتى قال : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً ، يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
وأين يكونون كفاراً ؟ قال أهل العلم : أي يشبه فعلكم عند اختلافكم فعل الكفار ، فيقتل بعضكم بعضا ، ونرى ذلك بأم أعيننا في واقع المسلمين اليوم .
إن الأخوة التي نتحدث عنها ، والتي ربما يقول البعض إن حديثها معاد ، ومكرر ، ما كان عليه - الصلاة والسلام - يترك مناسبة ، ولا فرصة ، إلا ويؤكد عليها ، ويحذّر من ضدها ، ولو نظرنا إلى حقيقتها ، لعرفنا أنها تجمع القلوب ، وتؤاخي وتآلف بين النفوس ، وأنها تجمع الصفوف ، وأنها تزيل الأحقاد ، وأنها تذهب الضغائن ، وأنها يتحقق بها التعاون ، وأنها يتجسد بها التكافل وأنها تكون عامل القوة والوحدة للأمة ، وأن من وراءها خيراً كثيراً لعل حديثنا يعود إليها مرة أخرى .
نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يزيل من قلوبنا الشحناء والبغضاء عن أهل الإيمان ، نسأله - سبحانه وتعالى - أن يؤلف بين قلوبنا ، وأن يؤاخي بين نفوسنا ، وأن يجعل الإيمان آصرة علاقتنا ، وآصرة جمعنا ووحدتنا.