تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : النكبة «المؤامرة» بلسان أصحابها



من هناك
05-14-2008, 03:19 AM
النكبة «المؤامرة» بلسان أصحابها


اليهود ارتكبوا المجازر و«جيش الإنقاذ» أخرج القرويّين والدبابات لم تأتِ



http://www.al-akhbar.com/files/images/p21_20080514_pic1.full.jpg

الوثيقة الرسميّة التي أُعلنَت بموجبها الدولة الإسرائيليّة عام 1948 (أ ب)


قد تكون رواية النكبة موحّدة في السردالعسكري التقليدي، لكن الاستماع لتفاصيل من معاصريها يعطي صورة أخرى، وخصوصاً أن «المؤامرة» قد تكون كلمة يجمع عليها الجميع. «مؤامرة» لا تظهر في الرواية العربية الرسمية
حسام كنفاني

في أزقّة المخيم الضيقة لا يزال للذكرى مكان. يمكن رؤيتها في كل زاوية، ملامحها مرسومة على الجدران، وشعاراتها مرفوعة في المنازل، وتفاصيلها محفورة في أذهان قلّة باقية شهدت المعركة ومجازرها. يتوقون إلى مكان، الأرض وبستان التين وحقل الزيتون.
الدمعة اسم موازٍ للذكرىحديث عن أيار 1948 من دون أن تغرورق العيون. لم تمحُ الـ60 عاماً الماضية من المعاناة مرارة الخروج الأول. وحشة المكان لا تزال تسكن الكثيرين منهم. بعضهم لا يزال يأمل بالعودة لزراعة أرضه وحصاد حقله. لم يكن اللجوء مجرد انتقال من مكان إلى آخر، كان انتزاعاً من الجذور، وسلب أسلوب عيش. كان ببساطة سرقة حياة كاملة.
النقمة ليست على اليهود فقط، هناك مؤامرة في أذهان كل من يحدثك عن الأيام السابقة للنكبة. «مؤامرة عربية»، هكذا يقولون، ولا يتوانى بعضهم عن الحديث عن رشى دُفعت لدول عربية للسكوت، ويستدل على ذلك بالسؤال: «كانت الضفة الغربية وقطاع غزة بأيدي العرب بعد النكبة، لماذا لم يدع الفلسطينيين للسيطرة عليها وحكمها؟». سؤال لا جواب حاضراً له.
مخيم برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت، يصغر النكبة بعام واحد. عام 1949 شهد خيمة اللجوء الأولى. خيمة تحوّلت إلى خيم، ثم إلى بيوت متراصة لا تعرف الشمس وأزقة تشبه المتاهة.
رغم مرور ستين عاماً، لا يزال في المخيم عشرات الرجال والنساء الذين عايشوا مرحلة النكبة والخروج، الذي كان من المفترض أن يكون مؤقتاً. قد يكون أكبرهم إلحاح خالد أحمد الحسن (82 عاماً). يلقبونه بـ«مختار الزعتر»، نسبة إلى مخيم تل الزعتر الذي دُمر خلال الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976.
الحسن لا يتحدث كثيراً عن الجرائم والمجازر والقصف والمعارك. تسكنه الأرض بتفاصيلها التي لا يزال يذكرها جيداً. هو من قرية الحولة في قضاء صفد، كلمته الأولى لدى سؤاله عن ذكرياته كانت «كنا مرتاحين، الأرض خصبة، والمياه وفيرة». لا يزال يحيا في ظروف الزراعة، حتى إنه يستذكر سعر الأبقار بالجنيه الفلسطيني.
يفتتح حديثه عن ذكريات بالنكبة بالإشارة إلى دخول اليهود إلى الحولة في شباط من عام 1940. كانوا 28 عائلة، كما يقول الحسن، ومختارهم روسي اسمه الخواجة إبراهيم أبانوفيتش. ويتابع «قضينا ست سنوات أو سبعاً متجاورين، لم تعكرها إلا مناوشات على الأرض ورعي المواشي التي كان يملكها الفلسطينيون».
قرار التقسيم عام 1947 مثّل مرحلة حاسمة في العلاقة الفلسطينية اليهودية في الحولة. يصرّ الحسن على تجنب الحديث عن تفاصيل المعركة، إلا أنه يطلق تنهيدة طويلة بين الجملة والجملة، ويقول «بلادنا انباعت». ويتابع «ضغطت علينا زعاماتنا للخروج، طلبوا منّا تحييد الحريم والأطفال، أرسلناهم إلى قرية الغجر على الحدود اللبنانية وعدنا إلى البلدة». غير أن المكوث في الحولة لم يدم طويلاً، «كان على الرجال العودة إلى الغجر لإغاثة عائلاتهم من عاصفة ضربت البلاد في نيسان من عام 1948».
العودة إلى الغجر كانت بمثابة النهاية للحسن، الذي بقي قرب عائلته لتأمين قوتها. قبل الانتقال إلى الدامور، ثم تل الزعتر، الذي كان النكبة الثانية خلال المجزرة التي شهدها المخيم. مجزرة خسر خلالها الحسن أحد أبنائه وأضاع بعدها كل ذكرى جلبها من فلسطين، فلم يعد لمفتاح البيت وأوراق الطابو أثر.
طه عبد العال (72 عاماً) أضاع أوراقه أيضاً، لكن في بلدة قانا. كان في الثانية عشرة من عمره يوم النكبة. عاد من دراسته في عكا إلى بلدته الغابسية (قضاء عكا) في نيسان 1948 لقضاء فرصة الفصح، لكنه لم يعد. في القرية كانت أنباء المجازر تثير الرعب في نفوس الأهالي. وصادفت في تلك الفترة معركة شرسة بين العصابات الصهيونية والقرويين وجيش الإنقاذ، الذين تمكنوا من إلحاق الهزيمة بالعصابات التي كانت متوجهة إلى مستوطنة جدين.
وبدل أن يثير الانتصار فرح القرويين، تحوّل إلى قلق بعد دخول الطائرات في المعركة. ويقول عبد العال «أهل القرى كانوا مسلحين ببنادق قديمة ومسدسات، وما كان في استطاعتهم مواجهة الطائرات». هنا دخل «جيش الإنقاذ» على الخط. ويشير عبد العال إلى أن «الجيش أصدر بياناً طلب من الأهالي المغادرة حتى تتمكن قواته من التصدي لليهود». ويتابع «للأسف الناس صدقت هذا الكلام»، الذي عدّه «مناورة، لأن جيش الإنقاذ والدول العربية والحكام عملوا لصالح احتلال إسرائيل لفلسطين». ويوضح «جيش الإنقاذ كان يقول اطلعوا أسبوعاً أو أسبوعين ثم تعودون. وكان كله كذباً ونفاقاً».
حسرة عبد العال الكبرى كانت على الخروج، ولا يزال نادماً على تصديق دعوات «جيش الإنقاذ». حسرته تضاعفت عندما عاد إلى فلسطين في عام 1973 في إطار زيارات «لمّ الشمل». ذهب حينها لزيارة عمه في قرية كفر ياسين قضاء عكا. ويقول «فور وصولي إلى كفر ياسين، طلبت الذهاب إلى الغابسية». ويتابع «لحظة دخول القرية ركعت على الأرض وغرقت في البكاء وأخذت أشم عطر الأرض ولطخت وجهي بالتراب».
لا ينسى عبد العال إلى اليوم صورة القرية المهجورة «البيوت مهدمة، لم يكن هناك إلا المسجد الذي تحوّل إلى حظيرة للبقر. حاولت الذهاب إلى بيتنا، إلا أنه كان غارقاً وسط غابة من الأعشاب فلم أستطع الدخول».
محمد أبو حسن (77 عاماً) من سعسع قضاء صفد. كان واعياً لكل ما حدث. يقول «كان اليهود يأتون في الليل مستخدمين بغالاً ومعهم متفجرات، وكان معهم عملاء من البلد أو القرى المجاورة، لأن الدروب التي كانوا يستخدمونها كانت مجهولة حتى لأبناء البلد».
ويتذكّر أبو حسن إحدى ليالي آذار الماطرة. ويقول «استيقظ الناس على عاصفة من المتفجرات. فتحت باب منزلنا لأجد أن المنازل المقابلة لنا أصبحت حطاماً». ويتابع «لجأ الناس إلى المشاعل للعمل على رفع الأنقاض، وانتشلنا 13 جثة، بينها لعروسين تزوجا قبل يومين».
ويستذكر السبعيني كيف كانت العلاقة بين اليهود والعرب قبل النكبة. ويسرد «كان اليهود أقليّة ولم نكن نفكر بأن الأمور ستتحوّل بهذا الشكل. كنا نعامل اليهود أحسن معاملة ونشتري منهم، حتى إن أحدهم كان يسكن في قريتنا ويعمل في صناعة الأجبان والألبان».
تفاصيل يوم الخروج لا يزال حاضراً في ذهنه وكأنه أمس. ويقول «أتى جيش الإنقاذ إلى البلدة ووضع السلاح والمدفعية على أطرافها وطلب منّا المغادرة». ويضيف «الناس ذعرت من المجازر، وكانت أنباء ما حدث في دير ياسين والصفاف، تتردد على ألسنة الجميع، ففضلنا الخروج». ويتابع «كنا مطمئنين إلى أن خروجنا لن يطول وأننا لا بد عائدون بعد أسبوع أو أسبوعين».
حديث المؤامرة يطل برأسه مجدّداً، وهذه المرة على لسان «أبو حسن» الذي يؤكد أن «المؤامرة كبيرة علينا، ودخلت فيها دول عربية. أتى جيش الإنقاذ وطلب منا عدم القيام بأي عمل ضد اليهود على أساس أنه سيحرر فلسطين»، إلا أن هذا لم يحدث.
محيي الدين عمر شحادة (80 عاماً) من قرية كويكات قضاء عكا. كان شرطيّاً يخدم في حيفا، وشهد التعاون البريطاني ـــ الصهيوني منذ قرار التقسيم وكيف نُقل السلاح من مخازن الإنكليز إلى اليهود.
مع اشتداد المعارك، انتقل شحادة إلى بلدته، التي كانت تستهدف بتفجيرات. وقال «كنا نجري مناوبات حراسة ليلاً لمواجهة المتسللين إلى القرية». ويشير إلى أن مواجهات جرت بين القرويين والمتسللين وأدت إلى مقتل أشخاص من الطرفين.
ويستذكر شحادة دخول جيش الإنقاذ إلى القرية «طلبوا من الناس عدم القتال على اعتبار أنهم سيقاتلون بالنيابة عنهم». ورغم ذلك شارك مع غيره من القرويين في القتال، إلا أن اشتداد المعارك وتدخّل الطائرات والمدفعية لم يتركا مجالاً للبقاء «طلبوا منا أخذ الأطفال والنساء والخروج من البلدة ريثما يُصدّ الهجوم الصهيوني، فخرجنا إلى عيتا الشعب في لبنان».
من عيتا الشعب لم يوقف شحادة مقاومته، لكنه رأى «المؤامرة بأم عينيه». فقد نقل معه أثناء الهجرة بندقيته للدفاع عن نفسه وأهله. ومع الاستقرار في البلدة اللبنانية سعى إلى العودة إلى فلسطيني للمشاركة في المعارك «إلا أن الأمن اللبناني منعني، وصادر البندقية، وعندما اعترضت قالوا لي سنسجل رقمها ونحتفظ بها ثم نستدعيك لاستلامها». 60 عاماً مرت ولا يزال بانتظار الاستدعاء واستعادة البندقية.
قد تكون معركة الكابري، نسبة إلى القرية التي تحمل الاسم نفسه في قضاء عكا، مفصلية في بدء النزوح عن القرى في وسط فلسطين وشمالها. محمد عثمان دغيم (72 عاماً) من قرية الكابري، كان شاهداً على المعركة التي انتصر فيها القرويون وجيش الإنقاذ على مجموعة من عصابة «الهاغاناه» وأوقع بينهم أكثر من 90 قتيلاً.
كان ذلك في آذار من عام 1948، يروي دغيم «بدأت المعركة قرابة الثانية ظهراً، كانت هناك معلومة لدى جيش الإنقاذ أن قافلة يهودية ستتوجه إلى مستوطنة جدّين». ويتابع «كنا نلعب في الحارة ورأينا العساكر يركضون باتجاه المقبرة. أهل البلد أخذوا سلاحهم. لحقوا بهم. وما هي إلا لحظات حتى بدأ إطلاق النار».
ويضيف دغيم «بعد ساعة رأينا عساكر الإنقاذ يركضون باتجاه البلد فأوقفهم أهل القرية وأعادوهم إلى ميدان المعركة»، التي انتهت عند المغرب. في صباح اليوم التالي، ذهب الطفل دغيم ورفاقه لمشاهدة أرض المعركة، ويروي «رأينا الدبابات محترقة، وكان هناك أربع جثث لا تزال في الميدان، بينها واحدة لامرأة». وبعد يومين، شنت العصابات الصهيونية حملة مضادة مستهدفة القرى الساحلية، ففضل أهل الكابري الانتقال إلى ترشيحا.


http://www.al-akhbar.com/files/images/p21_20080514_pic2.jpg
جنود بريطانيّون يساعدون اليهود للعبور إلى البرّ الفلسطيني عام 1948 (أ ب)


وحصل ما توقعه أهل القرية، التي دخلها اليهود، الذين لم يجدوا سوى بعض العجائز الذين رفضوا المغادرة. ويقول دغيم إن الجنود المجتاحين اعتقلوا أحد العجائز، الذي لا يزال يذكر اسمه (محمد النحفاوي)، وذبحوه على ركبة صديقه وقالوا له «اذهب وقل ما شاهدت». بعدها فجروا بيوت القرية بأكملها.
في ترشيحا، عمد جيش الإنقاذ إلى صد اليهود، ونجح في ذلك لستة أشهر، إلى أن انكسرت جبهة صفد، فباتت الطائرات تقصف البلد. ويتذكر دغيم أن والده كان يقاتل مع جيش الإنقاذ، ومع اشتداد المعارك قال للضابط المسؤول عنه: «إذا كان الأمر خطيراً فقل لنا لنخرج النساء». فرد الضابط بالقول «الآن اتصلت بالقيادة في لبنان وسوريا وقالوا لي إن الطيارات والدبابات في الطريق»، إلا أن أحداً لم يأت.

جيش الإنقاذ تنخره الفوضى
بعد صدور قرار التقسيم، أسست جامعة الدول العربية لجنة عسكرية لجمع المتطوعين من الأقطار العربية وتدريبهم وتسليحهم ضمن تشكيلات شبه عسكرية أطلق عليها «جيش الإنقاذ»، وتولى قيادته العامّة اللواء الركن إسماعيل صفوت (العراق)، يساعده العقيد محمود الهندي (سوريا) للإدارة، والمقدّم شوكت شقير (سوريا)، والرئيس وصفي التل (الأردن) للعمليات، وتولى العقيد طه الهاشمي (العراق) منصب المفتش العام للجيش، وأسندت إليه مهمّة التدريب والتنظيم.
بدأ التجنيد في صفوف جيش الإنقاذ في بداية عام 1948، وانخرطت في صفوفه فئات مختلفة من الضباط والجنود السابقين والطلاب والموظفين والعمال والفلاحين. وتألفت سرايا من مدن ومناطق مختلفة مثل السرية الحلبية والسرية اللبنانية وسرية الفُراتين وفوج جبل العرب والمفرزة الحموية والمفرزة الشركسية والمفرزة الإدلبية، والمفرزة الأردنية والمفرزة البدوية. كما كان هناك متطوعون من بلاد إسلامية أيضاً.
وقد درّب هذا الخليط من المتطوعين في معسكرات بالقرب من دمشق تدريباً بسيطاً. وكان سلاحهم خفيفاً وقديماً. وبسبب هذا الخليط من القوات غير النظامية، سادت الفوضى وسوء التنظيم.