تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : لبنان: وللحرية ايضاً بدائلها في السجن



من هناك
04-18-2008, 03:29 AM
وللحرية أيضاً بدائلها... في السجن


http://www.al-akhbar.com/files/images/p09_20080418_pic1.full.jpg
أسير فلسطيني يرفع شارة النصر خلال نقله إلى السجن. (أرشيف ــ رويترز)
مهى زراقط



يعود ابن السابعة عشرة من غرفة التحقيق منهكاً من التعذيب. يرتمي على أرض زنزانته. تروح عيناه وتجيئان في أرجائها. الفراغ يعمّ كلّ شيء. ينقّل جسده من زاوية إلى أخرى متحاملاً على ألمه الذي يتضاعف كلما مرّ الوقت. ألم لا يُحتمل والصراخ ممنوع. آخر مرة صرخ فيها محاولاً الحديث مع رفيقيه اللذين أُسرا معه كان الضرب جزاءهم. فجأةً، يلمح نبيه عواضة شيئاً يعرفه عند أسفل الحائط. كلمات بالعربية، حيث كل شيء عبري، مكتوبة بقلم رصاص.



«أنا فلان. مررت قبلك هنا. لا تخف لن تطول فترة التحقيق».

يتدفق الدم سريعاً في عروقه. الألم يتضاءل. يلملمُ جسده ويروح يقرأ ما خطّه أسرى سابقون مرّوا قبله في غرفة التحقيق. نصائح وعبارات ترفع المعنويات «احتفظ بحبات الزيتون، اصنع منها مسبحة. اكتب رسالة لمن سيأتي بعدك. كتبت لك بالورقة الفضية التي تأتي في علبة الدخان، استخدمها».

أسماء وأسماء لأشخاص قاسوا ما قاساه ولم يعودوا هنا. الحياة لم تنته إذاً عندما أُسر في العملية. كيف يخبر رفيقيه؟ «استعمل اسماً غير اسمك للحديث مع رفاقك في الزنازين الأخرى».
لا يتردد، يروح يصرخ «أنا زياد، كيفك يا رضا (قاصداً أحمد)».

هكذا... منذ الأسبوع الأول بدأ نبيه، كما كلّ أسير، محاولات ابتكار طرق بديلة تتيح استمرار الحياة. أهمها محاولة تقبل التعذيب الذي يتعرّض له: «أقنعت نفسي بأنني أجمل بشعر حليق، وأن لا أكترث عندما كانوا يجرونني بعصا في ساحة... لكن طبعاً لا بديل عن الألم والقهر». حلول أخرى للتواصل مع الآخر: «بعد كل تحقيق كنت أعود وفي بالي هاجس واحد، أن أخبر رفيقيّ ما حصل لكي لا يقولا شيئاً مختلفاً. صرت أقول ما أريد بشكل مغنّى. كأن أردد وفق إيقاع معيّن: «لون السيارة أبيض. نحن كنا 6 وما كنا 9».

تمرير الوقت، كي يشعر الأسير بأنه لا يزال حياً، كان يفرض البحث عمّا يلهي: «كان معي منشفة مقسّمة إلى مربعات صغيرة، صرت ألعب عليها الداما مع نفسي بحبات الزيتون التي جمعتها. وفي أحيان أخرى كنت ألهي نفسي بحفّ هذه الحبات لأصنع منها مسبحة».

لا يختلف الوضع كثيراً مع الانتهاء من التحقيق والانتقال إلى الزنزانة رغم وجود تسهيلات إضافية للحياة. «الراديو موجود ولالتقاط موجات إذاعة لبنانية لجأنا إلى تفكيك راديو آخر وسحب شريط معدني صنعنا منه هوائياً». كما تعلّم أيضاً الانضباط والتزام شروط المجموعة «كنا نصوّت لمشاهدة برنامج تلفزيوني. نتقاسم المبالغ المالية التي تُرصد لنا لنشتري تموين الزنزانة. نمتنع عن النقاش المثير للخلافات»... وأيضاً: «التزمنا تعليمات ردعية تجنباً للإثارة الجنسية. المزاح باليد كان ممنوعاً، والمشاهد الجنسية في الأفلام كنا نغيّرها».

ومع الانتقال من سجن إلى آخر، تعلّم نبيه وسيلة جديدة لنقل المعلومات الأمنية وهي ابتلاعها في كبسولة ورقية بعد لفّها بورقة نايلون: «يفترض أن تخرج الكبسولة في الحمام، وكان الإسرائيليون يعرفون ذلك فيعمدون إلى إطالة مدة الرحلة لكي نضطر إلى الدخول إلى الحمام قبل الوصول. كثيراً ما ابتلع الأسرى الكبسولة، بأوساخها، عدة مرات قبل إيصالها».

الأم موجودة أيضاً، بعدما تبنّته أم نمر، والدة أسيرين فلسطينيين كانا معه في سجن عسقلان. حتى الحب شعر به هناك «كان اسمها منال. كان يحق لها زيارة مدتها نصف ساعة كل أسبوعين تقسمها مناصفة بيني وبين شقيقيها».

الاسم، أسلوب التواصل، وسائل التسلية، العاطفة... ليست إلا بدايات التعرّف إلى وسائط جديدة لحياة بديلة. لكن مع مرور الوقت صارت لنبيه وجهة نظر مختلفة ونظرة أعمق إلى حياته الجديدة التي استمرّت عشر سنوات، دخلها فتى يافعاً وخرج منها رجلاً.

«حين أتذكر قصة الحب تلك، أدرك كم تختلف أحلام العاشق السجين عن العاشق الحرّ. لم أحلم يوماً ببيت وعائلة، بل بالذهاب معها إلى جزيرة بعيدة عن كلّ الظروف التي ولدت فيها علاقتنا». أكثر من ذلك، كلّ علاقة مع أي أسير آخر كانت محاولة للهروب من السجن: «أدركت أن العلاقة بين أسير وآخر، في زنزانة واحدة، هي الخبرية. يروي لي قصته فأعيشها معه والعكس... ذلك أن في الأسر أيضاً «حرية بديلة» يقول نبيه ضاحكاً: «كنت كلما وضعت رأسي على الوسادة ذهبت إلى أبعد نقطة في طفولتي لأكبر مع ذاكرتي القديمة محاولاً رسم سيناريو مختلف لنفسي. أكثر من مرة غيّرت العملية كي لا أؤسر...». ويجيب بثقة عن سؤال أخير: «طبعاً لم أغيّر يوماً قرار التحاقي بالمقاومة».



لا غرابة... ألم تكن المقاومة، منذ البداية، خياراً بديلاً لحياة تحت الاحتلال.