تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مسلمو أوروبا والإساءات.. ما وراء التفاعل الهادئ مع الإساءات؟!



مقاوم
04-07-2008, 01:47 PM
مسلمو أوروبا والإساءات.. ما وراء التفاعل الهادئ مع الإساءات؟!

كتب أ. نبيل شبيب

http://qawim.net/exq.gif منذ بدأت موجة جديدة معاصرة -بعد موجات تاريخية سابقة- من مسلسل الإساءات إلى الإسلام والمسلمين، بدأت تظهر معالم اختلافٍ تنامى تدريجيا في أساليب الردّ من الجانب الإسلامي تجاهها.

ومع إساءة النائب الهولندي المتطرف للقرآن الكريم عبر فيلم قصير نشره في شبكة العنكبوت، أصبح هذا الاختلاف ظاهرا للعيان أكثر ممّا مضى، فغالبية المسلمين في أوروبا لا سيما في هولندا نفسها، يدعون في الدرجة الأولى إلى أسلوب يوصف بالهادئ المتعقّل الذي يعتمد على الحوار والقضاء والتواصل مع المسؤولين والمجتمع الأوروبي، بينما يلاحَظ مدى ارتفاع درجة اهتمام وسائل الإعلام في البلدان الإسلامية، بقضية الإساءات (ربّما يصنع بعضها ذلك حرصا على التفاعل مع جماهير المسلمين في قضية تهمّها مع التعويض عن نقص الاهتمام بقضايا أخرى أصبح الخوض فيها من محرّمات الحرية الإعلامية في البلدان الإسلامية).. وينطوي هذا الاهتمام غالبا على لهجة شديدة في مسلسل الأخبار والتحليلات والمواقف، إضافة إلى انتشار الدعوات إلى الردّ الجماهيري بالمظاهرات السلمية، والاحتجاجات الشعبية، ومقاطعة البضائع الهولندية بعد الدانماركية، ولا تظهر الدعوات إلى حوار وتواصل إلا قليلا.

ـ الإساءات والجواب عليها:
ـ الإشكالية الأولى: استيعاب الإسلام والمعرفة به.
ـ الإشكالية الثانية: الغيرة على الإسلام.
ـ الإشكالية الثالثة: ضعف الإمكانات والتنظيمات.
ـ الإشكالية الرابعة: العزلة والذوبان والاندماج.
ـ الإشكالية الخامسة: استيعاب أساليب التأثير في المجتمعات الأوروبية.
ـ الإشكالية السادسة: تحديد منابع الإساءات وحدودها للتعامل الأصوب معها.
ـ الإشكالية السابعة: التخطيط والتنظيم والتمويل والطاقات الفكرية.
ـ خاتمة

الإساءات والجواب عليها:

من أين يأتي هذا الهدوء الذي يميّز مواقف المسلمين في أوروبا تجاه الإساءات؟..
هل هو هدوء التسليم بما يجري والاعتياد السلبي عليها؟..
هل هو نتيجة نقص في معرفة الإسلام نفسه، أو ضعف ناشئ عن ذوبان في المجتمعات الأوروبية؟..
أم هو بسبب المخاوف من ردود الأفعال إذا تحوّل الاحتجاج إلى فعاليات "جماهيرية"؟..
أم أنّ الهدوء الملحوظ صادر -كما يقول كثير من مسؤولي المنظمات والتجمّعات الإسلامية- عن الرويّة والتعقل والفهم المباشر للمجتمعات الأوروبية، ومواطن التأثير عليها؟..
لا توجد أجوبة جاهزة قطعية، ولا يصحّ التعميم في أي محاولة للجواب على هذه التساؤلات، فالمسلمون في أوروبا لا يشكّلون كتلة متجانسة، إذ لا تتطابق أوضاعهم وظروفهم على بعضها بعضا في مختلف بلدان القارة، ومنظماتهم لا تعلن مواقفها بصورة مشتركة جامعة إلا نادرا. إنّما يمكن النظر في بعض العوامل التي تساعد على توضيح الصورة، فمن الأهمية بمكان أن يكون "حجم الاختلاف" المذكور -وهو في الأصل طبيعي مقبول- محدودا، والأهم من ذلك أن تتكامل المواقف والخطوات العملية من جانب المسلمين في البلدان الإسلامية وفي البلدان الغربية، مع بعضها بعضا، لا أن يكون الاختلاف سببا في تباعدها وربّما تناقضها في كثير من الأحيان.
العوامل التي يجري الحديث عنها هنا هي بعض ما يمكن الوقوف عنده في مقالة قصيرة، ولن يتجاوز الأمر حدود بعض التساؤلات وأجوبة مختصرة، يعتمد كاتب هذه السطور فيها على معايشة مباشرة لذوي العلاقة وللقضايا المطروحة على امتداد فترة اغترابٍ تجاوزت أربعين عاما.

الإشكالية الأولى: استيعاب الإسلام والمعرفة به

لا ريب أنّ الكمّ العلمي والمعرفي بالإسلام نفسه لا يبلغ عند مسلمي أوروبا ما يبلغه عند العلماء والدعاة وغيرهم في البلدان الإسلامية ممّن يحدّدون مواقفهم من منطلق إسلامي -ولا يدور الحديث هنا عن حكومات ووسائل إعلام عامة-ولكنّ تحديد موقف المسلم من الإساءات بالذات لا يتطلّب المعرفة الإسلامية العميقة، فليست حقيقة التعدّي على مقدّسات المسلمين تحت عنوان "حرية التعبير" مجهولة، ولا يوجد من يستهين بحجم هذا التعدّي ومغزاه عندما تتناول الإساءات مقام النبوة أو القرآن الكريم، أو ما هو معروف من الدين بالضرورة. لا ينبغي إذن الربط التعليلي بين درجة المعرفة بالإسلام والموقف من الإساءات، فكل مسلم ومسلمة على جانب كاف من المعرفة بأسس دينه ومكانة نبيه صلى الله عليه وسلم وموقع قرآنه الكريم، ليدرك أنّ هذه الإساءات فاحشة شكلا ومضمونا، عدائية لا يغفر لأصحابها ما يطلقونه من مزاعم بشأن "حرية التعبير"، ولا أية مزاعم أخرى.

الإشكالية الثانية: الغيرة على الإسلام

آخر ما يمكن أن يقال عن جمهرة المسلمين في أوروبا أنّهم لا يغارون على دينهم، فانتشار الصحوة في نسبة عالية من المسلمين، لا سيما الأجيال الناشئة، باتت من القوّة والاتّساع ما لا يجهله أحد يتابع الأوضاع من كثب، بل إنّ كثيرا من المتطرّفين الأوروبيين ينشرون وهم يرصدون تلك الصحة مقولات "التخويف من الإسلام على مستقبل أوروبا"، والتحذير من "أسلمتها"، ويستشهدون على ذلك بأرقام وإحصاءات ودراسات -مع التهويل من شأنها أحيانا- مثل نسبة المسلمين إلى السكان وازديادها باطّراد، وما يعنيه تطوّر الهرم السكاني الأوروبي مستقبلا، وظاهرة ارتفاع عدد المساجد والمصليّات مع ضيق القديم والجديد منها بالشبيبة تخصيصا، فضلا عن انتشار الحجاب وزيادة عدد القادرين على التعبير الراقي المؤثّر عن الإسلام ومصالح المسلمين. من يحذّر من هذه الظاهرة لا يغفل أيضا عن ازدياد الحرص بين غير المسلمين على التعرّف على الإسلام، وإنصاف المسلمين (وتسمّيه الحملات المعادية أحيانا: التراجع أمام أسلمة اوروبا) كما يتحدّثون عن تزايد اعتناق الإسلام من جانب كثير من الشبيبة.

من هنا ولأسباب عديدة أخرى وجب التأكيد، إنّ هذه الصحوة انبثقت عن الغيرة على الإسلام، فلا يمكن اعتبار غيرة مسلمي أوروبا عليه غائبة في التفاعل مع ما تعنيه الإساءات ومع من يقدمون عليها، وهو ما يتردّد أحيانا في حديث من يتحدّثون بمنظور النقد السلبي عن عدم كفاية مواقفهم من الإساءات.

الإشكالية الثالثة: ضعف الإمكانات والتنظيمات

لا شكّ في أنّ الضعف قائم، وأن التحرّك المطلوب لا يتحقق أحيانا بسبب هذا الضعف، ولكن ينبغي التمييز بين أمور، في مقدّمتها أمران اثنان، أوّلهما أنّ ضعف الإمكانات ليست من وراء غياب التحرّك بأساليب الاحتجاجات الجماهيرية والمقاطعة، فعدم الإقدام على ذلك يرجع إلى الاقتناع بفعالية طرق أخرى. وليس مجهولا مثلا تحرّك نسبة عالية من مسلمي الغرب جماهيريا-عندما توافر الاقتناع مع مفعول الوجدان- في الاحتجاجات التي رافقت مطلع انتفاضة الأقصى مثلا. والأمر الثاني أنّ ضعف الإمكانات يتطلّب الدعم من جانب المسلمين في البلدان الإسلامية نفسها، لتظهر الثمار بصورة طبيعية، ولا يصحّ اشتراطه بأن يتصرّف مسلمو أوروبا وفق رؤى مَن يقدّم الدعم، "فأهل أوروبا أدرى بشعابها"، لا سيما وأنّ الدعم المشروط يظهر تلقائيا للعلن، ويزرع وتدا بين الغالبية من سكان أوروبا وبين المسلمين فيها، ومعظمهم من أهل البلاد الأصليين، أو المواليد فيها، وحملة جنسياتها، والمقيمين إقامة دائمة وسط مجتمعاتها.

الإشكالية الرابعة: العزلة والذوبان والاندماج

في حقبة مضت وانتهى أمرها كان الغالب على الوجود البشري الإسلامي في أوروبا هو العزلة، ولم تكن الحصيلة في صالح المسلمين ولا في صالح المجتمعات الأوروبية ودولها. وبُذلت لاحقا جهود كبيرة، رسمية وغير رسمية، لتذويب غالبية المسلمين، لا سيما جيل الشبيبة منهم، في المجتمعات الأوروبية، والذوبان يعني هنا تغييب الشخصية الإسلامية ثقافيا واجتماعيا، وكان الإخفاق هو الحصيلة، فلم يتحقق ذلك، إلا بنسبة محدودة عند من لديهم استعدادات ذاتية للذوبان ولا تختلف هذه النسبة كثيرا عن نسبة من جرفتهم حملات التغريب داخل البلدان الإسلامية نفسها.

في هذه الأثناء أصبح الهدف الأول عند غالبية المسلمين وكثير من المسؤولين في المجتمعات الأوروبية اتّباع سياسة الاندماج. وتختلف الرؤى بصدد ما يُراد به، ما بين اندماج أقرب إلى الذوبان واقعيا، واندماج لا ينهي مظاهر العزلة أصلا. ولكنّ مجرى التطوّرات يرجّح أن تكون الحصيلة عند حدّ الاعتدال، وأن يكون الاندماج إيجابيا، فلا يكون المسلمون "جسما غريبا مرفوضا" في أوروبا، ولا يكونون أيضا "جزءا عضويا" بالمعنى المطلق للكلمة، أي دون مواصفات وخصائص ومقوّمات ذاتية صادرة عن إسلامهم.

تحقيق هذه المعادلة يتطلّب جهودا كبيرة فهي قائمة على تطوّر اجتماعي وسلوكي كبير، ولن تروق النتيجة -إن تحققت- لجهات عديدة في أوروبا، ومن هنا يقدّر كثيرٌ من مسلمي أوروبا -وتوجد شواهد عديدة تؤكّد صحّة تقديرهم- أنّ أحد الدوافع وراء مسلسل الإساءات، هو التشويش على هذه المسيرة، عبر إثارة "فوضى هدّامة" في علاقات المسلمين بالمجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها وباتوا واقعيا جزءا من تركيبتها الهيكلية المتنوّعة، وذلك للحيلولة دون تنامي التأثير المستقبلي المنتظر من اندماج إيجابي، يمكن أن يؤثّر على المواقف الأوروبية تجاه القضايا الإسلامية عموما، علاوة على تحقيق المصلحة بمنظور الوجود الإسلامي في المجتمعات الأوروبية، وهذا ما يُسقط حجج الرافضين لهذا الوجود الإسلامي من الأساس، ويوهن من شأن ما يصنعون، ومن ذلك الإساءات المثيرة للغضب.

الإشكالية الخامسة: استيعاب أساليب التأثير في المجتمعات الأوروبية

لا بدّ في البحث عن التعامل الأنجع مع العامّة الأوروبيين المستهدفين بالإساءات من تأكيد قاعدة "خاطبوا الناس على قدر عقولهم"، و"تحدّثوا بما يفهمون ويعقلون". لا يمكن أن يستوي أسلوب الخطاب الإسلامي، ومحتواه، وما يورده من حجج..
- في مجتمع غالبيته من المسلمين، لديهم خلفية معرفية عامّة بالإسلام..
- وآخر غالبيته من غير المسلمين، دون هذه الخلفية، بل قد يكون أغلبهم ممّن أشبع بالموروث من التصوّرات العدائية والتضليلية، على مرّ قرون عديدة، ولا يزال عرضة للمزيد، وهو من الأصل لم يعد يثق بالمصادر الإسلامية المباشرة.
إنّ أفضل الكتب وأكثرها تأثيرا في واقع البلدان الإسلامية ومجتمعاتها، لا تفيد ترجمته الحرفية ليكون له تأثير مشابه أو قريب في مجتمع غربي.
ولئن قطع الكاتبُ الشكّ باليقين عند المسلم عبر إيراد نص إسلامي قطعي الورود والدلالة، فكلامه لا يقطع شكّا ولا يوجد يقينا عند إنسان لا يلتزم بتلك النصوص، ويشكّ في مصدرها. وهذا ما يسري مثلا على نشر السيرة النبوية التي تضاعف الاجتهاد في ترجمتها.
لا يستهان بشيء من ذلك ولكن لا يكفي، وقد غلب التركيز عليه في معظم حملات مواجهة الإساءات، من مؤتمرات وفعاليات ومواقع شبكية وغيرها، وقد يوصل شيئا محدودا ممّا ينبغي الوصول به إلى العامّة أو الخاصّة في البلدان الغربية.
مقابل ذلك نرصد من كثب كيف كان ارتفاع نسبة الإنصاف للمسلمين وقضاياهم يجري أحيانا عن طريق تواصل الشبيبة من المسلمين مع أقرانهم من غير المسلمين في المدارس والجامعات وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي والثقافي داخل الدول الغربية، بل يعود ارتفاع نسبة اعتناق الإسلام بين الشبيبة إلى هذا العامل في الدرجة الأولى، ولا يعني أنّه يكفي ولكنّه المؤشر إلى ما ينبغي صنعه.

يجب الجزم بصورة قاطعة، أنّ الجهة التي تستوعب الأسلوب الأفضل في التعامل مع المجتمعات الأوروبية أو الغربية عموما، هي الجهة التي نشأت أو تنشأ من صفوف مسلمي هذه المجتمعات، لا سيما جيل الشبيبة، الذي كان له من الاحتكاك المباشر أكثر ممّا كان لأجيال سابقة، كانت الغالبية فيها من المهاجرين وليس من مواليد الدول الأوروبية، المتردّدين على المدارس والجامعات والمنشآت الاخرى فيها، كما أنّ معايشته للآخرين شاملة متنوعة وطويلة، وليست معايشة مناسبات أو مؤتمرات أو زيارات قصيرة أو مصالح عابرة.

الإشكالية السادسة: تحديد منابع الإساءات وحدودها للتعامل الأصوب معها

بين أيدينا أمثلة معروفة ومختلفة، كالإساءة الكاريكاتورية الدانماركية، والإساءة البابوية الكاثوليكية، وإساءة "فيلدرز" في هولندا. صدرت الأولى عن رسّام وجريدة، والثانية عن أعلى مواقع المسؤولية الكنسية الكاثوليكية الرومية، والثالثة عن نائب يميني متطرّف. ونحتاج هنا إلى وقفة متأنّية:
اقترنت الأولى من البداية بموقف حكومي رسمي سلبي، عندما رفض ممثلو الحكومة الدانماركية مجرّد اللقاء مع سفراء الدول الإسلامية للحوار. هنا اعتبرت الجهات الإسلامية تلك الإساءة بحقّ أنّها غير محصورة في نطاق فرد متهوّر أو جهة إعلامية حاقدة فحسب، وهذا ممّا جعل الغضبة الجماهيرية وردود الفعل الرسمية واسعة النطاق في البلدان الإسلامية.
واقترنت الثانية بإقحام جهة كنسية رسمية مرجعية في مسلسل الإساءات، فاعتبرتها الجهات الإسلامية التي مضت على طريق الحوار الإسلامي المسيحي متعمّدة، وبالتالي أصبحت سببا كافيا لقطع الحوار والمطالبة بالاعتذار.
ولكن اقترنت الثالثة برفض رسمي وشعبي وإعلامي محلي واسع النطاق في هولندا، حتى عجز صاحب الإساءة عن مجرّد نشرها في وسيلة إعلامية، ورغم ذلك كانت أصواتٌ عديدة، وفي مواقع المسؤولية، في البلدان الإسلامية، تعتبرها إساءة "هولندية" شاملة، وليست إساءة فرد متطرّف.. كيف؟..
إنّ التمييز الدقيق بين كل حالة وأخرى كان قائما في أوساط المسلمين ومنظماتهم في الدول الأوروبية، وكان غائبا إلى حدّ بعيد على مستوى المتابعين للإساءات من داخل البلدان الإسلامية، أي خارج ساحة الحدث الأوروبية المباشرة.

وينجم عن ذلك على سبيل المثال:

1 - فارق كبير بين الخطاب الإسلامي..

- الذي يركّز على أنّ الطرف الدانماركي المسيء بصورة مباشرة، "أقدم على خطوة غير مسبوقة في وسائل الإعلام في بلده" و"أساء إلى قيمة الحريات المكفولة فيه" وأن "موقف الحكومة الدانيماركية يسيء إلى الشعب الذي تمثله وعلاقاته بالشعوب الإسلامية"..
- وبين الخطاب الإسلامي القائل إنّ الدانمارك كلّها مسؤولة عن هذه الإساءة الكاريكاتورية، حكومة، وشعبا، وإعلاما، ومنظومة للحريات والحقوق، وتجارة واقتصادا، فهذا ممّا ساهم في "توسيع نطاق الجبهة التي تتبنّاها"، فكانت إعادة النشر أكثر من مرة.
ألا يحمل "أسلوب الخطاب" -ولا نقول مضمونه- جزءا من المسؤولية عن دعم الجبهة المعادية وازدياد حجمها وقوّتها، بدلا من حصارها والتحذير المؤثّر من دعمها؟.. هذا مع ضرورة تأكيد صيغة القوّة والإصرار في الخطاب، فليس المقصود هنا التهوين من شأن الإساءة بحدّ ذاتها، ولا التخاذل عن اتخاذ إجراءات مدروسة مضادّة، إنّما حسن توجيه الخطاب والخطوة العملية على حسب المقصد والجهة المستهدفة.

2- فارق أكبر بكثير..

- بين اعتبار إساءة فيلدرز "إساءة هولندية" واعتبارها حلقة لا تختلف عمّا سبقها، مع تجاهل رفضها من جانب الغالبية العظمى من أهل هولندا، رسميا وشعبيا وإعلاميا، وبالتالي أن يتخذ الخطاب الإسلامي صيغ الدعوة إلى مقاطعة شاملة، وغضبة عارمة، والقول إنّ "انحسار الغضبة السابقة ضدّ الدانيمارك جرّأت هولندا على الطريق نفسها".. وهو تقويم غير صحيح موضوعيا..
- وبين ما ذهب إليه المسلمون في هولندا نفسها من مواقف وخطوات عملية، واستطاعوا من خلاله الحصول على تفهّمهم وتفهّم حرصهم على إسلامهم، وبالتالي تنامي التضامن معهم، مع بقاء المسيء "محاصَرا" على معظم الأصعدة دون استثناء، فلم يخرج بالإساءة نفسها عن حدود "القطاع اليميني المتطرّف" الذي ينتمي إليه في هولندا. يضاف إلى ذلك ما صدر من إدانات للإساءة على المستوى الأوروبي ومستوى الأمم المتحدة.
3- أمّا الإساءة البابوية فهي الأخطر مضمونا، وإن لم تكن الأخطر تأثيرا، بل يغلب الظنّ أنّ من الدوافع الحاسمة من ورائها هو "ضعف تأثير الكنيسة الكاثوليكية في أوساط الكاثوليك" (ويعزّز ذلك إعلانٌ حديث من جانب الكنيسة الكاثوليكية أن عدد المسلمين في العالم تجاوز لأول مرة عدد الكاثوليكيين!) فالمقصود محاولة التعويض عن الضعف الذاتي بمواقف عدائية للإسلام والمسلمين، في حقبة ليس مجهولا أنّ وراء هذا العداء قوى دولية مهيمنة، في الغرب على حساب فئات شعبية عريضة، ومهيمنة عالميا أيضا.
كما أنّ مضمون الإساءة البابوية لم يتخذ طابعا "مفضوحا" للقاضي والداني.. أي لم يستخدم الصيغة المؤثّرة على العامّة، مثل الرسوم الكاريكاتورية والأفلام، بل كانت الإساءة مقنّعةً بالمنهج العلمي، في محاضرة جامعية، وداخل حرم جامعي، ومن جانب "باحث" جامعي قبل أن يصبح رجل كنيسة.
لقد أوجدت هذه المعطيات معا فرصة مواتية لردّ إسلامي علمي منهجي -ليس ضدّ المسيحية بحدّ ذاتها- بل عبر ما يبيّن بصيغة علمية دراسية منهجية، أنّ الانحراف الأعظم بالمسيحية نفسها، واتّباع سبيل العنف، كان كنسيّ المولد والنشأة والنموّ عبر قرون عديدة، ففتح الباب على مصراعيه أمام التطوّر التاريخي الحاسم كردّة فعل، أي انتشار العلمانية والإلحاد وما انبثق عنهما من توجّهاتٍ لا تزال البشرية تعاني منها حتى اليوم.
فارقٌ كبير بين ردّ على هذا المستوى، مع اقترانه بإجراءات عملية من مثل قطع الحوار، وبين ردّ الخطاب التعميمي المقترن بتلك الإجراءات. والجدير بالتنويه أنّ العامّة الأوروبيين المقصودين بتأثير الإساءات عليهم، يتأثّرون بالرد المنهجي العلمي أيضا، ويكفي غالبا الانطباع العام الذي يتركه أسلوب الردّ، وإن لم تكن المضامين أو تفاصيلها مفهومة عند كل فرد.

الإشكالية السابعة: التخطيط والتنظيم والتمويل والطاقات الفكرية

هذه الأسباب السابقة مجتمعة هي من وراء غلبة انتشار الاعتقاد بين مسلمي أوروبا بصواب سلوك طريق الحوار والقضاء والتعقّل والتعامل مع كلّ إساءة من الإساءات وفق حجمها ونوعيتها ومصدرها وأساليبها والجهات المستهدفة بها، وهي قطعا الشعوب الأوروبية وليس مجرّد "الحنق" على الإسلام والتعدّي على المسلمين.

ولا نجهل أنّ الإسلام نفسه حصن منيع محفوظ، وأنّ الذات الإلهية لا يصل إلى الإساءة الفعلية إليها أحد من الخلق، وأنّ مقام النبوّة فوق كلّ ما يمكن أن تطاله الألسنة والأقلام المسيئة، كما نعلم أنّ المسلمين في البلدان الإسلامية، المستهدَفون في أرواحهم وبلادهم وقضاياهم، لا يمكن أن يسبّب مسلسل الإساءات لدينهم، سوى زيادة انتشار التصميم على مواجهة العدوان الأجنبي بمختلف أشكاله المباشرة وغير المباشرة..

لهذا يمكن التأكيد مجدّدا أنّ الشعوب الأوروبية هي المستهدف الأول من الإساءات، بقصد تضليلها عن حقيقة الإسلام، وإثارتها ضد المسلمين، وتوظيف ذلك فيما يجري من ممارسات عدوانية على صعيد قضايا المسلمين العادلة.

هذا أوّل ما ينبغي وضعه في الحسبان، عند التعامل مع هذه الإساءات، تعاملا هادفا ومؤثّرا. وهنا تظهر نقطة الضعف الكبرى لدى مسلمي أوروبا، كما تظهر في واقع العلاقة بينهم وبين من يتصدّى للإساءات من داخل البلدان الإسلامية، فهم مفتقرون إلى كثير من أدوات الردّ المنهجي الفعّال، وإن أرادوه وصرّحوا به، ويصنعون القليل ويؤثّر، والمؤكّد أن امتلاكهم لأسباب الفكر والتوجيه والتخطيط والتنظيم والتمويل، يضاعف التأثير إلى حدّ كبير.

1- مسلمو الغرب يفتقرون إلى التخطيط، وهذا ما يسري بصورة خاصة، على جيل الشبيبة الأكثر استيعابا لوسائل التعامل مع المجتمعات الأوروبية بحكم نشأته فيها، فمن أراد من البلدان الإسلامية التصدّي الفعّال للإساءات، عليه تقديم الدعم للعقول الاختصاصية القادرة والمواهب الناشئة على الطريق، ممّن يتعامل مع كلّ حدث كبير عبر وضع صيغة شمولية، تجمع بين مفعول التخصص، ومستوى المعرفة بالإسلام، ومفعول معرفة المقيمين في أوروبا.. بشعاب أوروبا. هذا إضافة إلى وسائل يُفترض أن تكون متوافرة على الدوام، كالدورات التدريبية والمنح الدراسية والمؤتمرات الاختصاصية التي تخدم تكوين كوادر القادرين على التخطيط، وهو مقدّم على كثير من قضايا أخرى يتكرّر طرحها في مؤتمرات عديدة، دون تقديم الجديد إلا نادرا.

2- ومسلمو الغرب يفتقرون إلى التنظيم.. فمع كلّ التقدير الكبير للتنظيمات الإسلامية العاملة في الساحة حاليا، ولجهودها الكبيرة القديمة والحالية في الحفاظ على الوجود الإسلامي وانتشار الصحوة عموما، ينبغي التأكيد أنّ إشكالية التنظيم الحالية، تكمن في أنّه يعبر مرحلة انتقالية، ما بين اعتماده تاريخيا على الوافدين، وبين اعتماده الحتمي مستقبلا على مواليد الجيل الثاني والثالث ومن انضمّ إليهم من جيل الشبيبة من أهل البلاد الأصليين. فمن أراد التصدّي الفعّال على المدى القريب والبعيد للإساءات -ولقضايا أخرى عديدة يقوم عليها مستقبل الوجود الإسلامي في الغرب- يمكن ذلك عبر دعمه للتطوير التنظيمي الذاتي، دون أن يتّخذ الدعم شكل شروط وإملاءات، أو أن يفرض الاحتكامَ إلى تصوّراتِ مَن ينظر إلى الساحة من خارج أبعادها الجغرافية والزمنية.

3- ومسلمو الغرب يفتقرون في مختلف الميادين -بما فيها التخطيط والتنظيم- إلى الإمكانات المادية والفكرية لتلبية احتياجات تطوّر فاعلية الوجود البشري الإسلامي في مختلف الميادين. ولا يزال والدعم المالي والفكري يتخذ حتى الآن أشكالا تقليدية قديمة، ربّما كانت تصلح لمرحلة ماضية، أي عند غلبةِ عنصر "الوافدين" على سواهم من المسلمين، ولم تعد تلك الأشكال التقليدية تصلح حاليا، فقد تبدّلت صورة الوجود الإسلامي في الغرب تبدّلا جذريا.
والجدير بالتنويه أنّ الدعم الخارجي بحدّ ذاته ليس محظورا وإن دأبت جهات معادية على تصويره وكأنه يربط أهل الغرب من المسلمين بجهات أجنبية، وليس مجهولا بالمقابل ما يقدّمه الغربيون من دعم رسمي وغير رسمي لجهات عديدة داخل البلدان الإسلامية، وهم لا يحاولون أصلا مواراة قيامه غالبا على معايير نشر تصوّراتهم، ولا ينفي ذلك وجود دوافع إنسانية محضة أحيانا.
مثل هذه الممارسات لا تستقيم في إطار العلاقات بين الدول والشعوب إن باتت شارعا باتجاه واحد، إنّما المطلوب أن تحرص الجهات الداعمة، من داخل البلدان الإسلامية، أن يكون دعمها مستقلا عن أغراض سياسية تصدر غالبا عن اعتبارات قطرية، وقد تسبّب للنسيج الإسلامي في الغرب إشكاليات كبيرة.
والمطلوب تركيز الهدف على مصالح جيل المستقبل، الأوروبي أصلا أو مولدا أو بحكم الإقامة الطويلة، مع استيعاب احتياجياته من خلال التواصل معه والاطلاع على حقيقتها ميدانيا، وليس من خلال "دراسات" عن بعد، ومؤتمرات لا يشارك فيها "جيل المستقبل" نفسه كما يشهد وسطي أعمار المشاركين فيها، وربما اعتمدت على ما نشأ من حبال التواصل التقليدية الموروثة، وإن انقطع ما بين بعضها وبين واقع معاصر يعيشه المسلمون في أوروبا الآن، وهو ما يضعف قيمتها بصدد صناعة المستقبل المرجو.

خاتمة:

ليست قضية مسلسل الإساءات قضية عاطفة وحميّة فحسب، ولا هي قضية شاملة للغرب الذي طالما ردّدت الكتابات والمواقف بصدده أنّه ليس كتلة متجانسة.
لهذا لا ينبغي التعامل مع مسلسل الإساءات إلا تعاملا موضوعيا منهجيا مدروسا، وتعاملا هادفا قائما على تحديد الجبهة المعادية، وهي صغيرة نسبيا، تساهم ردود الأفعال الشمولية والمتعجّلة في توسيع نطاقها ودعم قوتها، ويساهم التعقّل في حصارها والحدّ من تأثيرها.
ولا يعني هذا إغفال أهمية مفعول الوجدان والحماسة والحمية، لا سيّما على صعيد جماهير المسلمين في أنحاء العالم، ولكن يعني أنّ عدم اقتران تحرّكها -أو تحريكها- بوجود تحرّك قائم على التخطيط والتنظيم والتوجيه، أمر فيه مخاطرة كبيرة، أن يضمحلّ مفعول الوجدان والحماسة والحمية بالاعتياد على الإساءات والتيئيس من التصدّي لها، وفيه مخاطرة أكبر أن يفلت الزمام فيتحوّل التحرّك الجماهيري آنذاك إلى مصدر ضرر، لا مصدر قوّة فاعلة ومطلوبة في ساحة انطلاق الإساءات نفسها، والأوساط الشعبية حولها، وبين القوى ذات التأثير المعنوي والمادي في صناعة القرار.


http://qawim.net/index.php?option=com_content&task=view&id=2396&Itemid=1