تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : موقف المسلمين من الثقافات غير الإسلامية



من هناك
04-05-2008, 04:33 AM
موقف المسلمين من الثقافات غير الإسلامية


فتح المسلمون فارس والعراق وبلاد الشام ومصر وشمالي أفريقية وأسبانيا. وكانت هذه البلاد مختلفة اللغات والقوميات والحضارات والقوانين والعادات، ومن ثم كانت مختلفة الثقافات. فلما دخل المسلمون هذه البلاد حملوا إليها الدعوة الإسلامية وطبقوا عليها نظام الإسلام. ومع أنهم كانوا لا يُكرهون الناس حتى يكونوا مؤمنين، إلاّ أن قوة مبدأ الإسلامي وصدقه وبساطة عقيدته وفطريتها قد أثّرت فيهم، فدخلوا في دين الله أفواجاً. علاوة على أن فهم الإسلام كان متيسراً للجميع. فقد كان العلماء يصحبون الجيوش في حالة الحرب، ويرحلون إلى البلاد المفتوحة لتعليم الدين للناس. ولهذا تكونت في البلاد المفتوحة حركة ثقافية إسلامية قوية، فكان لهذا الأثر الأكبر في تفهّم الناس حقيقة الدين وثقافته، فأثّر الإسلام على الأفكار وأثّر على الثقافات التي كانت في البلاد المفتوحة، فصهر العقليات جميعها وجعلها عقلية إسلامية.

غير أن الإسلام مع كونه يتسلم مركز القيادة الفكرية العالمية، ويعمل لإنقاذ الإنسانية، لا يفرض نفسه بالقوة على الناس، وإن كان يهيئ القوة لحماية دعوته ولحملها إلى الناس. كما يهيئ الأذهان والعقول بالثقافة الإسلامية حتى تتمكن من إدراك حقيقة الإسلام. ولذلك سلك مع الناس في ثقافته سلوكاً حازماً. وقد فهم المسلمون ذلك حين خرجوا من جزيرة العرب ينشرون الإسلام بالفتح. فقد دخلوا البلاد وحملوا إليها الإسلام: حملوا إليها القرآن الكريم، والسنة النبوية، واللغة العربية. وكانوا يعلِّمون الناس القرآن والحديث وأحكام الدين ويعلمونهم أيضاً اللغة العربية، ويحصرون اهتمامهم بالثقافة الإسلامية. ولذلك لم تمض مدة على حكمهم البلاد حتى تلاشت الثقافة القديمة للبلاد المفتوحة واضمحلت، وصارت الثقافة الإسلامية وحدها هي ثقافة البلاد، واللغة العربية وحدها هي لغة الإسلام، وهي وحدها التي تستعملها الدولة الإسلامية. لذلك أصبحت ثقافة جميع البلاد الإسلامية على اختلاف شعوبها ولغاتها وثقافاتها ثقافة واحدة، هي الثقافة الإسلامية، وبعد أن كان ابن فارس مختلف الثقافة عن ابن الشام، وابن إفريقية مختلف الثقافة عن ابن العراق، وابن اليمن مختلف الثقافة عن ابن مصر، صارت عقلية الجميع عقلية واحدة هي العقلية الإسلامية، وصارت ثقافة الجميع ثقافة واحدة هي الثقافة الإسلامية. وبهذا صارت البلاد المفتوحة جميعها مع البلاد العربية بلداً واحداً هو البلد الإسلامي، بعد أن كانت بلاداً متعددة. وصارت هذه الشعوب المتعددة أمة واحدة هي الأمة الإسلامية، بعد أن كانت شعوباً متعددة متفرقة.

ومن الخطأ الفاحش الذي يتعمده المستشرقون، ويقع فيه بعض علماء المسلمين، قولهم أن الثقافات الأجنبية من فارسية ورومانية ويونانية وهندية وغيرها أثّرت في الثقافة الإسلامية. ومن التضليل الواضح ذلك التعليل الذي يقولونه من أن كثيراً من هذه الثقافات الأجنبية قد دخلت في الثقافة الإسلامية. والواقع هو أن الثقافة الإسلامية دخلت البلاد المفتوحة وأثّرت هي على ثقافاتها تأثيراً تاماً بحيث أزالت هذه الثقافات بوجه عام، وبوصفها ثقافة البلاد، واحتلت هي مكانها، وصارت وحدها ثقافة هذه البلاد.

أما شبهة تأثر الثقافة الإسلامية بالثقافات غير الإسلامية، فإنما جاءت من المغالطة المتعمدة التي يعمد إليها غير المسلمين في تغيير مفاهيم الأشياء، ومن قصر النظر عند الباحثين. نعم إن الثقافة الإسلامية انتفعت بالثقافات الأجنبية واستفادت منها، وجعلت منها وسيلة لخصبها وتنميتها. ولكن ذلك ليس تأثراً وإنما هو انتفاع، وهو ما لابد منه لكل ثقافة.
والفرق بين التأثر والانتفاع، أن التأثر بالثقافة هو دراستها وأخذ الأفكار التي تحويها، وإضافتها إلى أفكار الثقافة الأولى، لمجرد وجود شبه بينهما، أو لمجرد استحسان هذه الأفكار. والتأثر بالثقافة يؤدي إلى الاعتقاد بأفكارها. فلو تأثر المسلمون بالثقافة الأجنبية في أول الفتح، لنقلوا الفقه الروماني وترجموه وأضافوه إلى الفقه الإسلامي باعتباره جزءاً من الإسلام، ولكانوا جعلوا الفلسفة اليونانية جزءاً من عقائدهم، ولكانوا اتجهوا في حياتهم طريقة الفرس والرومان في جعل أمور الدولة مسيَّرة بما يرون من مصلحة لهم. ولو فعلوا ذلك لاتجه الإسلام من أول خروجه من الجزيرة اتجاها مضطرباً، ولاختلطت أفكاره اختلاطاً أفقده كونه إسلاماً. هذا هو التأثر لو حصل. وأما الانتفاع فهو دراسة الثقافة دراسة عميقة ومعرفة الفرق بين أفكارها، وأفكار الثقافة الإسلامية، ثم أخذ المعاني التي في تلك الثقافة والتشبيهات التي تحويها، وإخصاب الثقافة الأدبية، وتحسين الأداء بهذه المعاني وتلك التشبيهات، دون أن يتطرق إلى أفكار الإسلام أي تناقض، ودون أن يؤخذ من أفكارها عن الحياة، وعن التشريع وعن العقيدة، أي فكر. والاقتصار على الانتفاع بالثقافة دون التأثر بها، يجعل دراستها معلومات لا تؤثر على وجهة النظر في الحياة. فالمسلمون منذ أوائل الفتح الإسلامي حتى العصر الهابط الذي حصل فيه الغزو الثقافي والتبشيري، في منتصف القرن الثامن عشر الميلادي، كانوا يجعلون العقيدة الإسلامية أساس ثقافتهم، وكانوا يدرسون الثقافات غير الإسلامية للانتفاع بما فيها من معانٍ عن الأشياء في الحياة، لا لاعتناق ما فيها من أفكار، ولذلك لم يتأثروا بها، وإنما انتفعوا بها. بخلاف المسلمين بعد الغزو الثقافي الغربي لهم، فإنهم درسوا الثقافة الغربية واستحسنوا أفكارها. فمنهم من اعتنقها وتخلى عن الثقافة الإسلامية.... ومنهم من استحسنها وأضاف أفكارها للثقافة الإسلامية باعتبارها منها، وصارت بعض أفكارها من الأفكار الإسلامية بالرغم من تناقضها مع الإسلام. فكثير منهم مثلاً كان يجعل القاعدة الديمقراطية المعروفة (الأمة مصدر السلطات) قاعدة إسلامية مع أنها تعني أن السيادة للأمة، وأن الأمة هي التي تضع التشريع وتسن القوانين، وهذا يناقض الإسلام، لأن السيادة فيه للشرع لا للأمة، والقانون من عند الله لا من عند الناس. وكثير من كان يحاول أن يجعل الإسلام ديمقراطياً أو اشتراكياً أو شيوعياً. مع أن الإسلام يتناقض مع الديمقراطية، لأنه يجعل الحاكم منفِّذاً للشرع مقيّداً به، لا أجيراً عند الأمة، ولا مُنفّذاً لإرادتها، بل راعياً لمصالحها حسب الشرع. وكذلك يتناقض مع الاشتراكية لأن الملكية محددة عنده بالكيف ولا يجوز أن تحدد بالكم. كما يتناقض مع الشيوعية لأنه يجعل الإيمان بوجود الله أساس الحياة، ويقول بالملكية الفردية ويعمل لصيانتها. فجعلُ الإسلام ديمقراطياً أو اشتراكياً أو شيوعياً استحساناً لتلك الأفكار هو تأثر بالثقافة الأجنبية وليس انتفاعاً بها. والأنكى من ذلك أن القيادة الفكرية الغربية، وهي عقيدة تناقض عقيدة الإسلام، تأثر بها بعضهم وصار يقول المتعلم منهم يجب فصل الدين عن الدولة! ويقول غير المتعلم منهم الدين غير السياسة!! ولا تدخلوا الدين بالسياسة... مما يدل على أن المسلمين في العصر الهابط بعد الغزو الثقافي، درسوا الثقافة غير الإسلامية وتأثروا بها، بخلاف المسلمين قبل ذلك، فإنهم درسوا الثقافات غير الإسلامية وانتفعوا بها، ولم يتأثروا بأفكارها.

ومن استعراض الكيفية التي درس المسلمون بها الثقافة غير الإسلامية، والكيفية التي كانوا يأخذونها بها، يتبين وجه الانتفاع وعدم التأثر. والمدقق في الثقافة الإسلامية يجدها معارف شرعية كالتفسير والحديث والفقه وما شاكلها، ومعارف اللغة العربية من نحو وصرف وأدب وبلاغة وما شابهها، ومعارف عقلية كالمنطق والتوحيد. ولا تخرج الثقافة الإسلامية عن هذه الأنواع الثلاثة. أما المعارف الشرعية فإنها لم تتأثر بالثقافات غير الإسلامية، ولم تنتفع بها مطلقاً، لأنها مقيّدة الأساس بالكتاب والسنة. فالفقهاء لم ينتفعوا بالثقافات غير الإسلامية ولم يدرسوها، لأن الشريعة الإسلامية نسخت جميع الشرائع السابقة لها، وأُمر أصحابها بتركها واتباع شريعة الإسلام وإن لم يفعلوا ذلك فهم كفّار. ولذلك لا يجوز للمسلمين شرعاً أن يأخذوا بتلك الشرائع، ولا أن يتأثروا بتلك الثقافات، لأنهم مقيدون بأخذ أحكام الإسلام وحدها، لأن ما عداها كفر يحرم أخذه. على أن للإسلام طريقة واحدة في أخذ الأحكام لا يتعداها مطلقاً. وهذا الطريقة هي فهم المشكلة القائمة واستنباط حكم لها من الأدلة الشرعية. ولذلك لا مجال لدراسة أي ثقافة فقهية بالنسبة لأخذ الأحكام من قِبل المسلمين. ومن هنا لم يتأثر المسلمون بالفقه الروماني أو غيره، ولم يأخذوا عنه ولم يدرسوه مطلقاً. ومع أنَّ المسلمين ترجموا الفلسفة وبعض العلوم، لكنهم لم يترجموا شيئاً من الفقه غير الإسلامي، ولا من التشريعات غير الإسلامية، لا رومانياً ولا غيره، مما يدل جزماً على أنه لم يكن للثقافات غير الإسلامية أي وجود عند الفقهاء، لا للدرس، ولا للانتفاع. نعم إن الفقه نما واتسع، وكان نموه واتساعه بما حدث أمام المسلمين في البلاد المفتوحة من مشاكل تحتاج إلى معالجات. فالمشاكل الاقتصادية التي صارت أمام الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، والقضايا التي حدثت في مختلف نواحي هذه الدولة، حملت المسلمين بحكم دينهم على أن يجتهدوا فيها حسب قواعد الإسلام، ويستنبطوا من الكتاب والسنة، أو مما أرشد إليه الكتاب والسنة من أدلة، الأحكام لمعالجة تلك المشاكل، وهذا ما يأمرهم به دينهم وما بيّنه لهم سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم . فقد روي عنه عليه السلام حين أرسل معاذاً إلى اليمن أنه قال له (كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ قَالَ أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ قَالَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلاَ آلُو فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَدْرَهُ وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ) أخرجه أبو داود عن الحارث بن عمرو عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل. ولذلك كان فرضاً على المسلمين أن يجتهدوا لاستنباط الحكم الشرعي لكل مسألة من المسائل التي تحدث. وهذه الأحكام التي تستنبط أحكام شرعية إسلامية، استنبطت من الكتاب والسنة، أو مما أرشد إليه الكتاب والسنة من الأدلة.

وأما التفسير فإنهم كانوا يشرحون آيات القرآن، ويحاولون أن يبينوا معاني الآيات، إمّا بحسب ما تدل عليه الألفاظ والجمل من المعاني اللغوية أو المعاني الشرعية، وإما بإدخال أشياء حدثت، تدخل تحت مدلولات تلك الألفاظ وتلك الجمل. وإنه وإن صار توسع في التفسير وتفصيل في بيان معاني الآيات، ولكنه لم يدخل في التفسير أفكار رومانية أو يونانية تتعلق بوجهة النظر في الحياة، أو التشريع، باعتبارها جاءت من الثقافات غير الإسلامية. نعم هنالك أحاديث موضوعة أو ضعيفة أخذ بها بعض المفسرين، فادخلوا معانيها في تفسير القرآن، مع أنها معانٍ غير إسلامية، ولكن ذلك لا يعتبر تأثراً بالثقافة غير الإسلامية، بل يعتبر دساً على الثقافة الإسلامية في دس أحاديث على الرسول صلى الله عليه و سلم لم يقلها. وفرق بين الدس على الإسلام في افتراء أحاديث، وبين التأثر بالثقافات غير الإسلامية، بأخذ أفكارها وإدخالها على الإسلام باعتبارها جزءاً منه. وبالجملة فإن المعارف الشرعية لم تتأثر بالثقافات غير الإسلامية. وأمّا المعارف الأدبية واللغوية وما شابهها، فإن تأثير اللغة العربية على وجود باقي اللغات في البلاد المفتوحة كان قوياً حتى أزالت اللغات الأخرى من الاستعمال العام في شؤون الحياة. فقد كانت اللغة العربية وحدها هي المسيطرة على جميع شؤون الحياة باعتبارها جزءاً أساسياً في فهم الإسلام، لأنها لغة القرآن. ولذلك تجد الأمم المفتوحة بعد اعتناقها الإسلام، قد شاركت في تقوية هذا التأثير، لأنه من مقتضيات الإسلام دينها الذي اعتنقته. ولذلك لم تتأثر اللغة العربية بلغات البلاد المفتوحة وثقافتها، وإنما أثّرت هي في البلاد التي فتحتها وأضعفت فيها لغاتها الأصلية حتى تلاشت في بعضها، وكادت تتلاشى في البعض الآخر، وبقيت اللغة العربية هي وحدها لغة الإسلام، وهي وحدها اللغة التي تستعملها الدولة، وهي اللغة الشائعة، وهي لغة الثقافة والعلم والسياسة. غير أن الأدب العربي قد صادف في البلاد المفتوحة أشكالاً مدنية ورياضاً وقصوراً وبحاراً وأنهاراً ومناظر وغير ذلك، فنما في زيادة معانية وأخيلته وتشبيهاته وموضوعاته، وانتفع بذلك، ولكنه لم يتأثر بالأفكار التي تناقض الإسلام. ولذلك نجد أن الجوانب التي تعلق بالعقيدة وتناقض الإسلام، لم يتأثر بها أحد من الأدباء المسلمين واعرضوا عنها إعراضاً تاماً. وبالرغم من أنّ الفلسفة اليونانية قد ترجمت واعتني بها، إلا أن الأدب اليوناني الذي يعدد الآلهة، ويعطيهم صفات البشر، لم يلق رواجاً لدى المسلمين، بل لم يلتفتوا إليه مطلقاً. نعم قد خرج عن مقتضيات ما يليق بالثقافة الإسلامية أشخاص، فتعرضوا لمعانٍ لا يقرها الإسلام، كما فعل الخُلَعاء من الأدباء والشعراء، فإنهم ذكروا في شعرهم معاني لا يوافق عليها الإسلام. إلا أن هؤلاء نزر يسير لا يعتبرون بالنسبة للمجتمع الإسلامي شيئاً مذكوراً، ومهما تأثر أدبهم بالمعاني التي ينهى عنها الإسلام، فإن هذا التأثر لم يكن تأثراً يؤثر على الثقافة الإسلامية، بل ظلت الثقافة الإسلامية، وظل الأدب العربي، وظلت اللغة العربية، خالية من الشوائب.

وأما المعارف العقلية فإن المسلمين بطبيعة مهمتهم الأصلية في الحياة، وهي الدعوة إلى الإسلام، كانوا يصطدمون بأصحاب الديانات والثقافات الأخرى، وكان أولئك يتسلحون بالفلسفة اليونانية، فكان لابد من إبطال عقائدهم وهدمها وبيان زيفها. وكان لابد من شرح العقيدة الإسلامية بالأسلوب الذي يفهمه هؤلاء. لذلك وضع المسلمون علم التوحيد ليبينوا فيه العقيدة الإسلامية ويشرحوها للناس، فكان علم التوحيد. وهو وإنْ كان من المعارف الشرعية من حيث الموضوع، وهو العقيدة الإسلامية، ولكنه يعتبر من المعارف العقلية من حيث الشكل والأداء، وقد انتفع المسلمون فيه بالمنطق وترجموا المنطق إلى اللغة العربية. وبهذا يتبيَّن أن الثقافات الأجنبية لم تؤثر في الثقافة الإسلامية لا في المعارف الشرعية، ولا في معارف اللغة العربية، ولا في المعارف العقلية، وبقيت الثقافة الإسلامية حتى أواخر العصر الهابط ثقافة إسلامية بحتة. أما المسلمون فإنهم أيضاً لم يتأثروا بالثقافة لا من حيث طريقة تفكيرهم ولا من حيث فهمهم للإسلام، وظلت عقلية المسلمين عقلية إسلامية بحتة. إلا أن هنالك أفراداً تأثروا هم بالمعارف العقلية الأجنبية، فنشأت عندهم أفكار جديدة. فهناك أفراد قد أوجدت دراسة الفلسفات الأجنبية غشاوة على أذهانهم أدت إلى وقوعهم في الخطأ في فهم بعض أفكار الإسلام، أو أدت إلى وقوعهم في الضلال حين البحث العقلي، وفهموا بعض الأفكار دون التقيد بالعقيدة الإسلامية، وبأفكار الإسلام. وهؤلاء فريقان: أحدهما كان الخطأ في الفهم هو الذي أوقعهم فيما وقعوا فيه ولكنهم ظلوا يحملون عقلية إسلامية، ونفسية إسلامية ولذلك يعتبر إنتاجهم العقلي من الثقافة الإسلامية ولو كان يحوي أفكاراً خاطئة، ولكنه خطأ في الفهم. والفريق الثاني كان الضلال في الإدراك هو الذي أوقعهم فيما وقعوا فيه، وقد انحرفوا عن العقيدة الإسلامية كل الانحراف وصاروا يحملون عقلية غير إسلامية، ولذلك لا يعتبر إنتاجهم العقلي من الثقافة الإسلامية.

أما الفريق الأول فقد كان تأثره بالفلسفة الهندية سبب خطئه في الفهم. ذلك أن الفلسفة الهندية تقول بالتقشّف وبالإعراض عن الدنيا، فالتبس ذلك على بعض المسلمين وظنوا هذا التقشف هو الزهد الذي ورد في بعض الأحاديث، فنشأ عن هذا الفهم فئة الصوفية، وأثر ذلك على فهم معنى الأخذ من الدنيا أو الإعراض عنها. مع أن الزهد في الدنيا يعني عدم اتخاذها غاية ومثلاً أعلى يكسب المال من أجلها، ولا يعني عدم التمتع بالطيبات. بخلاف التقشف والإعراض عن الدنيا فإنه يعني ترك ملذات الحياة وطيباتها مع المقدرة عليها، وهذا يتناقض مع الإسلام. فنشأ هذا الفهم الخاطئ من جراء الغشاوة التي غشت على أذهان بعض المسلمين من جراء دراسة الفلسفة الهندية.

أما الفريق الثاني فقد كان تأثره بالفلسفة اليونانية سبب ضلاله في الفهم. ذلك أن الفلسفة اليونانية جاءت بأفكار وأبحاث فيما وراء الطبيعة، وتعرضت لبحث وجود الإِله وصفاته. وقد هاجم المثقفون بها من غير المسلمين في البلاد المفتوحة، الإسلام، مما حمل بعض المسلمين على ترجمتها وعلى دراستها للرد على المهاجمين للإسلام. وقد حاولوا التوفيق بين ما جاء في الفلسفة وبين الإسلام، فأدى ذلك إلى وجود أبحاث تأثر أصحابها بالفلسفة اليونانية مثل بحث خلق القرآن، ومثل بحث هل الصفة عين الموصوف، أو غير الموصوف، وغير ذلك من الأبحاث، إلا أن هذه الأبحاث وقفت عند حدود العقيدة الإسلامية، والتزم أصحابها بها وتقيدوا بأفكارها. وكانت العقيدة الإسلامية سبب أبحاثهم، فلم يحيدوا عنها، ولم يندفعوا في الفلسفة أكثر مما تنطبق عليه هذه العقيدة. فكانت أفكارهم أفكاراً إسلامية، وتعتبر أبحاثهم ثقافة إسلامية. ولذلك لم ينحرفوا ولم يضلوا، وكان تقيدهم بالعقيدة الإسلامية حامياً لهم من الضلال. وهؤلاء أمثال المعتزلة من علماء التوحيد. ولكن وجد هنالك أشخاص قلائل اندفعوا في الفلسفة اليونانية دون أن يتقيدوا بالعقيدة الإسلامية، وبحثوا في الفلسفة اليونانية بحثاً على أساس عقلي محض دون أي تقيّد بالإسلام. وقد توغلوا في بحث الفلسفة اليونانية وأخذوا يحاولون تقليدها والاقتداء بها، كما أخذوا يحاولون إيجاد فلسفة لهم على منوالها. ولم يجعلوا للعقيدة الإسلامية أي أثر في أبحاثهم، ولم يلاحظوا وجودها، بل كان بحثهم بحثاً فلسفياً محضاً، وإن كانوا باعتبارهم مسلمين قد ظهرت في أبحاثهم نواحٍ إسلامية، ولكن ذلك كان من جراء مفاهيم الأعماق الإسلامية الموجودة لديهم كما كانت الحال عند فلاسفة اليهود، وهذا لا يقرِّب فلسفتهم من الإسلام أية خطوة بل هي فلسفة عقلية سائرة في طريق الفلسفة اليونانية. وهؤلاء هم الفلاسفة المسلمون كابن سيناء والفارابي وابن رشد وأمثالهم. وفلسفتهم هذه ليست فلسفة إسلامية ولا فلسفة الإسلام عن الحياة، ولا علاقة لها بالإسلام مطلقاً، بل لا تعتبر ثقافة إسلامية، لأن العقيدة الإسلامية لم تكن شيئاً في بحثها، بل لم تُلاحظ حين بحثها، وإنما كانت الفلسفة اليونانية هي موضع بحثها وليست لها أيّة علاقة بالإسلام ولا بالعقيدة الإسلامية.

هذه هي خلاصة موقف المسلمين من الثقافات غير الإسلامية. فهم لم يتأثروا، ولم ينتفعوا، ولم يدرسوا الثقافات الأجنبية المتعلقة بالأحكام الفقهية مطلقاً، فلم يوجد في المعارف الشرعية أي شيء يتعلق بالثقافات غير الإسلامية، وانتفعوا بالمعاني والتشبيهات والأخيلة الموجودة في الثقافات الأجنبية، إلا أن ذلك لم يؤثر على اللغة العربية ولا على الأدب العربي، فكانت دراستهم للثقافات غير الإسلامية من هذه الجهة دراسة انتفاع لا دراسة تأثر. أما العلوم العقلية فإنهم درسوها وانتفعوا بها من حيث أسلوب الأداء في المنطق وعلم التوحيد. ولكن الإسلام وأفكار الإسلام لم تتأثر، ولكن بعض المسلمين تأثر في فهمه وحده للإسلام فظهر ذلك في تصرفاتهم وكتاباتهم هم، لا في الثقافة الإسلامية والأفكار الإسلامية، وذلك كالصوفية والفلاسفة المسلمين.

هذا بالنسبة للثقافة، أما بالنسبة للعلوم من طبيعية ورياضية وفلك وطب وغيرها، فإن المسلمين درسوها وأخذوها أخذاً عالمياً وهي لا تدخل في باب الثقافة التي تؤثر على وجهة النظر في الحياة، وإنما هي علوم تجريبية، وهي عامّة لجميع الناس، وهي عالمية لا تختص بأمة دون غيرها من الأمم. ولذلك أخذها المسلمون وانتفعوا بها.

وأما أسلوب التأليف في العلوم والثقافة الإسلامية، فإنه نما نمواً طبيعياً حتى وصل إلى التنظيم، فقد بدأت الثقافة الإسلامية شفوية يتناقلها الناس بعضهم من بعض بالسماع، ولم يُعنَ بتدوين شيء سوى القرآن، إلى أن اتسعت رقعة الدولة وصارت الحاجة ماسَّة لكتابة العلوم والمعارف. فبدأ حينئذ يكثر التدوين شيئاً فشيئاً، ولكنه كان على غير نظام معيّن. فكانوا يكتبون مسألة في التفسير، ومسألة في الحديث، ومسألة في الفقه، ومسألة في التاريخ، ومسألة في الأدب الخ .. كلها في كتاب واحد من غير ترتيب ولا تبويب لأنها كلها علم في نظرهم. ولا فرق عندهم بين أي علم وعلم، ولا بين أي معرفة ومعرفة، بل العلم كله شيء واحد، والعالم غير متميِّز بعلم معيّن. ثم أخذ يتركز التأليف حين اتسعت دائرة المعارف وصار أكثر العلماء لا تتسع قدرتهم على الإحاطة بها، فغلب على كل طائفة منهم ميل خاص إلى نوع من العلوم والمعارف. وبذلك صارت المسائل المتشابهة يُجمَع بعضها إلى بعض. فتميزت العلوم والمعارف، وصار العلماء يدخلون عليها التنظيم شيئاً فشيئاً. وبذلك اتجهت الأفكار إلى التنظيم والتأليف، حتى كان مثل كتاب الموطأ في الحديث، وكليلة ودمنة في الأدب، وكتاب الرسالة في الأصول، وكتب محمد في الفقه، وكتاب العين في اللغة، وكتاب سيبويه في النحو، وكتاب ابن هشام في السيرة، وكتاب الطبري في التاريخ، وهكذا .... بل وجدت كتب في فرع واحد من الفقه، مثل كتاب الخراج لأبي يوسف في الاقتصاد، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي في الحكم. ثم شمل التأليف كل فرع من فروع العلوم والمعارف وصار تنظيمه يترقى تدريجياً في مسائله وأبوابه إلى أن أصبح تأليفاً راقياً يشمل جميع أنواع المعارف والعلوم. ثم تميزت الثقافة عن العلم في التأليف وفي صفوف الدراسة العليا في الجامعات وهكذا .....
ومما يجدر ذكره أن المسلمين أخذوا من غيرهم أسلوب التأليف، لأن أسلوب التأليف كالعلم ليس خاصاً وإنما هو عام.

مقاوم
04-05-2008, 06:41 AM
موضوع شيق جزاك الله خيرا
سأعود لإكماله ...لكن من الكاتب يا ترى؟

عزام
04-05-2008, 08:10 AM
وكانت العقيدة الإسلامية سبب أبحاثهم، فلم يحيدوا عنها، ولم يندفعوا في الفلسفة أكثر مما تنطبق عليه هذه العقيدة. فكانت أفكارهم أفكاراً إسلامية، وتعتبر أبحاثهم ثقافة إسلامية. ولذلك لم ينحرفوا ولم يضلوا، وكان تقيدهم بالعقيدة الإسلامية حامياً لهم من الضلال. وهؤلاء أمثال المعتزلة من علماء التوحيد.

مقال طيب الا اني لم افهم كيف يعتبر الاعتزال ثقافة اسلامية في حين ان المعتزلة ضالون في نظر جمهور العلماء

من هناك
04-05-2008, 01:42 PM
الكاتب من حزب التحرير ولذلك عليك ان تتوقع بعض الامور اخي عزام

عزام
04-05-2008, 03:10 PM
نعم لكن التفريق بين الانتفاع والتأثر اعجبني
عزام

من هناك
04-05-2008, 10:24 PM
واعجبني ايضاً :)

عزام
04-05-2008, 11:30 PM
واعجبني ايضاً :)
اعجبك بمعنى انه اثر بك ام انك انتفعت به؟ :)