تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مقالات عن القراءة والكتابة والعلم



عزام
03-30-2008, 10:25 AM
قدسية الكلمة

جودت سعيد

(علم الاسماء) هو علم امتاز به آدم عن الملائكة حين أعلنوا أنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله وذلك في قصة استخلاف آدم في الأرض . (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة . قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون . وعلم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم على الملائكة فقال : أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم . قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم ، فلما أنبأهم بأسمائهم قال : ألم أقل لكم : إني أعلم غيب السماوات والأرض ، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) ( البقرة آية 30 - 33) .
في هذا الحوار - الدائر بين الله عز وجل وملائكته - إشارة إلى أهمية ( وعلم آدم الأسماء كلها ) ، إذاً (علَّم الأسماء) سيحقق آدم وذريته ما علم الله فيهم وغاب عن الملائكة ، وبـ (علم آدم الأسماء) سيتمكن آدم وذريته من نفي تهمة الملائكة له ولذريته بالفساد في الأرض ، وسفك الدماء ، وهي تهمة كبيرة لا تزال ملتصقة بالإنسان ، ولكن هذا الإنسان يملك وسيلة الخلاص وهي العلم .
إن وضع الاسم يأتي بعد إدراك موضوعه . فالبشر في الأصل لا يضعون اسماً لما لا يعلمون أو لما لم يصل إلى إدراكهم ، فكل ما لم يصل إلى إدراكهم له اسم واحد وهو المجهول ، وأما إذا وصل الإنسان إلى إدراك الوجود الفيزيائي - المادي الأفقي - أو الوجود الاجتماعي الإنساني فإنه يضع الاسم له بعد التصور الأول ، ولا يزال الإنسان يتعامل مع هذا الوجود وذاك حتى يصحح نظره ويحذف الخطأ من إدراكه ويثبت الصواب . ( فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) (الرعد / 17) ( وقل رب زدني علماً ) ( طه / 114 ) فبعد الفهم والتصور يضع الإنسان الاسم ، أي أنه بعد دخول الشيء إلى عالم الوعي يثبته الإنسان بوضع اسم له، عنوان ولادته ووجوده في ذهن الإنسان : فالشيء كان موجوداً ولكن لم يكن له اسم ، لأنه لم يكن دخل بعد في وعي الإنسان وإدراكه ، فلما دخل وعي الإنسان وإدراكه وضع له الاسم ، فعلَّم الإنسان هذا الشيء الذي أدركه بأن وضع له علامة تميزه . إذن وَضْعُ الأسماء ، أو قدرة الإنسان على التعامل بالرمز اللفظي (الاسم) : هي القدرة الجديدة المهمة التي تؤهل الإنسان لأن يكون مستخلفاً في الأرض . والواقع ، إن القدرة اللفظية أو قدرة وضع الأسماء أو تعليم آدم عليه السلام - الأسماء - هي القدرة الأولى في هذا الخلق الآخر ( ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) ( المؤمنون / 14 ) إن قدرة تعلم الأسماء وأهميتها هي التي جعلت الأقدمين يعرفون الإنسان بأنه حيوان ناطق ، وإن كان المناطقة فسروا النطق بالتفكير إلا أن التفكير لا ينتقل من صاحبه إلى الآخرين إلا بالنطق والكلام ، أو الكتابة التي هي ترميز للنطق والكلام ، فلا حرج أن نقول : إن النطق والبيان أهم صفات الإنسان ( الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ) ( الرحمن / 1-4 ) .
إن قدرة الكلام جعلت في الإمكان إدخال عامل تربوي زيادة على الوراثة العضوية ، إذ صارت الخبرات البشرية ممكنة الانتقال مشافهة . وإن ما يعرفه العلم عن بداية ظهور اللغة ، والنطق والكلام عند الإنسان ضحل ، مع أن إنسانية الإنسان قد بدأت مع الكلمة واللغة : فبالكلمة ارتفع الإنسان إلى مرتبة الإنسان ، كما بدأ تاريخ الإنسان يُسجَّل ويُعرف ، وتنتقل خبرات السابق إلى اللاحق مع اختراع الكتابة والقراءة التي أضاءت مسيرة الإنسان . وبقدرة تعلم الأسماء صار آدم وذريته خلقاً آخر ، وهذه القدرة الجديدة جعلت خطاب الله تعالى لآدم - عليه السلام - من نوع آخر ، فإن وحيه - جل جلاله - إلى البشر ، لم يكن كوحيه إلى النحل . وبذلك أيضاً صار آدم مستأهلاً الخلافة في الأرض ، لأن تعلم الأسماء فتح مواهبه وقدراته الكامنة . فقد تعلم الأسماء ، وسيتعلم بعد ذلك أن يقرأ ، وسيقرأ باسم ربه الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم . وسيصل هذا الإنسان إلى ما علم الله فيه وجهلته الملائكة من التغلب على الفساد وسفك الدماء ، وبهذا العلم أقرت الملائكة بقصور علمهم عن الإنسان حين حكموا عليه بما حكموا . إن اللغة والبيان وظائف لكيان الإنسان : فهي آيات على الفكر والسلطان وقدرة الإنسان على التسخير . وإن اللغة والبيان لأجل الحقيقة والصدق ، لا للوهم والكذب ، فالاسم الذي ليس علامة على واقع اعتبره الله تعالى زيفاً وبهتاناً . فينبغي أن يُصان الاسم واللغة والبيان عن الكذب والزيف ، لهذا قال عن الأصنام ، اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى : (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان ) (النجم / 23 ) ، فالكلام ليس لمجرد الكلام ولا للخداع والدجل ، وإنما لنقل الحق والواقع ، لتثبيت الصدق والعدل (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) ( الحديد / 25 ) فالكلام الذي لا يعبر عن واقع وصدق عملة مزورة ، وصك لا رصيد له « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليقل خيراً أو ليصمت » (البخاري كتاب الأدب) وفي تراث الصالحين حديث طويل عن قدسية الكلام وصونه عن أن يخرج عما خلق له من بيان الحق (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً ، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ) ( الأحزاب / 71 ) (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) ( الصف / 3 ) فمن هنا تأتى قدسية الكلمة التي ترفع صاحبها إلى مراتب الصديقين ، أو تهوي به في نار الجحيم ، ومن هنا كان قول أصدق الناطقين محمد صلى الله عليه وسلم وهو يجيب من قال : ( وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ ) فقال : « ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم » ( مسند الإمام أحمد ، جـ 5 ، ص 231 ) فهذا من يستخدم آلة الصدق للغش .
يبدأ عمل اللغة بعد تشكل الصور الذهنية عن الوجود الخارجي ، فالبيان واللغة يفيدان على قدر وضوح الأفكار والصور الذهنية عن مخلوقات الله. فكلما وضحت الأفكار ، تشققت فنون البيان ، واتسعت اللغة ، وتمكنت من الأداء ، وجعلت للكلمات رشاقة ورصانة كأنها البنيان يشد بعضه بعضاً ، وهذا ما عناه الناقد الكلاسيكي . بوالو : ( إن ما نجيد فهمه ، نجيد التعبير عنه ). بينما الأفكارُ التي تفتقد الوضوح ، تفتقد الألفاظ التي تعبر عنها ؛ فضحالة الأفكار تجعل الإنسان عيياً لا يقدر أن يحير جواباً ، وضحل الأفكار وإن تشدق وأطلق العنان لصف من الألفاظ ، فكلامه مثل كلام النائم ، أو كلام ذي غيبوبة لا صلة بين أجزائه . وهذا ما يحدث للغة في عصور التخلف حيث تصبح الأفكار ضحلة فتفتقد اللغة دورها الإيجابي ، وتصبح قوالب بلاغية محنطة فارغة . فهذا معنى قول الإمام الغزالي : ( من طلب المعاني من الألفاظ ، ضاع وهلك ، وكان كمن استدبر الغرب وهو يطلبه).
ويبين توينبي أيضاً ، أن هناك بعض الثقافات تجعل الكلمة مصدر المعاني بدل أن تكون الكلمات إمارات على المعاني. فالثقافة التي تجعل الكلمات أمارات على المعاني ، لا تعطي القدسية للكلمات إلا بمقدار دلالتها الواضحة على المحتوى الخارج ، بينما الثقافة التي تجعل القدسية للكلمات تحاول أن تفسر الحقائق الخارجية العصية لتوافق الكلمات ، وهذا عكس القضية وانتكاس للوظائف .
وبهذا القلب المعكوس ، كانت ولا تزال تحتفظ البيوتات بالشرف الذي كان موجوداً يوماً ما للآباء ، وإن لم يعد هناك وجود حقيقي للشرف والأعمال التي أكسبتهم الشرف . ولهذا جاء الشرع بأن من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه ، ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ( الحجرات / 13 ) ( فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ) ( المؤمنون / 101 ) .
ومثل هذا الانعكاس يحدث أيضاً في الشرع والقوانين . فحين يرى عيسى - عليه السلام - غلو اليهود في تعظيم السبت ، يقول لهم القاعدة التي تعيد الأمور إلى نصابها : (الإنسان هو رب السبت أيضاً) أي أن الإنسان ليس من أجل السبت، وإنما السبت من أجل الإنسان. ويحدث مثل هذا الانتكاس أيضاً للقانون الذي يوضع في الأصل من أجل البشر، ولكن البعض الذي تغيب عنه هذه الحقيقة، يجعل البشر من أجل القانون، فيعقد الأمور ويضيع مصالح البشر التي وضع القانون من أجل توفيرها وتسهيلها، وهكذا .. وهكذا .
والذين عارضوا كوبر نيكوس في نظريته الفلكية كانوا يستشهدون على خطأ كشف بالوقوف عند حرفية ما ورد في كتبهم المقدسة من أمر يوشع للشمس أن تقف عن المغيب، ولو كانت الأرض هي التي تتحرك لكان قال للأرض: قفي ، ولم يقل للشمس : قفي. وهكذا دواليك .
لهذا كان الأنبياء يصدق بعضهم بعضاً ، ولكن كانوا يكذبون شكل التدين الزائف الذي خرّفه الاتباع ، فتحولت الدعوات التي كرمت الإنسان وأخرجته من عبوديته الإنسان للإنسان إلى أغلال ، وتحول الأنبياء والمصلحون إلى أوثان ، على أن النبي كان يأتي ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يحذر أمته من أن تحذو حذو الأمم السابقة : « لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وراعاً بذراع » ( البخاري كتاب الاعتصام ) . هذا التحذير ليس إثباتاً للجبر ، وليس نفياً لجهد البشر في القدرة على التغيير ، وإنما لإرشاد الناس إلى أنهم حين يفقدون الإمساك بزمام الأمور وتسخيرها ، فإن للأمور سنناً طبيعية تأخذ مجراها على أساس المسخرات وليس على أساس المسخرين ، وأن الإنسان إن لم يقم بدور التسخير كإنسان فسيدخل إلى عالم المسخرات كسائر الكائنات التي رفضت حمل الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال ، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ، إنه كان ظلوماً إن تخلى عن حمل الأمانة ، وجهولاً إن لم يجتهد في تزكية نفسه ، ولم يتعلم علم التسخير وتقرير المصير ..فهكذا نقع في الخطأ ، حين نطلب المعاني من الألفاظ ، ونهتدي حين نقرر المعاني ونتبع المعاني الألفاظ ، ما قرر الإمام الغزالي .

من هناك
03-30-2008, 10:53 AM
جزاك الله خيراً على الموضوع.
قراءة ممتعة لمن لم يقرأ بعد فالمقالة تستأهل

هنا الحقيقه
03-30-2008, 11:51 AM
فعلا مقالة مفيدة وجميلة
ولوا علم الاسماء لظهر لكان الفساد
ولكن يسحبنا هذا القول الى سؤال اخر
الم يتعلم ادم الاسماء كلها ؟
درءا للفساد فلما سفكت الدماء وظهر الفساد في البر والبحر ؟

هنا الحقيقه
03-30-2008, 11:51 AM
فعلا مقالة مفيدة وجميلة
ولوا علم الاسماء لظهر لكان الفساد
ولكن يسحبنا هذا القول الى سؤال اخر
الم يتعلم ادم الاسماء كلها ؟
درءا للفساد فلما سفكت الدماء وظهر الفساد في البر والبحر ؟

عزام
03-30-2008, 02:51 PM
الم يتعلم ادم الاسماء كلها ؟
درءا للفساد فلما سفكت الدماء وظهر الفساد في البر والبحر ؟
ربما لأن الانسان لم يعمل بمقتضيات هذا العلم الرباني؟

عزام
04-01-2008, 04:13 PM
دخول الانسان عصر القراءة

اعتبرنا فيما سبق ان اللغة أو القدرة على وضع الأسماء، هي المقام الذي رفع الله آدم - عليه السلام - إليه حين علّمه الأسماء كلها؛ وهذا ما جعل الملائكة يعترفون بنقصان علمهم عنه، ومن هنا تطرق الخلل إلى حكمهم على آدم بأنه لا يستأهل خلافة الأرض، فهو يفسد فيها ويسفك الدماء. والقدرة التي نتحدث عنها هي اللغة؛ أي نقل الأفكار والتجارب بالألفاظ والحديث. فحين وضع آدم الرموز اللفظية - الأسماء - للأشياء والأحداث، اعترفت الملائكة بنقصان علمهم. فاللغة موغلة في القدم مئات الآلاف من السنين، وربما الملايين، بينما قدرة وضع الرموز الدالة على الألفاظ - الكتابة - متأخرة وحديثة في حياة البشر، لا تتعدى بضعة آلاف من السنين، واعتبر المؤرخون ظهور هذه القدرة عند الإنسان بدءاً للتاريخ. ومهما حاولنا أن نظهر أهمية هذه القدرة ، فإننا لن نوفيها حقها .. إنها قدرة القراءة ، قدرة القدرات وآية التكريم ، ومظهر كرم الله ( اقرأ وربك الأكرم ) (العلق / 3) ، إنها التعليم بالقلم .. إنها ( ن . والقلم ) .. إنها الرمز ، الأداة .. الرمز الخالد الباقي .. الرمز الذي يقي الإنسان من أن يلدغ من جحر مرتين حين يحسن استخدامه ، فالإنسان يحمي نفسه من الشر بالاعتبار ولا يتم الاعتبار إلا بالرمز الذي يحفظ المثلات. وأكاد أن أقول : إن الكتابة تمنح الإنسان القدرة على اجتناب الخطأ الذي وقع فيه السابقون حين نقلت الكتابة خبراتهم، وسجلت أخطاءهم. اقرأ يا إنسان باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، فصار قابلاً أن يتعلم بالقلم . اقرأ ورب الأكرم.
إن القراءة ينبوع العطاء .. ينبوع كل المكاسب .. ينبوع التسخير إلى الأفضل دائماً .. بـ نون والقلم وما يسطرون : دخل الإنسان عهداً جديداً ، وبهذا أضيفت إلى الإنسان خزائن معلومات … أضيفت ذاكرة جديدة غير قابلة للعطب والنفاذ . واكتسب كرم الله الخلود والاستمرار … اقرأ وربك الأكرم … اقرأ … فإن من أعطاك القراءة قد أعطاك سلطاناً واستخداماً وتسخيراً ، فيما له من عطاء ، لمن تأمل ، وتفكر ، وتدبر .
وإني أرى أن سر القدرة على استخدام الرمز على مخلوقات الله كلها ، مرتبط بالقراءة ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) فالقراءة رمز على المخلوقات المادية والمعنوية . وإن إمكان وضع الرمز على المخلوق ، جعل الإنسان سيد المخلوقات ومسخِّرها . بالرمز أمسك الإنسان زمام الخلق - المخلوقات - وبالرمز قنص الإنسان المادة والمعنى ، وجعلها طوع أمره ( سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه ) ( الجاثية / 13 ) . ثم انتقل الإنسان من وضع الرمز اللفظي ، إلى وضع الرمز على الرمز ، أي وضع الحرف الذي يدل على الأصوات المختلفة . إن وضع رمز على مخرج حرف معين ، وجعل القراءة على هذا الأساس ، نهاية لعصر الرموز بالصور على المعاني . وكأن اللغة الصينية واليابانية لا تزالان في مرحلة متخلفة عن جعل الكتابة بالرموز على المقاطع الصوتية ، وكأن اللغة الهروغلوفية كان بدؤها كذلك .
إنني أطيل البحث في شيء لا يبدو متصلاً بتعريف العلم ، أو بمعنى العلم كما يظهر لأول وهلة ، ولكن إدراكي لمعنى العلم ، يجعلني مضطراً لبحث هذا الرمز ؛ لأن الرمز ، وقدرة الإنسان على حبس المعنى في الرمز ، وإبراز هذه القدرة إلى الواقع ، أعطى الخلود للعلم . لقد كانت التجارب تضيع ويعاني الإنسان دفع الأثمان الغالية ، بإعادة التجارب التي كانت تموت مع من قام بها ، إذ لم يكن في الإمكان توريثها للخلف بشكل دقيق . وإن تغلب الوثنيات على الأديان السابقة للإسلام وانحراف هذه الأديان عن مبدأ الوحدانية ، راجع في الدرجة الأولى إلى أن تعاليم تلك الأديان لم تسجل في حينها ، وإن قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (الحجر / 9) ، والتنفيذ العملي من الرسول الأمي صلى الله عليه وسلم في الأمر بتسجيل الآيات فور نزولها ، وما يعرف في السيرة النبوية وتاريخ القرآن بكتّاب الوحي ، دليل على تسجيل الأحداث بالرموز ، التي تعطي معنى الخلود : ( وإنا له لحافظون ) ؛ موضوع التوثيق والوثائقية . فمن هنا كانت ميزة ومكانة القرآن في تاريخ الأديان .
إن الرمز بالقلم ، جعل العلم خالداً ، وحصَّنه من التحريف ، والضياع والنسيان ، لهذا وصف القرآن السابقين بأنهم : ( فنسوا حظاً مما ذكروا به ) (المائدة / 14) ، حيث لم يكن التسجيل فور نزول الأحداث ، وكان ها سبباً لإغراء العداوات والبغضاء بينهم ، بسبب قلة البيان . إن البيان يحدث برد اليقين الذي يزيل الأحقاد ، فبالعلم تزال الأحقاد وأسباب النزاع في العالم .
إن آثار الإنسان قبل الكتابة موغلة في القدم آلاف آلافٍ من السنن ، ولكن عهد الكتابة قصير في تاريخ الإنسان يرجع إلى بضعة آلاف فقط ، وإن هذا العهد القصير حافل بتقدم الإنسان ، بتقدم العلم ، بتقدم التسخير ، بتراكم المعلومات ، بتراكم الرموز على الخلق . ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) .
إنني حين أذكر هذه الأشياء ، كأنني أبحث أساس العلم ، وتاريخه ومعايشته ، ومعاصرته ، وكيف كسب العلم الخلود . إن الله حين يقول لنا : ( سيروا في الأرض فانظروا بدأ الخلق ) (العنكبوت / 20) ، يضعنا على طريق العلم الحقيقي . إن معرفة جزء ضئيل من تاريخ العلم كمعرفة جزء ضئيل من تاريخ إنسان معين ، لا تعطي معلومات كافية عنه . إن العلم الذي يغفل عن التطلع إلى كيف بدأ خلق المخلوقات المادية والمعنوية ، لا يخلو من الأوهام والأهواء ، فيكون مشتبهاً بالخرافات . وكم أشكو في العالم الإسلامي والعالم المعاصر عامة من اختلاط العلم بالأوهام والأهواء ، أي الظنون والرغبات . إن العلم لا يتحرر من الأوهام والأهواء ، إلا إذا حُصن بإدراك كيف بدأ الخلق : مادة ومعنى ، طبيعة واجتماعاً ، آفاقاً وأنفساً . وبدخول قدرة القراءة إلى عالم الإنسان ، اكتسب الإنسان سلطاناً جديداً ، واستأهل الخلافة ، وملك قدرة وأداة للقضاء على الفساد والسفك . إن تذوق وإدراك أهمية القراءة في حياة البشر ، وإدراك ما أعطي الإنسان من خير وبركة وسلطان ينفذ به من آفاقه المحدودة ، إن هذا التذوق والإدراك التاريخي - أي كيف دخلت هذه القوة إلى حياة الإنسان الذي كان خالياً منها - يحمل على التأمل ويفتح آفاقاً جديدة أمام الإنسان وقدراته على حل المشكلات ، وإمساك زمام سلطان التسخير لما خلق له .
بالقراءة يمكن اختزال التاريخ ، بالقراءة يمكن أن يختزل الإنسان عصور المعرفة والتجارب . إن الفرق بين الإنسان الذي يولد في مجتمع القراءة والكتابة ، وبين من ولد قبل ذلك العهد ، أن إنسان عهد القراءة قادر على حيازة تجارب آلاف السنين لآلاف البشر . فبالقراءة يمتلك الإنسان طاقة مختزلة مركزة مليئة بالعلم ، مختزلة في حجم إنسان اختزل حجم آلاف السنين في عمر إنسان واحد .
إن المسلم يحترم ويقدس الكتابة ، ومازلنا نشاهد بقايا نوع من الناس يرفعون القصاصات عن قارعة الطريق ، ولا يعون جيداً القدسية المعنية الموجودة في الكتابة ، والحرف ، والخط والقلم ، والرقّ المنشور . إن هذا الجلل وهذه القدسية ، وهذه الكرامة ، وهذا العطاء غير الممنون للإنسان ، يمكن أن يفهمه بشكل واضح جداً كل من أدرك وظيفة القراءة ، وما يمكن أن تعطيه للإنسان لبلوغ منزلة أحسن تقويم .
إن مشكلة الأمية ، وما يخسره الإنسان بفقدانه القراءة والكتابة ، شيء لا يعوض ، وإن البلدان التي تعاني من الأمية تعاني من نقص في فاعلية الإنسان . إن الإنسان الأمي منزوع منه الشريان الذي يمده بالسلطان ، لأنه مفصول عن تجارب البشر ، بل يمكن القول : إنه غير قابل أن يبلغ الرشد .
إن الصلة بالكتاب تغير من سحنة الإنسان ، ومن توتر عضلاته ، وسمات وجهه ، والذين يفقدون الصلة بالكتاب يفقدون السلطان ( كأنهم خشب مسندة ) (المنافقون / 4) ذلك أن بلوغ مرحلة التقويم الحسن للإنسان التي تفضَّل الله بها ، لا يتم إلا عن طريق الصلة بالكتاب . فيا أيها الإنسان أن ربك الكريم ، الذي خلقك فسواك فعدلك ، في أي صورة ما شاء ركبك .. إن ربك الكريم رفع من قدرك ، ومن خلقك ومن تسويتك ، وتعديلك ، غير من شأنك بالقلم والكتاب ( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (الزمر / 9) .
إن حل مشكلات الإنسانية ، ونفي تهمة الملائكة لبني آدم ، وإخراج الإنسان من الفساد والسفك … لا يتم إلا بالتسخير الحق لقدرة القراءة .
إن التسخير الحق لقدرة القراءة ، يجعل الإنسان يطير بجناح القراءة ، ويتغلب على المشكلات . لا يغرنك شيوع الفساد والسفك في العالم . إن إنساناً أدرك كيف بدأ خلقه وكيف وصل إلى ما وصل إليه ، وتجاوز ما تجاوز ، سيعلم كيف سيصل إلى ما لم يصل إليه بعد ، وكيف يتجاوز العقبات التي أمامه ، كما تجاوز العقبات التي خلفها .
إن الكاتب ، والقارئ ، والطابع والكتاب .. إن كم وكيف كلٍ من هذه الأمور هي التي تعطي للمجتمع صورته التاريخية ومركزه بين معاصريه .. إن هذا الكم والكيف مؤشر صادق لعدالة الصورة والخلق المسواة ، والرصيد من الحق . إن الاستخلاف في الأرض هو لمن يقوم بهذا النسك أفضل قيام ، إن من يقوم بهذا النسك على أحسن وجه يكون حظه أوفر من موجبات استخلاف آدم في الأرض .

عزام
04-04-2008, 04:47 PM
كيف تتحول النعمة إلى نقمة ؟
إن من يراقب الطفل كيف ينمو ليتمكن من القعود ، ثم الوقوف ثم المشي ، يجد سنة الله في التدرج ، ويجد أن الطفل الذي يمشي ، يتعثر أول الأمر ويسقط .. حتى تقوى عضلاته . إن وقوعه أمر متوقع ، ولكن غير المتوقع أن يظل يسقط دون أن يتحسن في نموه .
إن عثرة الطفل السليم غير عثرة المشلول . وإذا كان هذا الأمر واضحاً في مستوى الطفل ونموه . فإن الأمور تشتبه كثيراً في نمو المجتمعات وتطورها .. وخاصة حين لا يبحث الإنسان في الأسباب التي تؤدي إلى تكرار تعثره وسقوطه وعدم سيره سوياً على صراط مستقيم ، وهذه أمور يدركها من يعلم مسارات التاريخ ، ويبصر بعمق وإدراك عثرات المسافرين .
إن نعمة القراءة من أجلِّ النعم ، ولكن يمكن أن تتحول عند قوم معينين أو في عصر معين ، إلى ما يشبه النقمة ، فإن كان من شأن القراءة أن تسارع في النمو ، فقط تكون عند قوم وفي عصر مُعين ، إبطاء للنمو لسوء التعامل معها ، كما يمكن أن يكون الربيع سبباً للهلاك بالتخمة عند مخلوق معين ، كما ورد في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حذر المسلمين من أن تفتح عليهم الدنيا فيتنافسوها كما تنافسها من قبلهم ، فتهلكهم كما أهلكت من قبلهم . سأله سائل يا رسول الله : وهل يأتي الخير بالشر ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما إنه لا يأتي الخير بالشر ، ولكن إنّ مما يُنبتُ الربيعُ ما يقتلُ حَبَطاً أو يُلم » ( البخاري كتاب الجهاد ) . إن الربيع خير، ولكن يكون شراً لبعض الحيوانات، وهكذا كل نعمة يمكن في ظروف معينة ، أن تؤدي إلى نقمة أو عثرة.
إن القراءة والكتابة ، نعمة مستمرة دائمة متواصلة ، بها لا بغيرها تزو الحياة ، وتنمو الكفاءات ، والقدرات ، ولكن قد تستخدم هذه النعمة أحياناً ، استخداماً سيئاً يؤدي للعطالة وخمود الحياة ، مثل استخدام المسلمين سرَّ ( كاف ، ها ، يا ، عين ، صاد ) . فبدل أن يستخدم ليكون وسيلة لمعرفة التجارب البشرية ، وكيف بدأ الله الخلق ، صار سرّ (كهيعص) تميمة لدعوة ملوك الجان الأحمر والأزرق ، لفك السحر ، أو تركيبه . كما أن تقديسهم لـ (ن والقلم) تحول إلى جمع قصاصات الأوراق من الطرقات ، بدل الاطلاع بسرّ (نون والقلم) على تجارب المجتمعات والحضارات ، ومعرفة كيف بدأ الخلق لرؤية سنن الله التي لا تتغير ولا تتبدل ، ولرؤية قدرة الإنسان على تقرير مصيره ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد / 11) والإمام الغزالي حين قال : (من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر الغرب وهو يطلبه) ، كان يستشعر بوضوح وظيفة اللفظ ومكانة الرمز ، ولم يكن من قصده أن القراءة والألفاظ الدالة على المعاني لا تؤدي وظيفة ولكن كان يقصد أن من فقد الصلة بالوجود الخارجي - بالآفاق والأنفس ، أي بالموضوع الذي وُضع عليه الرمز - فإن الرمز لا يفيده شيئاً ، ويكون جديراً بأن يوصف بأنه ضاع وهلك ، وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه .
وأذكر بعض التجارب التي عايشتها حين كنت طالباً ثم مجنداً ، تتصل بهذا الموضوع . لقد كانت بعض أساتذتي المخلصين الطيبين بعبارات كتب الفقه وشروح الحديث ، صلة الوقوف عند الألفاظ ، والتهيب الشديد لرؤية القداسة في كلام الشراح ، ثم رأيت وأنا مجند الموقف نفسه حين يختلف المدربون في شرح وظيفة سلاح ما ، فقد كانوا ينظرون إلى الكراس المترجم بنفس القداسة . إن هذين الموقفين متشابهان إذ لم يكن التعامل الواقعي هو الذي يحدد ما ينبغي أن يقال في الموضوع ، وإنما كان تقديس الأشخاص ، وآرائهم المكتوبة هي التي تحدد الموقف .
إن تقديس الأشخاص وآرائهم المكتوبة ، كان يحول لا شعورياً ، دون التعامل مع الوقائع الخارجية ، للتحقق من صحة هذه الآراء . فالذين يقدسون أرسطو - مثلاً - تجمدوا على رأيه في سقوط الأجسام ، ولم يخطر لهم أن يثبتوا من صحة أقواله ، بينما كان جاليلو يميل إلى إمتاع نفسه ، بتدبير مواقف تُبدي زملاءه في مظهر الحمقى ، إذ كان الأساتذة يقررون أن الذي زنته عشرة أرطال ، أسرع في السقوط من الذي زنته رطل واحد بعشر مرات ، فأخذ جرمين مختلفي الوزن وقعد على برج بيزا على طريق الأساتذة وعندهم مرورهم أسقطهما فوصلا معاً تقريباً . لقد ظل رأي أرسطو سائداً في سقوط الأجسام مدة ألفي سنة دون أن يتحمل أحد مشقة التثبت من صحته . فكان التفكير في التثبت أمراً جديداً أو تطاولاً وتكذيباً للثقات وعملاً مرذولاً ، فحين كان جاليلو يمتحن قول أرسطو في سقوط الأجسام الأثقل وزناً من نوع واحد بسرعة أكثر وحين قال جاليلو : يسقط مسمار كبير وآخر صغير فيصلان معاً بسرعة واحدة ، كان الأساتذة يسخرون منه لأنه يحاول إظهار خطأ أرسطو ( يا للوقاحة والكبرياء )(1) (http://www.saowt.com/forum/showthread.php?t=28675#_ftn1) .
ومن هذا القبيل ما يذكره ولد يورانت في قصة الحضارة(2) (http://www.saowt.com/forum/showthread.php?t=28675#_ftn2) : ( في سنة 1541م . اشتراك فيساليوس مع آخرين في نشر طبعة جديدة من النص اليوناني لجالينوس ، وقد أدهشته أخطاء ندَّت عن جالينوس وكانت خليقة بأن يدحضها أبسط تشريح لجسم الإنسان ، كقوله مثلاً : « إن الفك السفلي قسمان .. » وهذا يدل على أن جالينوس لم يشرح قط آدميين بل حيوانات ، وشعر أنه قد حان الوقت لمراجعة علم تشريح الإنسان بتشريح الآدميين. وقال دوبوا : « إن جالينوس لم يخطئ ، ولكن جسم الإنسان عراه تغيير من عهد جالينوس .. » ثم قال ول ديورانت بعد ذلك : « لم يكن لشهادة الحواس كبير وزن أمام كلمة جالينوس وابن سينا ، لا بل إن فيساليوس نفسه قال عندما ناقض تشريحه رأي جالينوس : « لم أكد أصدق عيني » ، وكانت طبعات وترجمات جالينوس تثبط القيام بالتجارب الجديدة). والخلاصة ، أن القراءة والكتابة نعمة ، وهي الطريق الأساسية للنمو والتقدم للإنسانية ، ولكنها تؤدي إلى الجمود والركود ، وتقف عائقاً في سبيل التقدم ، حين تستخدم استخداماً سيئاً .

(1) (http://www.saowt.com/forum/showthread.php?t=28675#_ftnref1) أنظر كتاب النظرة العلمية ، راسل ، ص 13 .

(2) (http://www.saowt.com/forum/showthread.php?t=28675#_ftnref2) أنظر كتاب قصة الحضارة ، الجزء السادس من المجلد السادس أو الجزء 27 ص 154 ، 157 .

عبد الله بوراي
04-04-2008, 05:10 PM
احييكم في بادئ الامرعلى انتقاء هذه المواضيع الرائعة التي تمس صميم احتياجات المُتعلم
فالناس محتاجون لتبصيرهم في أمور دينهم ودنياهم
والأخد بيدهم وكسر تلكم القيود التراكُمية التي سببها المُباشر الأساطير التي ما أنزل الله
بها من سلطان.
اعانكم الله وسدد خطاكم وبارك فى اعمالكم

عبد الله

عزام
04-04-2008, 06:20 PM
بارك الله فيكم اخي عبدالله
ليس غريبا على صاحب اليراع المبدع و الريشة الموهوبة
ان يقدر مقالات الادب الرفيع والفكر السامي
عزام

منال
05-22-2008, 07:11 PM
يرفع لاكمال القراءة باذن الله

بارك الله فيكم