تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الغزوات ومعاهدات الصلح في السيرة النبوية الشريفة



عزام
03-28-2008, 07:00 PM
السلام عليكم ايها الاخوة
فكرة جديدة نقترحها عليكم الا وهي دراسة غزوات ومعاهدات الصلح في السيرة النبوية الشريفة لما فيها من افادات ثلاث
1- دراسة القرآن الكريم كون معظم هذه الاحداث ذكرت في القرآن الكريم ونزل فيها الكثير من الآيات التي احتوت الكثير من العبر والدروس.
2- دراسة السيرة النبوية العطرة.
3- محاولة الاستفادة من الدروس التي ذكرت في الكتاب السنة حول هذه المواقف المفصلية المهمة لما لها من كبير فائدة على المستويين الفردي والجماعي .
بارك الله فيكم جميعا. وعسى ان تساعدونا بالاضافة والتصحيح والتدقيق.
فلنبدأ بغزوة بدر على بركة الله..

عزام
03-30-2008, 11:05 AM
بعض الدروس والعبر والفوائد من غزوة بدر
أولاً: حقيقة النصر من الله تعالى:
إن حقيقة النصر في بدر كانت من الله تعالى قال سبحانه فقد بين سبحانه وتعالى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى في قوله: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ) [آل عمران: 126], وقوله تعالى: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )[الأنفال: 10].
في هاتين الآيتين تأكيد على أن النصر لا يكون إلا من عند الله عز وجل, والمعنى: ليس النصر إلا من عند الله دون غيره، و(العزيز) أى: ذو العزة التي لا ترام( ), و(الحكيم) أى: الحكيم فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى( ).
ويستفاد من هاتين الآيتين: تعليم المؤمنين الاعتماد على الله وحده، وتفويض أمورهم إليه مع التأكيد على أن النصر إنما هو من عند الله وحده, وليس من الملائكة أو غيرهم، فالأسباب يجب أن يأخذ بها المسلمون، لكن يجب أن لا يغتروا بها، وأن يكون اعتمادهم على خالق الأسباب حتى يمدهم الله بنصره وتوفيقه، ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين، وأن النصر الذي كان في بدر، وقتلهم المشركين، ورمي النبي صلى الله عليه وسلم المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق الله أولاً وبفضله ومعونته. وبهذه الآية الكريمة يربي القرآن المسلمين ويعلمهم الاعتماد عليه, قال تعالى: ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) [الأنفال: 17]. ولما بيَّن سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده، وضح بعض الحكم من ذلك النصر، قال تعالى: ( لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُوا خَائِبِينَ ` لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ) [آل عمران: 127، 128].
وأمر سبحانه وتعالى المؤمنين أن يتذكروا دائما تلك النعمة العظيمة؛ نعمة النصر في بدر، ولا ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل النصر, قال تعالى: ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [الأنفال: 26].

من هناك
03-30-2008, 11:29 AM
بوركت. انا اتابع معكم

هنا الحقيقه
03-30-2008, 11:59 AM
جزاك الله خيرا
ومتابع معكما ان شاء الله تعالى

واسال الله ان يعطيك الصبر والهمة لاتمام الموضوع فهو موضوع فعلا مهم ولا يحسنه الا من تتبع السيرة حقا وفهمها
واسال الله ان يكون مشروع دعوي يبتدا هنا وربما له ما وراءه

عزام
03-30-2008, 04:35 PM
بارك الله فيكما اخوتي بلال وهنا الحقيقة
وان شاء الله نفيد ونستفيد من هذه الدروس والعبر
يوم الفرقان
سُمي يوم بدر يوم الفرقان, ولهذه التسمية أهمية عظيمة في حياة المسلمين، وقد تحدث الأستاذ سيد قطب عن وصف الله تعالى ليوم بدر بأنه يوم الفرقان في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الأنفال: 41]. فقال: كانت غزوة بدر، التي بدأت وانتهت بتدبير الله وتوجيهه وقيادته ومدده, فرقانًا بين الحق والباطل، كما يقول المفسرون إجمالاً، وفرقانًا بمعنى أشمل وأدق وأوسع وأعمق كثيرًا.
1- كانت فرقانًا بين الحق والباطل فعلاً.. ولكنه الحق الأصيل الذي قامت عليه السماوات والأرض، وقامت عليه فطرة الأحياء والأشياء.. الحق الذي يتمثل في تفرد الله سبحانه بالألوهية والسلطان والتدبير والتقدير، وفي عبودية الكون كله سمائه وأرضه، أشيائه وأحيائه، لهذه الألوهية المتفردة، ولهذا السلطان المتوحد, ولهذا التدبير وهذا التقدير بلا معقب ولا شريك, والباطل الزائف الطارئ الذي كان يعم وجه الأرض إذ ذاك، ويغشي على ذلك الحق الأصيل، ويقيم في الأرض طواغيت تتصرف في حياة عباد الله بما تشاء, وأهواء تصرف أمر الحياة والأحياء، فهذا الفرقان الكبير الذي تم يوم بدر، حيث فرق بين ذلك الحق الكبير، وهذا الباطل الطاغي، وزيَّل بينهما فلم يعودا يلتبسان.
2- لقد كانت فرقانًا بين الحق والباطل بهذا المدلول الشامل الواسع الدقيق العميق، على أبعاد وآماد، كانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في أعماق الضمير؛ فرقانًا بين الوحدانية المجردة المطلقة بكل شعبها في الضمير والشعور, وفي الخلق والسلوك، وفي العبادة والعبودية، وبين الشرك في كل صوره التي تشمل عبودية الضمير لغير الله من الأشخاص، والأهواء والقيم والأوضاع والتقاليد والعادات, وكانت فرقانًا بين هذا الحق وهذا الباطل في الواقع الظاهر, كذلك فرقانًا بين العبودية الواقعية للأشخاص، والأهواء، وللقيم والأوضاع والشرائع والقوانين وللتقاليد والعادات, وبين الرجوع في هذا كله لله الواحد الذي لا إله غيره، ولا متسلط سواه، ولا حاكم دونه، ولا مشرع إلا إياه، فارتفعت الهامات لا تنحني لغير الله، وتساوت الرؤوس فلا تخضع إلا لحاكميته وشرعه، وتحررت القطعان البشرية التي كانت مستعبدة للطغاة.
3- وكانت فرقانًا بين عهدين في تاريخ الحركة الإسلامية: عهد المصابرة والصبر والتجمع والانتظار، وعهد القوة والحركة والمبادأة والاندفاع، والإسلام بوصفه تصويرًا جديدا للحياة, ومنهجًا جديدًا للوجود الإنساني، ونظامًا جديدًا للمجتمع، وشكلاً جديدًا للدولة، بوصفه إعلانًا عامًّا لتحرير الإنسان في الأرض بتقرير ألوهية الله وحده وحاكميته, ومطاردة الطواغيت التي تغتصب ألوهيته( ).
4- وأخيرًا فلقد كانت بدر فرقانًا بين الحق والباطل بمدلول آخر، ذلك المدلول الذي يوحي به قول الله تعالى: ( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُّحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ` لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ). لقد كان الذين خرجوا للمعركة من المسلمين إنما خرجوا يريدون عير أبي سفيان واغتنام القافلة، فأراد الله لهم غير ما أرادوا، أراد لهم أن تفلت منهم قافلة أبي سفيان (غير ذات الشوكة)، وأن يلاقوا نفير أبي جهل (ذات الشوكة), وأن تكون معركة وقتالاً وقتلاً وأسرًا، ولا تكون قافلة وغنيمة ورحلة مريحة، وقد قال الله سبحانه: إنه صنع هذا ( لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ) وكانت هذه إشارة لتقرير حقيقة كبيرة، إن الحق لا يحق وإن الباطل لا يبطل -في المجتمع الإنساني- بمجرد البيان النظري للحق والباطل، ولا بمجرد الاعتقاد النظري بأن هذا حقٌّ وهذا باطلٌ، إن الحق لا يحق, وإن الباطل لا يبطل, ولا يذهب من دنيا الناس، إلا بأن يتحطم سلطان الباطل ويعلو سلطان الحق، وذلك لا يتم إلا بأن يغلب جند الحق ويظهروا ويهزم جند الباطل ويندحروا، فهذا الدين منهج حركي واقعي، لا مجرد نظرية للمعرفة والجدل، أي لمجرد الاعتقاد السلبي.

عزام
04-01-2008, 04:23 PM
الخلاف في الأنفال عقب معركة بدر
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدرًا, فالتقى الناس فهَزَم الله تبارك وتعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون, فأكبت طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه, وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة, حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض, قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا, نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: وخفنا أن يصيب العدو منه غرة واشتغلنا به فنزلت: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) [الأنفال: 1]. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على فواق بين المسلمين. وفي رواية: قال عبادة بن الصامت عن الأنفال حين سُئل عن الأنفال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا, فنزعه الله تبارك وتعالى من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله فينا عن بَوَاء, يقول: على السواء.
لقد خلد الله سبحانه وتعالى ذكرى غزوة بدر في سورة الأنفال، وجاءت مفصلة عن أحداثها وأسبابها ونتائجها, وتعرضت الآيات الكريمة لعلاج النفس البشرية وتربيتها على معاني الإيمان العميق والتكوين الدقيق، فبدأت السورة بتبيان حكم أثر من آثار القتال وهو الغنائم، فبينت أن هذه الغنائم لله وللرسول، فالله هو مالك كل شيء، ورسوله هو خليفته، ثم أمر الله المؤمنين ثلاثة أوامر:
· التقوى
· إصلاح ذات البين
· والطاعة لله والرسول صلى الله عليه وسلم
وهي أوامر مهمة جدًّا في موضوع الجهاد، فالجهاد إذا لم ينشأ عن تقوى فليس جهادًا، والجهاد يحتاج إلى وحدة صف، ومن ثم فلا بد من إصلاح ذات البين، والانضباط هو الأساس في الجهاد، إذ لا جهاد بلا انضباط، ثم بين الله عز وجل أن الطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم علامة الإيمان.
ثم حدد الله عز وجل صفات المؤمنين الحقيقيين، وهذا الوصف والتحديد مهمان في موضوع الجهاد الإسلامي؛ لأن الإيمان الحقيقي هو الذي يقوم به الجهاد الإسلامي، لقد حدد الله عز وجل صفات المؤمنين:
· بأنهم إذا ذكر الله فزعت قلوبهم وخافت وفرقت.
· وإذا قرئ عليهم القرآن ازداد إيمانهم ونما.
· التوكل على الله، فلا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الخلق وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب.
· إقامة الصلاة والمحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، ومن ذلك إسباغ الطهور فيها، وتمام ركوعها وسجودها، وتلاوة القرآن فيها، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
· الإنفاق مما رزقهم الله، وذلك يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحق، والخلق كلهم عباد الله, فأحبهم إليه أنفعهم لخلقه، ثم بين الله -عز وجل- أن المتصفين بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان، وأن لهم عند الله منازل ومقامات ودرجات في الجنات، وأن الله يغفر لهم السيئات، ويشكر الحسنات.
وبهذا تنتهي مقدمة السورة بعد أن رفعت الهمم لكل لوازم الجهاد، ونفت كل عوامل الخذلان، من اختلاف على غنائم، أو خلاف بسبب شيء, داعية إلى الطاعة، والارتفاع إلى منازل الإيمان الكامل. قال تعالى: ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ` إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ` الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ` أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [الأنفال: 1-4].
يقول الأستاذ محمد الأمين المصري: لم تذكر الآيات شيئًا من أعمال المؤمنين في بدر، ولكن ذكرت عتابًا أليمًا موجعًا يحمل المؤمنين على الرجوع إلى أنفسهم والاستحياء من ربهم، وهناك نقاط أرسلت الآيات النقاط عليها وبينت نواحي الضعف فيها بيانًا جليًا قويًّا، بتصوير ما في النفوس وصفًا دقيقًا رائعًا تشاهد العين فيه الحركات والخلجات، وكل ذلك من شأنه أن ينبه ضمير المؤمن ليلمس المسافة بينه وبين درجات الإيمان التي يهفو قلبه للوصول إليها. ولقد كانت الآيات من تربية الحكيم العليم, ويشعر الذوق السليم هاهنا روعة الأسلوب في عرض العتاب بغير عتاب، ولكنه تصوير ما في النفوس تصويرًا يوقن معه العادي من الناس، أنه ما كان لمؤمن صحيح الإيمان أن يتصف بها؛ ولذلك اقترنت الآيات بتقديم خصائص الإيمان العالية وميزاته الرفيعة التي تصور الفجوة البعيدة بين المؤمن وبين أي إسفاف: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ` الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ` أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) [الأنفال: 2-4]. ما ذكرت الآيات عتابًا، ولكنها ذكرت واقعًا وكان ذكر الواقع أبلغ من كل عتاب.
لقد استجاب الصحابة الكرام لهذا التوجيه الرباني ونزلت الآيات تبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يتصرف في الأنفال.بعد أن أصحبت الغنائم لله ورسوله بيَّن المولى عز وجل كيف توزع هذه الغنائم, قال تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [الأنفال: 41]. وهذا بعد ما طهرت قلوبهم من الأخلاط، وأخلصت إلى علام الغيوب في الطاعة، وتمثلت الآيات، فتحققت بمعنى العبودية الخالصة لله, وهذا الحكم صريح في أن أربعة أخماس ما غنموه مقسوم بينهم، والخمس لله ورسوله، وهذا الخمس نفسه مردود فيهم أيضا، وموزع على الجهات المذكورة كما ثبت بالسنة.
إن التوجيه التربوي، في إرجاء إنزال جواب السؤال عن الغنائم، يشير إلى أن الأحكام الشرعية ينبغي أن يهيأ لها الجو النفسي الروحي المناسب، لتحتل مكانها اللائق في العقل والضمير، فتثبت وتتمكن، وتؤتي أطيب النتائج، إذ يتجلى فيها أكمل الحلول، وهكذا صرف المولى -جل شأنه- عبادة المسلمين عن التعلق بالغير، أولا، وبالغنائم ثانيا، ليكونوا له من المخلصين الجديرين بنصره، وإتمام نعمته، فلما تفرغوا للخالق وأخلصوا في الجهاد، أكرمهم بالنصر من لدنه، وأسبغ عليهم من فضله بأكثر مما كانوا يودون, فعن عبد الله بن عمرو قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً من أصحابه فلما انتهى إليها قال: "اللهم إنهم جياع فأشبعهم، اللهم إنهم حفاة فاحملهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم" ففتح الله له يوم بدر، فانقلبوا حين انقلبوا وما منهم رجل إلا وقد رجع بحمل أو حملين، واكتسوا وشبعوا).

عبد الله بوراي
04-01-2008, 07:59 PM
بارك الله فيكَ
ما أروعها من صفحات
جزاك الله خيراً على هذه المحطات الجهاديه
ونتطلع الى المزيد من هذه الدرر
أخوكم
عبد الله

عزام
04-03-2008, 07:05 PM
بارك الله بك اخي عبدالله
هذا درس جديد حاولت تيسيره قدر استطاعتي
عزام

دروس من أسرى بدر


الشدة ضرورة في بداية تأسيس الدولة
قال ابن عباس رضي الله عنه: (... فلما أسروا الأسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: "ما ترون في هؤلاء الأسارى؟" فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة: أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ترى يا ابن الخطاب؟" قال: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي يراه أبو بكر، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان (نسيبًا لعمر) فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدهم، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهْوَ ما قلتُ, فلما كان من الغد جئت فإذا رسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يا رسول الله: أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبكي للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، ولقد عُرِض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة" -شجرة قريبة من نبي الله صلى الله عليه وسلم- وأنزل الله عز وجل: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) إلى قوله: ( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا ) [الأنفال: 67-69] فأحل الله لهم الغنيمة.
وفي رواية: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟" فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك، استبقهم واستأْنِ بهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: يا رسول الله أخرجوك وكذبوك, قرِّبهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر واديًا كثير الحطب، فأدخلهم فيه ثم اضرم عليهم نارًا، فقال العباس: قطعت رحمك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئًا، فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذبقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر، كمثل إبراهيم عليه السلام قال: ( فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: ( إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) [المائدة: 118], وإن مثلك يا عمر كمثل نوح إذ قال: ( رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) [نوح: 26]. وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: ( رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ ) [يونس: 88]. ثم قال صلى الله عليه وسلم: "أنتم عالة، فلا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق". قال عبد الله بن مسعود: فقلت: يا رسول الله، إلا سهيل بن بيضاء فإنه يذكر الإسلام قال: فسكت، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع علي حجارة من السماء في ذلك اليوم، حتى قال: إلا سهيل بن بيضاء فأنزل الله ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ) إلى آخر الآية.
وهذه الآية تضع قاعدة هامة في بناء الدولة حينما تكون في مرحلة التكوين والإعداد، وكيف ينبغي ألا تظهر بمظهر اللين، حتى تُرْهَب من قبل أعدائها، وفي سبيل هذه الكلية يطرح الاهتمام بالجزئيات حتى ولو كانت الحاجة ملحة إليها.
وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه لما شرع الصحابة في أسر المشركين كره ذلك ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهية في وجه سعد لما يصنع الناس, فقال له رسول الله: "والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم" قال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان بالقتل أحب إلىَّ من استبقاء الرجل.
أساليب النبي صلى الله عليه وسلم للأسرى وطرق تعامله معهم.
كانت معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأسرى تحفها الرحمة، والعدل، والحزم، والأهداف الدعوية؛ ولذلك تعددت أساليبه، وتنوعت طرق تعامله عليه الصلاة والسلام، فهناك من قتله، وبعضهم قبل فيهم الفداء، والبعض الآخر منَّ عليهم, وآخرون اشترط عليهم تعليم عشرة من أبناء المسلمين مقابل المن عليهم.
1- الوفاء والاعتراف بالجميل
حفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم لجوار المطعم بن عدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر: "لو كان مُطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له".
وهذا الحديث تعبير عن الوفاء والاعتراف بالجميل، فقد كان للمطعم مواقف تذكر بخير، فهو الذي دخل الرسول صلى الله عليه وسلم في جواره حينما عاد من الطائف، كما كان من أشد القائمين على نقض الصحيفة يوم حُصِرَ المسلمون وبنو هاشم. وهذا يدل على قمة الوفاء لمواقف الرجال، ولو كانوا مشركين.
2- الحزم مع مجرمي الحرب ورؤوس الفتنة
مقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث: وإذا كان هذا الوفاء لرجل مثل المطعم بن عدي، فلا بد من الحزم مع مجرمي الحرب ورؤوس الفتنة من أمثال عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث، فقد كان من أكبر دعاة الحرب ضد الإسلام، والمتربصين بالمسلمين الدوائر، فبقاؤهما يعد مصدر خطر كبير على الإسلام، ولا سيما في تلك الظروف الحاسمة التي تمر بها الدعوة الإسلامية، فلو أطلق سراحهما لما تورعا على سلوك أي طريق فيه كيد للإسلام وأهله، فقتْلهما في هذا الظرف ضرورة تقتضيها المصلحة العامة لدعوة الإسلام الفتية؛ ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهما عندما وصل إلى الصفراء, أثناء رجوعه للمدينة، فلما سمع عقبة بن معيط بأمر قتله قال: يا ويلي، علام أُقتل يا معشر قريش من بين من هاهنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعداوتك لله ولرسوله" قال: يا محمد مَنُّك أفضل، فاجعلني كرجل من قومي، إن قتلتهم قتلتني، وإن مننت عليهم مننت علي، وإن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم، يا محمد مَنْ للصبية؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "النار، قدمه يا عاصم فاضرب عنقه" فقدمه عاصم فضرب عنقه. وأما النضر بن الحارث، فقد كان من شياطين قريش، وممن يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس، وأحاديث رستم وإسفنديار، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسًا فذكَّر فيه بالله، وحذر قومه ما أصاب قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام, ثم قال: أنا والله يا معشر قريش أحسن حديثًا منه، فهلم إليَّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم وإسفنديار، ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثًا مني؟.
إن هذا الرجل المتعالي على الله والمتألي عليه، والذي يزعم أنه سينزل أحسن ما أنزل الله، والذي يزعم أنه أحسن حديثًا من محمد لا بد لمثل من يمثل هذا التيار وقد أصبح بين يدي رسول رب العالمين، لا بد أن يُثأر لله ولرسوله منه، ومن أجل هذا لم يدخله رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن نطاق الاستشارة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله، فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وبمقتل هذين المجرمين تعلم المسلمون أن بعض الطغاة العتاة المعادين لا مجال للتساهل معهم، فهم زعماء الشر وقادة الضلال، فلا هوادة معهم؛ لأنهم تجاوزوا حد العفو والصفح بأعمالهم الشنيعة، فقد كان هذان الرجلان من شر عباد الله وأكثرهم كفرًا وعنادًا وبغيًا وحسدًا وهجاء للإسلام وأهله.



3- الوصية بإكرام الأسرى جانب من المنهج النبوي الكريم:
ولما رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فرَّق الأسرى بين أصحابه، وقال لهم: "استوصوا بهم خيرًا" وبهذه التوصية النبوية الكريمة ظهر تحقيق قول الله تعالى: ( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ) [الإنسان: 8]. فهذا أبو عزيز بن عمير أخو مصعب بن عمير يحدثنا عما رأى قال: كنت في الأسرى يوم بدر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استوصوا بالأسارى خيرًا"، وكنت في نفر من الأنصار, فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم أكلوا التمر، وأطعموني البُرَّ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا أبو العاص بن الربيع يحدثنا قال: كنت في رهط من الأنصار جزاهم الله خيرًا، كنا إذا تعشينا أو تغدينا آثروني بالخبز وأكلوا التمر, والخبز معهم قليل، والتمر زادهم, حتى إن الرجل لتقع في يده كسرة فيدفعها إليَّ، وكان الوليد بن الوليد بن المغيرة يقول مثل ذلك ويزيد، وكانوا يحملوننا ويمشون. كان هذا الخلق الرحيم الذي وضع أساسه القرآن الكريم في ثنائه على المؤمنين، وذكر به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فاتخذوه خلقًا، وكان لهم طبيعة, قد أثر في إسراع مجموعة من أشراف الأسرى وأفاضلهم إلى الإسلام، فأسلم أبو عزيز عقيب بدر, بُعيد وصول الأسرى إلى المدينة, وتنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأسلم معه السائب بن عبيد بعد أن فدى نفسه، فقد سرت دعوة الإسلام إلى قلوبهم، وطهرت نفوسهم، وعاد الأسرى إلى بلادهم وأهليهم يتحدثون عن محمد صلى الله عليه وسلم ومكارم أخلاقه، وعن محبته وسماحته، وعن دعوته وما فيها من البر والتقوى والإصلاح والخير. إن هذه المعاملة الكريمة للأسرى شاهد على سمو الإسلام في المجال الأخلاقي، حيث نال أعداء الإسلام في معاملة الصحابة أعلى درجات مكارم الأخلاق، التي تتمثل في خلق الإيثار.
4- عدم محاباة ذوي القربى
فداء العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا، وقال العباس: يا رسول الله قد كنت مسلمًا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك، وأما ظاهرك قد كان علينا, فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر" قال: ما ذاك عندي يا رسول الله, قال: "فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها: إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم" قال: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا الشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل, فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك" ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه, فأنزل الله عز وجل فيه: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَنْ فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُّؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ` وَإِن يُّرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال: 70، 71]. قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين أوقية في الإسلام عشرين عبدًا كلهم في يده مال يضرب به مع ما أرجو من مغفرة الله عز وجل. هذا والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذه الآية الكريمة، وإن كانت نزلت في العباس، إلا أنها عامة في جميع الأسرى.
استأذن بعض الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا العباس فداءه، قال: "والله لا تذرون منه درهمًا"أي لا تتركوا للعباس من الفداء شيئًا، ويظهر أدب الأنصار مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قولهم لرسول الله: ابن أختنا, لتكون المنة عليهم في إطلاقه بخلاف لو قالوا: (عمك) لكانت المنة عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا من قوة الذكاء وحسن الأدب في الخطاب، وإنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن إجابتهم لئلا يكون في الدين نوع محاباة.وهنا يتعلم الأسرى والمسلمون أيضا درسًا بليغًا في عدم محاباة ذوي القربى، بل كان الأمر على خلاف ذلك، فقد أغلا رسول الله الفداء على عمه العباس. ورجع العباس لمكة، وقد دفع فداءه وابْنَيْ أخويه، وأخفى إسلامه، وأصبح يقود جهاز استخبارات الدولة الإسلامية بمكة بمهارة فائقة، وقدرة نادرة حتى انتهى دوره في فتح مكة، فأعلن إسلامه قبلها بساعات.
5- تألُّف العقول للإسلام
أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم: قالت عائشة رضي الله عنها: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت لخديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقَّ لها رقة شديدة، وقال: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها فافعلوا"، فقالوا: (نعم يا رسول الله, فأطلقوه وردوا عليها الذي لها).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ عليه، أو وعده أن يخلي سبيل زينب إليه، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار فقال: "كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتيا بها".
إن أبا العاص بن الربيع زوج زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُعرف عنه قط موقف في مقاومة الدعوة بأي لون من ألوانها، وقد كفَّ يده ولسانه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشغله ماله وتجارته وحياؤه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواقف الشراسة القرشية في مقاومة الدعوة إلى الله، وفي بدر كان أبو العاص صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين الأسرى الذين لم يسمع لهم في المعركة صوت، ولم يعرف لهم رأي، ولا شوهدت لهم في قتال جولة، وبعد أن بدأت قريش تفدي أسراها، أرسلت السيدة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجة أبي العاص بمال تفديه به، ومع المال قلادة كانت أمها السيدة خديجة رضي الله عنها أهدتها إليها فأدخلتها بها على زوجها للتحلي بها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلادة ابنته رقَّ لها رقة شديدة، إذ كانت هذه القلادة الكريمة مبعث ذكريات أبوية عنده صلى الله عليه وسلم، وذكريات زوجية، وذكريات أسرية، وذكريات عاطفية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أب، له من عواطف الأبوة أرفع منازلها في سجل المكارم الإنسانية وأشرفها في فضائل الحياة, فتواثبت إلى خبايا نفسه الكريمة المكرمة أسمى مشاعر الرحمة، وتزاحمت على فؤاده الأطهر عواطف الحنان والحنين، فتوجه إلى أصحابه رضي الله عنه متلطفًا يطلب إليهم في رجاء الأعز الأكرم, رجاء يدفعهم إلى العطاء ولا يسلهم حقهم في الفداء لو أنهم أرادوا الاحتفاظ بهذا الحق وهو في أيديهم يملكون التصرف فيه، فقال لهم: "إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا".وهذا أسلوب من أبلغ وألطف ما يسري في حنايا النفوس الكريمة، فيطوعها إلى الاستجابة الراغبة الراضية رضاء ينم عن الغبطة والبهجة.
إن هذا الموقف وما يظهر منه من مظاهر الرحمة والعطف منه صلى الله عليه وسلم على ابنته، يحمل في طياته مقصدًا آخر وهو أنه كان يتألف صهره للإسلام بذلك، لما عرف عنه من العقل السديد، والرأي الرشيد، فقد كان صلى الله عليه وسلم يثني عليه وهو على شركه بحسن المعاملة.
6- الحزم مع من لا عهد له
أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي بين الرحمة والحزم النبوي: كان محتاجًا ذا بنات قال: يا رسول الله، لقد عرفت ما لي من مال، وإني لذو حاجة، وذو عيال فامنن عليَّ، فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عليه ألا يظاهر عليه أحدًا . قال ابن كثير: ثم إن أبا عزة هذا نقض ما كان عاهد الرسول عليه، ولعب المشركون بعقله فرجع إليهم، فلما كان يوم أحد أُسر أيضا، فسأل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يمن عليه أيضا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا أدعك تمسح عارضيك، وتقول: خدعت محمدا مرتين"، ثم أمر به فضربت عنقه. فكان النبي صلى الله عليه وسلم به رحيمًا وعفا عنه، وأطلق سراحه بدون فداء لما ذكر أبو عزة فقره وما لديه من بنات يعولهن، ولكنه لم يف لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما عاهده من لزوم السلم وعدم إثارة الحرب ضده، فوقع أسيرًا في معركة أحد، فكان موقف النبي صلى الله عليه وسلم منه الحزم فأمر بضرب عنقه.
7-حرمة التمثيل والتشفي
سهيل بن عمرو ووقوعه في الأسر وماذا قالت سودة رضي الله عنها: قال عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة رضي الله عنه: (قُدم بالأسارى حين قدم بهم المدينة، وسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، قالت سودة: فوالله إني لعندهم إذ أتينا فقيل: هؤلاء الأسارى قد أتى بهم، فرجعت إلى بيتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، فإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة ويداه مجموعتان إلى عنقه بحبل، فوالله ما ملكت حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كرامًا.. فما انتبهت إلا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت: "يا سودة أعلى الله ورسوله تحرضين؟" فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بالحبل أن قلت ما قلت).
وفد مكرز بن حفص بن الأخيَفْ في فداء سهيل بن عمرو، فلما فاوض المسلمين وانتهى إلى رضائهم قالوا: هات الذي لنا, قال لهم مكرز بن حفص: اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه, فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزًا عندهم، وجاء في حديث مرسل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أنزع ثنية سهيل بن عمر، يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبًا في موطن آخر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيًّا" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنه عسى أن يقوم مقامًا لا تذمه". قال ابن كثير: وهذا هو المقام الذي قامه سهيل بمكة حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدَّ العرب، ونجم النفاق بالمدينة وغيرها، فقام بمكة فخطب في الناس وثبتهم على الدين الحنيف, فقد قال في ذلك: يا معشر قريش، لا تكونوا آخر الناس إسلامًا وأولهم ردة، من رابنا ضربنا عنقه.
فقد أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزع ثنية سهيل، ورأى أن ذلك من باب التمثيل وتشويه خلقة الإنسان، وقال لعمر: "لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبيًا" وهذا نموذج من منهج رسالته صلى الله عليه وسلم وضعه ليكون نبراسًا لأمته في انتصاراتها على أعدائها.
8- التعليم مقابل الفداء:
قال ابن عباس: كان ناس من الأسارى يوم بدر ليس لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة؛ وبذلك شرع الأسرى يعلمون غلمان المدينة القراءة والكتابة، وكل من يعلم عشرة من الغلمان يفدي نفسه. وقبول النبي صلى الله عليه وسلم تعليم القراءة والكتابة بدل الفداء في ذلك الوقت الذي كانوا فيه بأشد الحاجة إلى المال يرينا سمو الإسلام في نظرته إلى العلم والمعرفة، وإزالة الأمية، وليس هذا بعجيب من دين كان أول ما نزل من كتابه الكريم: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ` خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ` اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ ` الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) [العلق: 1-4]. واستفاضت فيه نصوص القرآن والسنة في الترغيب في العلم وبيان منزلة العلماء، وبهذا العمل الجليل يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أول من وضع حجر الأساس في إزالة الأمية وإشاعة القراءة والكتابة، وأن السبق في هذا للإسلام.
9- حكم الأسرى:
إن حكم الأسرى في الإسلام مفوض إلى رأي الإمام ليختار حكمًا من أربعة, وعلى الإمام أن يراعي مصلحة المسلمين العامة, والأحكام الأربعة هي:
1- القتل: وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث.
2- المن: وهو إطلاق الأسير بدون مقابل، وهذا ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي عزة الجمحي.
3- الفداء: إطلاق سراح الأسير مقابل مبلغ من المال، وهذا ما حدث مع العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم, ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب وغيرهم.

4- الاسترقاق: وقد حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه في يهود بني قريظة أن يقتل المحاربون وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء

عبد الله بوراي
04-03-2008, 08:30 PM
بارك الله فيك أخي عزام المعطاء في إخلاصك وتضحيتك وصبرك على المشقة
لا حُرمت الأجر ولا لاحرمنا الله من وجودك بيننا

تلميذكم

عبدالله

عزام
04-03-2008, 08:34 PM
بارك الله فيك اخي عبدالله على تواضعك الجم
بأن تجعل مني وانا العبد الفقير استاذا لكم
بل نحن نقتبس نزرا يسيرا من علمكم ان شاء الله

عزام
04-08-2008, 07:50 AM
اقشعر بدني وجلا وخشوعا حين قراءة النقطيتن 2 و 3

عزام



بعض الدروس والعبر والفوائد من احد

لقد وصف القرآن الكريم غزوة أحد وصفًا دقيقًا، وكان التصوير القرآني للغزوة أقوى حيوية ووضوحًا من الروايات التي جاءت في الغزوة، كما أن أسلوب الآيات المطمئنة المبشرة واللائمة، والمسكنة والواعظة كان رائعًا وقويًا، فبين القرآن الكريم نفوس جيش النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا تميز لحديث القرآن عن الغزوة، ينفرد به عما جاء في كتب السيرة, فسلط القرآن الكريم الأضواء على خفايا القلوب، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم، والناظر عموما في منهج القرآن في التعقيب على غزوة أحد، يجد الدقة والعمق والشمول.
يقول سيد قطب: الدقة في تناول كل موقف، وكل حركة، وكل خالجة، والعمق في التدسس إلى أغوار النفس ومشاعرها الدفينة، والشمول لجوانب النفس وجوانب الحادث. كما نجد الحيوية في التصوير والإيقاع والإيحاء، بحيث تتماوج المشاعر مع التعبير والتصوير تماوجًا عميقًا عنيفًا، ولا تملك أن تقف جامدة أمام الوصف، والتعقيب فهو وصف حي، يستحضر المشاهد، كما لو كانت تتحرك، ويشيع حولها النشاط المؤثر والإشعاع النافذ، والإيحاء المثير.
إن حركة النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة وإقامة الدولة والتمكين لدين الله، تعتبر انعكاسًا في دنيا الحياة لمفاهيم القرآن الكريم التي سيطرت على مشاعره، وأفكاره وأحاسيسه صلى الله عليه وسلم، ولذلك نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم في علاجه لأثر الهزيمة في أحد تابع للمنهج القرآني الكريم، ونحاول تسليط الأضواء على بعض النقاط المهمة في هذا المنهج.
أولا: تذكير المؤمنين بالسنن ودعوتهم للعلو الإيماني:
قال تعالى: ( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ` هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ` وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 137-139].
إن المتأمل في هذه الآيات الكريمة يجد أن الله سبحانه وتعالى لم يترك المسلمين لوساوس الشيطان في محنة غزوة بدر، بل خاطبهم بهذه الآيات التي بعث بها الأمل في قلوبهم، وأرشدهم إلى ما يقويهم ويثبتهم، ويمسح بتوجيهاته دموعهم ويخفف عنهم آلامهم. قال القرطبي: هو تسلية من الله تعالى للمؤمنين.
ففي الآيات السابقة دعوة للتأمل في مصير الأمم السابقة التي كذبت بدعوة الله تعالى، وكيف جرت فيهم سنته على حسب عادته, وهي الإهلاك والدمار بسبب كفرهم وظلمهم وفسوقهم على أمره. وجاء التعبير بلفظ كيف الدال على الاستفهام، المقصود به تصوير حالة هؤلاء المكذبين التي تدعو إلى التعجب، وتثير الاستغراب، وتغرس الاعتبار والاتعاظ في قلوب المؤمنين؛ لأن هؤلاء المكذبين مكن الله لهم في الأرض ومنحهم الكثير من نعمه، ولكنهم لم يشكروه عليها، فأهلكهم بسبب طغيانهم.
وفي قوله تعالى: ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ) دعاهم إلى ترك الضعف، ومحاربة الجبن، والتخلص من الوهن، وعدم الحزن؛ لأنهم هم الأعلون بسبب إيمانهم.
ثانيًا: تسلية المؤمنين وبيان حكمة الله فيما وقع يوم أحد:
قال تعالى: ( إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ` وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ` أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ` وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) [آل عمران: 140-143].
بيَّن الله -سبحانه- لهم أن الجروح والقتلى يجب ألا تؤثر في جسدهم واجتهادهم في جهاد العدو؛ وذلك لأنه كما أصابهم ذلك فقد أصاب عدوهم مثله من قبل ذلك، فإذا كانوا مع باطلهم وسوء عاقبتهم لم يفتروا لأجل ذلك في الحرب، فبأن لا يلحقكم الفتور مع حسن العاقبة والتمسك بالحق أولى.
وقال صاحب الكشاف: والمعنى: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبله يوم بدر، ثم لم يضعف ذلك قلوبهم، ولم يثبطهم عن معاودتكم بالقتال, فأنتم أولى أن لا تضعفوا. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنه كان يوم أحد بيوم بدر، قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين فجعل الدولة عليهم. وقد ذكر الله تعالى أربع حكم لما حدث للمؤمنين في غزوة أحد وهي:

تحقق علم الله تعالى وإظهاره للمؤمنين،
إكرام بعضهم بالشهادة التي توصل صاحبها إلى أعلى الدرجات
تطهير المؤمنين وتخليصهم من ذنوبهم ومن المنافقين
ومحق الكافرين واستئصالهم رويدًا رويدًا.ثالثًا: كيفية معالجة الأخطاء:
ترفق القرآن الكريم وهو يعقب على ما أصاب المسلمين في أحد على عكس ما نزل في بدر من آيات، فكان أسلوب القرآن الكريم في محاسبة المنتصر على أخطائه أشد من حساب المنكسر, فقال في غزوة بدر: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ` لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [الأنفال: 67، 68].
وقال في أحد: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 152] وفي هذا حكمة عملية وتربية قرآنية يحسن أن يلتزمها أهل التربية والقائمون على التوجيه.
رابعًا: ضرب المثل بالمجاهدين السابقين:
قال تعالى: ( وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ` فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [آل عمران: 146-148].
قال ابن كثير: عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمدًا قد قتل, فعذَلهم الله على فرارهم وتركهم القتال. وضرب الله لهم مثلا بإخوانهم المجاهدين السابقين، وهم جماعة كثيرة، ساروا وراء أنبيائهم في درب الجهاد في سبيل الله، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا عن الجهاد بعد الذي أصابهم منه، وما استكانوا للعدو، بل ظلوا صابرين ثابتين في جهادهم، وفي هذا تعريض بالمسلمين الذين أصابهم الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم، وضرب الله مثلا للمؤمنين لتثبيتهم بأولئك الربانيين وبما قالوه: ( وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) [آل عمران: 147] وهذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى نفوسهم -مع كونهم ربانيين- هضم لها واعتراف منهم بالتقصير ودعاؤهم بالاستغفار من ذنوبهم مقدم على طلبهم تثبيت أقدامهم أمام العدو، ليكون طلبهم إلى ربهم النصر عن زكاة وطهارة وخضوع، وفي هذا تعليم للمسلمين إلى أهمية التضرع، والاستغفار وتحقيق التوبة. وتظهر أهمية ذلك في إنزال النصر على الأعداء ( فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآَخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) أي وبذلك نالوا ثواب الدارين: النصر والغنيمة في الدنيا، والثواب الحسن في الآخرة، جزاء إحسانهم في أدب الدعاء والتوجه إلى الله, وإحسانهم في موقف الجهاد, وكانوا بذلك مثلا يضربه الله للمسلمين المجاهدين، وخص الله تعالى ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه على ثواب الدنيا وأنه هو المعتمد عنده.
خامسًا: مخالفة ولي الأمر تسبب الفشل لجنوده:
ويظهر ذلك في مخالفة الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعهم في الخطأ الفظيع الذي قلب الموازين، وأدى إلى الخسائر الفادحة التي لحقت بالمسلمين. ولكي نعرف أهمية الطاعة لولي الأمر، نلحظ أن انخذال عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين لم يؤثر على المسلمين، بينما الخطأ الذي ارتكبه الرماة الذين أحسن الرسول صلى الله عليه وسلم تربيتهم، وأسند لكل واحد منهم عملا، ثم خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم كان ضرره على المسلمين عامة، حيث سلط الله عليهم عدوهم، وذلك بسبب عصيان الأوامر، ثم اختلطت أمورهم وتفرقت كلمتهم، وكاد يُقضى على الدعوة الإسلامية وهي في مهدها.
ونلحظ من خلال أحداث غزوة أحد: أن المسلمين انتصروا في أول الأمر حينما امتثلوا لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقادوا لتعليمات قائدهم وأميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه, بينما انهزموا حينما خالفوا أمره صلى الله عليه وسلم ونزل الرماة من الجبل لجمع الغنائم مع بقية الصحابة رضي الله عنهم، قال تعالى: ( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) [آل عمران: 153].
يقول الشيخ محمد بن عثيمين: (ومن آثار عدم الطاعة ما حصل من معصية بعض الصحابة رضي الله عنهم، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وهم يجاهدون في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، والذي حصل أنه لما كانت الغلبة للمؤمنين، ورأى بعض الرماة أن المشركين انهزموا تركوا الموضع الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يبرحوه، وذهبوا مع الناس، وبهذا كر العدو عليهم من الخلف، وحصل ما حصل من الابتلاء والتمحيص للمؤمنين، وقد أشار الله تعالى إلى هذه العلة بقوله تعالى: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 152] هذه المعصية التي فات بها نصر انعقدت أسبابه، وبدأت أوائله، هي معصية واحدة والرسول عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، فكيف بالمعاصي الكثيرة؟ ولهذا نقول: إن المعاصي من آثارها أن الله يسلط بعض الظالمين على بعض بما كانوا يكسبون، ويفوتهم من أسباب النصر والعزة بقدر ما ظلموا فيه أنفسهم.
سادسًا: خطورة إيثار الدنيا على الآخرة:
وردت نصوص عديدة من آيات وأحاديث تبين منزلة الدنيا عند الله وتصف زخارفها وأثرها على فتنة الإنسان، وتحذر من الحرص عليها, قال تعالى: ( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) [آل عمران: 14].وقد حذر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمته من الاغترار بالدنيا، والحرص الشديد عليها في أكثر من موضع، وذلك لما لهذا الحرص من أثره السيئ على الأمة عامة وعلى من يحملون لواء الدعوة خاصة ومن ذلك:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" ويظهر للباحث أثر الحرص على الدنيا في غزوة أحد.
قال ابن عباس رضي الله عنه: لما هزم الله المشركين يوم أحد، قال الرماة: (أدركوا الناس ونبي الله، لا يسبقوكم إلى الغنائم، فتكون لهم دونكم) وقال بعضهم: (لا نريم حتى يأذن لنا النبي صلى الله عليه وسلم) فنزلت: ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ) [آل عمران: 152].
قال الطبري: قوله سبحانه: ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا ) يعني الغنيمة, قال ابن مسعود: ما كنت أرى أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا يوم أحد ( مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ).
إن الذي حدث في أحد عبرة عظيمة للدعاة وتعليمًا لهم بأن حب الدنيا قد يتسلل إلى قلوب أهل الإيمان ويخفى عليهم، فيؤثرون الدنيا ومتاعها على الآخرة ومتطلبات الفوز بنعيمها، ويعصون أوامر الشرع الصريحة كما عصى الرماة أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم الصريحة بتأويل ساقط، يرفعه هوى النفس وحب الدنيا، فيخالفون الشرع وينسون المحكم من أوامره، كل هذا يحدث ويقع من المؤمن وهو غافل عن دوافعه الخفية، وعلى رأسها حب الدنيا، وإيثارها على الآخرة ومتطلبات الإيمان، وهذا يستدعي من الدعاة التفتيش الدائم الدقيق في خبايا نفوسهم واقتلاع حب الدنيا منها، حتى لا تحول بينهم وبين أوامر الشرع، ولا توقعهم في مخالفته بتأويلات ملفوفة بهوى النفس وتلفتها إلى الدنيا ومتاعها.

عبد الله بوراي
04-08-2008, 08:24 AM
http://img515.imageshack.us/img515/8290/70223753vn3.gif (http://imageshack.us)

" القرآن الكريم واتِّساع دلالته لتشمل كل ما يجدُّ من أمورٍ وقضايا "
هذا هو حديث الثلاثاء الذى ننتظره
ونقف على تفجيرات أستاذى عزام لينابيع البيان , راجين المولى أن تكون وقفات بها
الذنوبٌ تُغفر والرحماتٌ تنزّل والدعواتٌ تحقّق

بارك الله فيك أخي
عبد الله

عزام
04-08-2008, 10:04 AM
بارك الله فيك اخي عبدالله
على هذه الصورة الرائعة والكلام الطيب
ان رب العالمين علم الصحابة بالاحداث فكان علمهم علما عمليا يتلقون فيه الدروس بطريقة تطبيقية ولم يكن نظريا يتلقونه من الكتب امثالنا
فيا حظ من قدر له ان يتعلم ويتربى على يدي القرآن الكريم وقيمه

عبد الله بوراي
04-08-2008, 10:18 AM
رب همة أحيت أمة بإذن الله
وهذا آوان الإنتصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإحياء سننه
وإبراز هدي نبينا محمد صلى الله عليه و سلم في عبادته و معاملاته و أخلاقه.

عبد الله

عزام
04-08-2008, 04:10 PM
تتمة دروس غزوة احد
عزام
سابعًا: التعلق والارتباط بالدين:
قال ابن كثير: لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد، وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان، ألا إن محمدًا قد قتل، ورجع ابن قميئة إلى المشركين فقال لهم: قتلت محمدًا، وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قُتل، وجوزوا عليه ذلك، كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام، فحصل ضعف ووهن وتأخر، عن القتال، ففي ذلك أنزل الله: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران: 144] أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه.
وقد جاء في تفسير الآية السابقة، أن الرسل ليست باقية في أقوامها أبدًا, فكل نفس ذائقة الموت، ومهمة الرسول تبليغ ما أرسل به، وقد فعل، وليس من لوازم رسالته البقاء دائما مع قومه، فلا خلود لأحد في هذه الدنيا، ثم قال تعالى منكرًا على من حصل له ضعف لموت النبي صلى الله عليه وسلم أو قتله، فقال تعالى: ( أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ) أي رجعتم القهقرى، وقعدتم عن الجهاد، والانقلاب على الأعقاب يعني الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد ومتطلباته: ( وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) الذين لم ينقلبوا أو ظلوا ثابتين على دينهم متبعين رسوله حيًا أو ميتًا.
لقد كان من أسباب البلاء والمصائب التي حدثت للمسلمين يوم أحد أنهم ربطوا إيمانهم وعقيدتهم ودعوتهم إلى الله لإعلاء كلمته بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الربط بين عقيدة الإيمان بالله ربًا معبودًا وحده وبين بقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم خالدًا فيهم خالطه الحب المغلوب بالعاطفة، الربط بين الرسالة الخالدة وبين الرسول صلى الله عليه وسلم البشر الذي يلحقه الموت كان من أسباب ما نال الصحابة -رضي الله عنهم- من الفوضى والدهشة والاستغراب، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أساس وجوب التأسي به في الصبر على المكاره، والعمل الدائب على نشر الرسالة، وتبليغ الدعوة ونصرة الحق، وهذا التأسي هو الجانب الأغرّ من جوانب منهج رسالة الإسلام؛ لأنه الدعامة الأولى في بناء مسيرة الدعوة لإعلاء كلمة الله ونشرها في آفاق الأرض، وعدم ربط بقاء الدين واستمرار الجهاد في سبيله ببقاء شخص النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا.
قال ابن القيم: إن غزوة أحد كانت مقدمة وإرهاصًا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فثبتهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قتل، بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده ويموتوا عليه، أو يُقتلوا, فإنهم إنما يعبدون رب محمد، وهو لا يموت فلو مات محمد أو قتل، لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينهم، وما جاء به فكل نفس ذائقة الموت، وما نُعت محمد صلى الله عليه وسلم ليخلد, لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، سواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان، إن محمدًا قد قتل فقال: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَّضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) [آل عمران: 144], والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا أو قتلوا فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه, وثبت الشاكرون على دينهم فنصرهم الله، وأعزهم وظفرهم وجعل العاقبة لهم.
ثامنًا: معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للرماة الذين أخطأوا والمنافقين الذين انخذلوا:
أ- الرماة:
إن الرماة الذين أخطأوا الاجتهاد في غزوة أحد لم يخرجهم الرسول صلى الله عليه وسلم خارج الصف، ولم يقل لهم إنكم لا تصلحون لشيء من هذا الأمر بعدما بدا منكم في التجربة من النقص والضعف، بل قبل ضعفهم هذا في رحمة وعفو وفي سماحة، ثم شمل سبحانه وتعالى برعايته وعفوه جميع الذين اشتركوا في هذه الغزوة، رغم ما وقع من بعضهم من أخطاء جسيمة وما ترتب عليه من خسائر فادحة، فعفا سبحانه وتعالى عفوًا غسل به خطاياهم ومحا به آثار تلك الخطايا, قال تعالى: ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 152], وهناك أمر مهم يتصل بهذا العفو قد يترك أثرًا في نفوسهم يعوقها بعض الشيء, ذلك هو موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مما حدث منهم، إنهم يشعرون أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو وحده الذي تحمل نتيجة تلك الأخطاء فلا بد أن ينالوا منه عفوًا تطيب به نفوسهم، وتتم به نعمة الله عليهم، لهذا أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عنهم وحثه على الاستغفار لهم، كما أمره أن يأخذ رأيهم والاستماع إلى مشورتهم، ولا يجعل ما حدث صارفًا له عن الاستفادة من خبراتهم ومشورتهم, قال تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) [آل عمران: 159].
ب- انخذال ابن سلول المنافق:
كان هدف عبد الله ابن سلول بانسحابه بثلاثمائة من المنافقين، كان يريد أن يحدث بلبلة واضطرابًا في الجيش الإسلامي، لتنهار معنوياته ويتشجع العدو، وتعلو همته. وعمله هذا ينطوي على استهانة بمستقبل الإسلام، وغدر به في أحلك الظروف، وقد حاول عبد الله بن حرام أن يمنعهم من ذلك الانخذال إلا أنهم رفضوا دعوته, وفيهم نزل قول الله تعالى: ( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ` وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) [آل عمران: 166-167].
فالبرغم من خطورة الموقف وحاجة المسلمين لهذا العدد, لقلة جيش المسلمين وكثرة جيش قريش إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ترك هؤلاء المنافقين وشأنهم، ولم يعرهم أي اهتمام، واكتفى بفضح أمرهم أمام الناس. وكان لهذا الأسلوب أثره في توبيخ وإهانة ابن سلول، فعندما رجع رسول الله من غزوته من حمراء الأسد، أراد ابن سلول أن يقوم كعادته لحث الناس على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال الإمام الزهري: كان عبد الله بن أبي له مقام يقومه كل جمعة لا ينكسر له شرفًا في نفسه وفي قومه, وكان فيهم شريفًا, إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يخطب الناس قام فقال: أيها الناس هذا رسول الله بين أظهركم أكرمكم الله به وأعزكم به, فانصروه وعزروه واسمعوا له وأطيعوا، ثم يجلس حتى إذا صنع يوم أحد ما صنع ورجع الناس, قام يفعل ذلك كما كان يفعله, فأخذ المسلمون بثيابه من نواحيه، وقالوا: اجلس أي عدو الله، والله لست لذلك بأهل، وقد صنعت ما صنعت فخرج يتخطى رقاب الناس وهو يقول: والله لكأنما قلت بُجرًا, إن قمت أشدد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: ويلك ما لك؟ قال: قمت أشدد أمره فوثب إلي رجال من أصحابه يجبذونني ويعنفونني لكأنما قلت بجرًا أن قمت أشدد أمره, قالوا: ويلك ارجع يستغفر لك رسول الله، قال: والله ما أبغي أن يستغفر لي.
تاسعًا: "أحد جبل يحبنا ونحبه":عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم طَلَع له أحدٌ فقال: "هذا جبل يحبنا ونحبه". وهذا يدل على دقة شعور النبي صلى الله عليه وسلم حيث قارن بين ما كسبه المسلمون من منعة التحصن والاحتماء بذلك الجبل، وما أودعه الله تعالى فيه من قابلية لذلك، فعبر عن ذلك بأرقى وشائج الصلة وهي المحبة، أفلا يعتبر هذا الوجدان الحي والإحساس المرهف مثلا أعلى على التخلق بخلق الوفاء؟. ألا إن الذي يعترف بفضل الحجارة الصماء، ويفضي عليها من الأخلاق السامية ما لا يتصف به إلا أفاضل العقلاء لجدير به أن يعترف بأدنى فضل يكون من بني الإنسان، وإن كان وفاؤه صلى الله عليه وسلم للجماد قد سما حتى حاز أرقى العبارات وأرقها, فأخلق ببني الإنسان الأوفياء أن ينالوا منه أعظم من ذلك، فضلا عمن تجمعه بهم الأخوة في الله تعالى.
والحديث النبوي الشريف فيه كثير من المعاني منها ما ذكره الحميدي، ومنها ما قاله الأستاذ صالح الشامي حيث قال: والإنسان كثيرًا ما يربط بين المصيبة وبين مكانها أو زمانها.. وحتى لا تنسحب هذه العادة وتستمر بعد أن جاء الإسلام كان هذا القول الكريم بيانًا للحق، وابتعادًا عن الطيرة والتشاؤم، وذلك المعنى الذي يبقي الآثار السيئة في نفس الإنسان, ولا شك أن المسلمين سيقفون على أحد يتذكرون تلك المعركة فحتى لا يرتبط بفكرهم ذلك المعنى السيئ بين لهم أن المكان والزمان مخلوقات لله لا علاقة لهما ولا أثر بما يحدث فيهما، وإنما الأمر بيد الله تعالى، والاستشهاد في سبيل الله كرامة لصاحبه لا مصيبة، وهكذا تتسق المفاهيم في إطارها الإيماني, إذًا (أحد) يكرم ويحب انطلاقًا من هذا القول الكريم، وكيف لا يكرم وقد اختاره الله ليثوي فيه حمزة وأصحابه ممن اختارهم الله في ذلك اليوم فجادوا بأنفسهم ابتغاء مرضاته.
عاشرًا: الملائكة في أحد:
قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد، رجلين عليهما ثياب يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد, يعني جبريل وميكائيل، عليهما السلام. وهذا خاص بالدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تكفل بعصمته من الناس، ولم يصح أن الملائكة قاتلت في أحد سوى هذا القتال، ذلك لأن الله تعالى وعدهم أن يمدهم؛ وجعل وعده معلقًا على ثلاثة أمور: الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الأمور فلم يحصل الإمداد, قال تعالى: ( إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُنزَلِينَ` بَلَى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلاَئِكَةِ مُسَوِّمِينَ ) [آل عمران: 124، 125].
حادي عشر: قوانين النصر والهزيمة من سورة الأنفال، وآل عمران:تحدثت سورة الأنفال عن غزوة بدر بشيء من التفصيل، وتحدثت سورة آل عمران عن غزوة أحد لكي تتعلم الأمة كثيرًا من المفاهيم، تتعلق بمفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الحياة والموت، ومفهوم النصر والهزيمة، ومفهوم الربح والخسارة، ومفهوم الإيمان والنفاق، ومفهوم المنحة والمحنة، ومن المفاهيم التي تعلمها الصحابة -رضي الله عنهم- من خلال أحداث بدر وأحد وسورتي الأنفال وآل عمران، قوانين النصر والهزيمة، وهذه القوانين قد بينتها الآيات الكريمة ويمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أ- النصر ابتداء وانتهاء، بيد الله عز وجل, وليس ملكًا لأحد من الخلق، يهبه الله لمن يشاء ويصرفه عمن يشاء، مثله مثل الرزق، والأجل والعمل: ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [الأنفال: 10].
ب- وحين يقدر الله تعالى النصر، فلن تستطيع قوى الأرض كلها الحيلولة دونه، وحين يقدر الهزيمة، فلن تستطيع قوى الأرض أن تحول بينه وبين الأمة, قال تعالى: ( إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) [آل عمران: 160].
ج- ولكن هذا النصر له نواميس ثابتة عند الله عز وجل, نحن بحاجة إلى فقهها, فلا بد أن تكون الراية خالصة لله سبحانه عند الذين يمثلون جنده, قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [محمد: 7]. ونصر الله في الاستجابة له، والاستقامة على منهجه والجهاد في سبيله.
د- ووحدة الصف ووحدة الكلمة أساس في النصر، وتفريق الكلمة والاختلاف في الرأي دمار وهزيمة, قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [الأنفال: 46]..
هـ- وطاعة أمر الله تعالى ورسوله وعدم الخروج عليها أساس في النصر، أما المعصية فتقود إلى الهزيمة قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) [الأنفال: 46].
و- وحب الدنيا والتهافت عليها يفقد الأمة عون الله ونصره, قال تعالى: ( حَتَّى إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنْكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ ) [آل عمران: 152].
ز- ونقص العدد والعدة ليس هو سبب الهزيمة، قال تعالى: ( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) [آل عمران: 123].
ح- ولكن لا بد من الإعداد المادي والمعنوي لمواجهة العدو قال تعالى: ( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ) [الأنفال: 60].
ط- والثبات عند المواجهة، والصبر عند اللقاء من العوامل الرئيسية في النصر, قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )[الأنفال: 45]. وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ لأَدْبَارَ )[الأنفال:15].
ي- ولا شيء يعين على الثبات والصبر عند اللقاء مثل ذكر الله الكثير, باتجاه القلب إلى الله وحده منزل النصر، وطلب العون منه، والتوكل عليه، وعدم الاعتماد على العدد أو العدة أو الذات, والتبرؤ من الحول والقوة، هو عامل أساسي من عوامل النصر, قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) [الأنفال: 45].
ثاني عشر: فضل الشهداء وما أعده الله لهم من نعيم مقيم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش, فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال عز وجل: أنا أبلغهم عنكم" فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات , قال تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ` فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ` يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 169-171].
وقد جاء في تفسير الآيات السابقة ما رواه الواحدي عن سعيد بن جبير أنه قال: لما أصيب حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير يوم أحد، ورأوا ما رزقوا من الخير قالوا: ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير كي يزدادوا في الجهاد رغبة, فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم، فأنزل الله تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ ) إلى قوله: ( وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ). وروى مسلم بسنده عن مسروق، قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ). قال: أما إنا سألنا عن ذلك، فقال: "أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة، حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل, فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي؟! ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا, ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى, فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا".
ثالث عشر: الهجوم الإعلامي على المشركين:
كان الإعلام في العهد النبوي يقوم على الشعر، وكان شعراء المشركين في بدر في موقف الدفاع والرثاء, وفي أحد حاول شعراء قريش أن يضخموا هذا النصر، فجعلوا من الحبة قبة، وأمام هذه الكبرياء المزيفة، انبرى حسان بن ثابت وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة للرد على حملات المشركين الإعلامية التي قادها شعراؤهم كهبيرة بن أبي وهب، وعبد الله الزَّبَعْرَى وضرار بن الخطاب وعمرو بن العاص.
وكانت قصائد حسان كالقنابل على المشركين، وقد أشاد بشجاعة المسلمين، حيث استطاعوا أن يقتلوا حملة المشركين، ويوبخ المشركين ويصفهم بالجبن حينما لم يستطيعوا حماية لوائهم حتى كان في النهاية بيد امرأة منهم، وولى أشرافهم وتركوه، وفي هذا الهجاء تذكير للمشركين بمواقف الذل والجبن التي تعرضوا لها في بداية المعركة، حتى لا يغتروا بما حصل في نهايتها من إصابة المسلمين.
ولقد أصاب حسان من المشركين مقتلاً حينما عيرهم بالتخلي عن اللواء وإقدام امرأة منهم على حمله، وهذا يتضمن وصفهم بالجبن الشديد حيث أقدمت امرأة على ما نكلوا عنه( ).

أبو مُحمد
04-08-2008, 05:02 PM
السلام عليكم ..
بارك الله فيك أخي عزام لهذا الجهد الطيب.

لي تعقيب على النقطة الخامسة فكم تمنيت لو ان الكاتب فصل في الامر ووضح من هو ولي الامر فجملة مثل هذه :
خامسًا: مخالفة ولي الأمر تسبب الفشل لجنوده: من الخطورة بمكان اطلاقها هكذا دون تبيين وتفصيل .

وأعجبني التفصيل بخصوص ابن سلول وكيف انه خطط للانسحاب وخذلان المسلمين وكيف فضحه الله عز وجل هو وصحبه الى يوم الدين وأقول كيف بنا اليوم مع من لم يكتفوا بالانسحاب او التخطيط له بل نصروا الكفار على المسلمين وربما يمكننا ربط هذا ومقارنته بالنقطة الخامسة لنعلم أين هي وجهتنا.


"لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش, فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب، فقال عز وجل: أنا أبلغهم عنكم" فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات , قال تعالى: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ` فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ` يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ )اللهم انا نسألك من فضلك.

أبو مُحمد
04-08-2008, 05:03 PM
بانتظار التتمة وجزاك الله عنا خيرا.

عزام
04-08-2008, 05:38 PM
السلام عليكم ..
بارك الله فيك أخي عزام لهذا الجهد الطيب.
لي تعقيب على النقطة الخامسة فكم تمنيت لو ان الكاتب فصل في الامر ووضح من هو ولي الامر فجملة مثل هذه : من الخطورة بمكان اطلاقها هكذا دون تبيين وتفصيل .

آمين وفيك
انه يقصد هنا القائد العسكري للجيش والله اعلم.. بمطلق الاحوال نحن لا نعترف ان الزعماء العرب ولاة امر لانهم لا يحكمون بالاسلام بل دساتيرهم وضعية. راجع ملف الخروج على الحاكم ففيه التفصيل والرد على البوطي حين ادعى ان الاسد ولي الامر.

عزام
04-12-2008, 07:50 PM
دروس غزوة الاحزاب

الوصف القرآني لغزوة الأحزاب ونتائجها:
تحدث القرآن الكريم عن غزوة الأحزاب ورد الأمر كله لله سبحانه, وقد سجل القرآن الكريم غزوتي الأحزاب وقريظة، والقرآن كعهدنا به يسجل الخالدات التي تسع الزمان والمكان، فالمسلمون معرضون دائمًا لأن يغزوا في عقر دارهم وفي عواصم بلدانهم، ومعرضون لأن يتكالب عليهم الأعداء جميعًا، فأن يسجل القرآن حادثتي الأحزاب وقريظة فذلك من سمة التكرار على مدى العصور؛ لكي يستفيد المسلمون من الدروس والعبر من الحوادث السابقة التي ذكرت في القرآن الكريم على وجه الخصوص. والذي يتدبر حديث القرآن عن غزوة الأحزاب يراه قد اهتم ببيان أمور من أهمها ما يلي:
1- تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم, كما قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ) [الأحزاب:9].
2- التصوير البديع لما أصاب المسلمين من هم بسبب إحاطة الأحزاب بالمدينة: ( إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا ) [الأحزاب: 10].
3- الكشف عن نوايا المنافقين السيئة، وأخلاقهم الذميمة، وجبنهم الخالع, ومعاذيرهم الباطلة, ونقضهم للعهود, قال تعالى: ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا ) [الأحزاب: 12].
4- حض المؤمنين في كل زمان ومكان على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله, وجهاده وكل أحواله استجابة لقوله تعالى: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا ) [الأحزاب: 21].
(2/306)
5- مدح المؤمنين على مواقفهم النبيلة وهم يواجهون جيوش الأحزاب بإيمان صادق ووفاء بعهد الله تعالى, قال تعالى: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) [الأحزاب: 23].
6- بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف, وهي جعل العاقبة للمؤمنين والهزيمة لأعدائهم, قال تعالى: ( وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) [الأحزاب: 25].
7- امتنانه سبحانه على عباده المؤمنين حيث نصرهم على بني قريظة, وهم في حصونهم المنيعة بدون قتال يذكر، حيث ألقى سبحانه الرعب في قلوبهم فنزلوا على حكم الله ورسوله, قال تعالى: ( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ` وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا )[الأحزاب: 26، 27].
لقد كانت غزوة الأحزاب من الغزوات الهامة التي خاضها المسلمون ضد أعدائهم وحققوا فيها نتائج مهمة منها:
* انتصار المسلمين, وانهزام أعدائهم, وتفرقهم, ورجوعهم مدحورين بغيظهم قد خابت أمانيهم وآمالهم.
* تغير الموقف لصالح المسلمين, فانقلبوا من موقف الدفاع إلى الهجوم، وقد أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "الآن نغزوهم، ولا يغزوننا, نحن نسير إليهم".
* كشفت هذه الغزوة يهود بني قريظة وحقدهم على المسلمين وتربص الدوائر بهم، فقد نقضوا عهدهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك الظروف وأصعبها.
* كشفت غزوة الأحزاب حقيقة صدق إيمان المسلمين وحقيقة المنافقين وحقيقة يهود بني قريظة, فكان الابتلاء بغزوة الأحزاب تمحيصًا للمسلمين وإظهار حقيقة المنافقين واليهود.
* كانت غزوة بني قريظة نتيجة من نتائج غزوة الأحزاب، حيث تم فيها محاسبة يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك الظروف وأقساها.
وهذه دروس اخرى من السيرة
1- بين التصور والواقع:
قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أرأيتم رسول الله وصحبتموه؟ قال: نعم، يا ابن أخي، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنا نجهد، قال: فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا، فقال حذيفة: يا ابن أخي، والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالخندق، ثم ذكر حديث تكليفه بمهمة الذهاب إلى معسكر المشركين.هذا تابعي يلتقي بالصحابي حذيفة ويتخيل أنه لو وجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لاستطاع أن يفعل ما لم يفعله الصحابة الكرام، والخيال شيء والواقع شيء آخر، والصحابة رضي الله عنهم بشر، لهم طاقات البشر، وقدراتهم، وقد قدموا كل من يستطيعون، فلم يبخلوا بالأنفس فضلا عن المال والجهد، وقد وضع صلى الله عليه وسلم الأمور في نصابها بقوله: "خير القرون قرني" فبين أن عملهم لا يعدله عمل.
إن الذين جاءوا من بعد، فوجدوا سلطان الإسلام ممتدًا، وعاشوا في ظل الأمن والرخاء والعدل، بعيدين عن الفتنة والابتلاء، هم بحاجة إلى نقلة بعيدة يستشعرون من خلالها أجواء الماضي بكل ما فيه من جهالات وضلالات وكفر، وبعد ذلك يمكنهم تقدير الجهد المبذول من الصحابة حتى قام الإسلام في الأرض.
2- الحلال والحرام
عرضت قريش فداء مقابل جثة عمرو بن ود، فقال صلى الله عليه وسلم: "ادفعوا إليهم جيفته، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية فلم يقبل منهم شيئًا". حدث هذا والمسلمون في ضنك من العيش، ومع ذلك فالحلال حلال والحرام حرام، إنها مقاييس الإسلام في الحلال والحرام، فأين هذا من الناس المحسوبين على المسلمين الذين يحاولون إيجاد المبررات لأكل الربا وما شابهه؟
3- المسلم يقع في الإثم ولكنه يسارع في التوبة:
أرسل بنو قريظة إلى أبي لبابة بن عبد المنذر -وكانوا حلفاءه- فاستشاروه في النزول على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأشار إلى حلقه يعني الذبح، ثم ندم فتوجه إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فارتبط به حتى تاب الله عليه، وقد ظل مرتبطًا بالجذع في المسجد ست ليالٍ تأتيه امرأته في وقت كل صلاة فتحله للصلاة ثم يعود فيرتبط في الجذع، وقد قال أبو لبابة: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله عليَّ مما صنعت: قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك فقلت: مم تضحك يا رسول الله؟ أضحك الله سنك. قال: تيب على أبي لبابة، قالت: قلت: أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال: بلى إن شئتِ، فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك قالت: فثار الناس ليطلقوه فقال: لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده. فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجًا إلى صلاة الصبح أطلقه. وذلك في الاعتراف بالذنب والتوبة النصوح، وإن موطن العبرة في هذا الموقف يكمن في تصرف أبي لبابة بعدما وقعت منه هذه الزلة التي أفشى بها سرًّا حربيًّا خطيرًا، فأبو لبابة لم يحاول التكتم على ما بدر منه والظهور أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بمظهر الرجل الذي أدى مهمته بنجاح, وأنه لم يحصل منه شيء من المخالفات، وكان بإمكانه أن يخفي هذا الأمر حيث لم يطلع عليه أحد من المسلمين، وأن يستكتم اليهود أمره، ولكنه تذكر رقابة الله عليه وعلمه بما يسر ويعلن، وتذكر حق رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيم عليه وهو الذي ائتمنه على ذلك السر، ففزع لهذه الزلة فزعًا عظيمًا، وأقر بذنبه واعترف به وبادر إلى العقوبة الذاتية التلقائية، دون انتظار التحقيق وتوقيع العقوبة الواجبة، إنها صورة تطبيقية لقوله تعالى: ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَالسُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) [النساء: 17].
إنها صورة فريدة لتوقيع العقوبة من الإنسان نفسه على نفسه... ولا يفعل ذلك إلا أهل الإيمان، وما ذلك إلا من آثار الإيمان العميق الراسخ، الذي لا يرضى لصاحبه أن يخالطه إثم أو فسوق. وقد فرح الصحابة وفرح النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، بتوبة الله على أبي لبابة، وتسابقوا إلى تهنئته حتى كانت أم سلمة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم هي التي بادرت بالتهنئة بعد الإذن فبشرته بقبول الله توبته. وقد أنزل الله تعالى في أبي لبابة قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) [الأنفال: 27]. ونزل في توبته قوله تعالى: ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [التوبة: 102].
4- من أدب الخلاف:
في اختلاف الصحابة في فهم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة", فبعضهم فهم منه المراد الاستعجال، فصلى العصر لما دخل وقته, وبعضهم أخذ بالظاهر فلم يصل إلا في بني قريظة, ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا منهم أو عاتبه، ففي ذلك دلالة هامة على أصل من الأصول الشرعية الكبرى وهو تقرير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كل من المتخالفين معذورًا ومثابًا، كما أن فيه تقريرًا لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشرعية، وفيه ما يدل على أن استئصال الخلاف في مسائل الفروع التي تنبع من دلالات ظنية أمر لا يمكن أن يتصور أو يتم.
إن السعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع، معاندة للحكمة الربانية والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنه ضرب من العبث الباطل، إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما دام دليلها ظنيًّا محتملاً؟... ولو أمكن ذلك أن يتم في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان أولى الناس بألا يختلفوا هم أصحابه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما رأيت؟ وفي الحديث السابق من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث نبوي أو آية من كتاب الله، كما لا يعاب من استنبط من النص معنى يخصه، وفيه أيضا أن المختلفين في الفروع من المجتهدين لا إثم على المخطئ, فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد".
وحاصل ما وقع أن بعض الصحابة حملوا النهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت وقت الصلاة توجيهًا لهذا النهي الخاص على النهي العام عن تأخير الصلاة عن وقتها.
وقد علق الحافظ ابن حجر على هذه القصة فقال: ثم الاستدلال بهذه القصة على أن كل مجتهد مصيب على الإطلاق ليس بواضح، وإنما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه واجتهد, فيستفاد منه عدم تأثيمه، وحاصل ما وقع في القصة أن بعض الصحابة حملوا النص على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحًا للنهي الثاني على النهي الأول، وهو ترك تأخير الصلاة عن وقتها، واستدلوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق، والبعض الآخر حملوا النهي على غير الحقيقة، وأنه كناية على الحث والاستعجال والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدل به الجمهور على عدم تأثيم من اجتهد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أحدًا من الطائفتين، فلو كان هناك إثم لعنف من أثم.