أحمد الظرافي
03-21-2008, 01:57 PM
زنجبـار
أندلس افريقيا الضائعة!!
أحمد الظرافي
لم تكن الأندلس هي الفردوس الأولى ولا الأخيرة، التي يفقدها العرب، أو يتم إخراجهم عنوة منها، بعد قرون من وجودهم وحضارتهم الزاهرة فيها، فهناك – في حقيقة الأمر - أكثر من فردوس أو أندلس عربية مفقود، لا يملك المرء عند ذكرها إلا الشعور بالألم والحسرة، على هذه الأمجاد الضائعة، رغم مرارة وبؤس الواقع العربي الراهن. والذي يزداد تدهورا يوما بعد يوم. وهاهنا واحدة من تلك الجنان المفقودة والأمجاد الضائعة..إنها زنجبار مملكة العرب القديمة ومفتاح الشاطئ الشرقي لأفريقيا، وأشهر مركز إشعاع إسلامي في القارة السوداء. زنجبار الجزيرة الخضراء البديعة العبقة، حيث اللسان عربي، والتاريخ عربي، والتراث الحضاري عربي، والحكم عربي حتى قبل 44عاما فقط مضت.. الفارق أن زنجبار لا بواكي لها. فكيف كانت بداية الوجود العربي.. وكيف انتهى أفول الخروج؟
بر الزنـج
زنجبار عبارة عن جزيرة تبدو صغيرة في حجمها، ولكنها كبيرة بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وبطبيعتها الجميلة الخلابة، وبشعبها الحيوي النشط، وهي تقع في المحيط الهندي على بعد عشرين ميلاً عن الساحل الشرقي لأفريقيا، ويعني اسمها باللغة العربية "بر الزنج". أو ساحل الزنج، وتكتب باللغة الإنجليزية هكذا ( Zanzibar )، وتبلغ مساحة زنجبار– أو الجزيرة الخضراء، كما يحلو لسكانها في وصفها - حوالي1600كم مربع، وأما عدد سكانها فيبلغ – طبقا لآخر الإحصائيات - زهاء مليون نسمة منهم حوالي 97% مسلمون. وهم من الأفارقة والعرب والفرس والهنود. والنسبة الباقية فتتشكل من المسيحيين والهندوس.
واللغة السائدة فيها حاليا هي اللغة السواحلية وهي مزيج من لغات أفريقية قديمة واللغة العربية. ويقدر بعض علماء اللغة أن 70% من اللغة السواحلية من أصل عربي. وتتبع جزيرة زنجبار سياسيا دولة تنزانيا الحديثة النشأة والتكوين وتخضع لنظام حكم شبه ذاتي.
وتجمع الكتابات التاريخية والآثار أن العرب – وتحديدا عرب الجنوب الذين ركبوا البحر منذ القدم – قد بسطوا سيطرتهم على الساحل الشرقي لأفريقيا منذ القرن الأول الميلادي، وأمتد نشاطهم التجاري حتى الهند، وأقاموا المدن الزاهرة، وكانت الموانئ المنتشرة على طول الساحل محطات ومرافئ للسفن العربية التي تخترق المحيط في طريقها إلى الهند. ويحدثنا التاريخ بأن الحبشة أسسها عرب الجنوب الذين حكموا "الصومال" وما جاورها وأن"زنجبار" كان يحكمها سلطان عربي. وكل هؤلاء قدموا إلى هذه البلاد واستوطنوها معجاليات ضخمة من العرب عن طريق البحر، بسبب نشاطهم الملاحي الذي كان سبباً لانتشارهمفي أكثر البلاد والمدن الساحلية التي تقع على ساحل البحر الأحمر والمحيط الهنديوالخليج العربي. وكانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية السائدة في زنجبار ومنها انتشرت إلى العديد من الدول الإفريقية المجاورة.
ويقول المسعودى في سياق الحديث عن التجارة بأن أصحاب المراكب الذين كانوا يبحرون إلى أفريقيا الشرقية في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي كانوا عربا، ووصلوا حتى ميناء سفاله في موزمبيق الذي كان آنذاك مرفأً لتجارة الذهب القادمة من داخل البلاد . وكانت السلع التي تسعى المراكب لجلبها هي الذهب والعاج والأخشاب والتوابل والعنبر.واستمر الحال هكذا حتى سقوط بغداد في يد الغزاة المنغوليين عام 656هـ / 1258م مما أدى مرة أخرى إلى هجرة كثير من المسلمين إلى بلدان سواحل شرق القارة .
وتبين الآثار التاريخية المادية أن العلاقات التجارية التي ربطت دول الخليج العربية الحالية بشرق إفريقيا منذ القدم, لم تنقطع إلا بعد ظهور النفط.
مركز إشعاع إسلامي
وتاريخيا تعتبر زنجبار أرضا مسلمةً منذ القرن الأول الهجري. وقد انتشر فيها الإسلام نتيجة الهجرات المنظمة والمتوالية لبعض القبائل الأزدية والحضرمية والشيرازية إليها ثم نتيجة للعلاقات التجارية بينها وبين عرب الجنوب والخليج. وما كان يتحلى به هؤلاء التجار من سلوك قويم ومعاملة حسنة. وتعود أقدم الهجرات العربية إليها إلى عصر الخليفة عبد الملك بن مروان ( 65-86هـ) الموافق ( 685- 705م ). أثناء حملات الحجاج الثقفي العسكرية لضم عمان إلى الدولة الأموية.
وتجدر الإشارة إلى أن القبائل العربية التي هاجرت إلى زنجبار وشرق أفريقيا بعد الإسلام، لم تكن بوافدة على بيئة غريبة عليها, فقد كان هنالك تواصل وتداخل بين الجزيرة العربية والمناطق الإفريقية الداخلية منذ ما قبل الميلاد, تولد عنه كيان بشري وثقافة مشتركة، وقد شكل هذا الوعاء اللغوي والثقافي المشترك عاملا مهما لانتشار الإسلام في هذه المنطقة، بصورة تلقائية عن طريق الدعوة والإقناع، ومن ثم سهولة بسط نفوذ العرب المسلمين السياسي والثقافي في شرق أفريقيا. وكان من نتيجة انتشار الإسلام والمسلمين في المنطقة أن حل العرب والمسلمون محل غيرهم في التجارة البحرية بالمنطقة اعتبارا من القرن الثاني للهجرة ( الثامن الميلادي ) - وقد قامت في زنجبار أول دولة إسلامية عربية في أفريقيا وظلت زنجبار على مدى قرون عديدة من أهم مراكز نشر الإسلام واللغة العربية في شرق القارة الأفريقية.
وهناك من الباحثين من يرجع دخول الإسلام إلى زنجبار وشرق أفريقيا إلى مرحلة سابقة لهجرة تلك القبائل العربية إليها، وهي مرحلة فجر الإسلام، حين خرج العرب الذين أنار الدين الجديد عقولهم وحرر أخلاقهم وجدد هممهم، لنشر الدين في الشمال والغرب والشرق، وتمكنوا – أثناء ذلك - من نشر الإسلام في أجزاء كبيرة من القارة الأفريقية – بما فيها زنجبار- ويستدلون على ذلك بكون تلك المجتمعات الإفريقية لم تتبن المذاهب الفقهية أو العقائدية التي كانت تسود في المناطق التي هاجر منها أولئك العرب المسلمون. فلا نجد مثلا المذهب الإباضي أو المذهب الشيعي منتشرا في مناطق شرق إفريقيا أو وسطها. وهو ما ينطبق على زنجبار نفسها باستثناء الأسرة الحاكمة، والملتفين حولها، والذين اقتصرت أنشطتهم على التجارة والزراعة.إلى جانب أعداد قليلة من الشيعة وهم في أصولهم من مهاجري الهند وإيران والذين وفدوا إليها في مراحل لاحقة. ولذلك فقد ظلت زنجبار بمنأى عن الصراعات والفتن المذهبية لمدة طويلة، ولم تعرف الجاليات الإسلامية هذه الفتن إلا لمرة واحدة تقريبا، وذلك في عام 1336هـ الموافق 1928م ، أي بعد وقوع الجزيرة في براثن الاستعمار الانجليزي، وكانت هذه الفتنة بين الحضارم والعمانيين نتيجة للخلاف المذهبي بينهما– وهذا كما ذكر الأستاذ الدكتور صالح علي باصرة في مقال له نقلا عن أحد المصادر-.
السيادة العمانية
وقد خضعت زنجبار تاريخيا لسلطنة حكام عمان سواء عندما حكمها اليعاربة (1624ـ1742)، أو آل بوسعيد، (البوسعيديين), الذين يعتبر عصرهم هو العصر الذهبي للوجود العماني في شرق إفريقيا. وكان سلطان عمان يمتد إلى ممباسا وماليندي ومقديشو وأسمرة ومدن كثيرة حتى وسط أفريقيا. وفي فترة حكمهم انتشرت الثقافة العربية الإسلامية – ليس في زنجبار قاعدة حكمهم في أفريقيا فحسب – وإنما على طول الساحل الشرقي الإفريقي وفي الداخل. وقد ظلت سيطرة العمانيين على زنجبار وساحل شرق أفريقيا قرابة ألف عام، ولم تنقطع خلالها إلا فترات قصيرة عانت فيها مناطق النفوذ العماني من رحلات الاستكشاف البرتغالية، ثم من الاستعمار والتأثير البرتغالي، وتحديدا منذ القرن الخامس عشر وحتى أواخر القرن السابع عشر، إلى أن طرد الأمام سلطان بن سيف البرتغاليين من عمان ومنطقة الخليج، ثم من زنجبار في العام 1652 ثم بعد ذلك من ساحل شرق أفريقيا. ولقد أغرى ذلك الانتصار العمانيين بملاحقة البرتغاليين في المحيط الهندي وإلى شواطئ إفريقيا, كما لا يمكن إهمال الجانب الديني والوطني الذي دفع (عمان) لتخليص عرب ومسلمي شرق إفريقيا من الاستعمار البرتغالي. وكان (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=11694&vid=24) لتحرر الإمارات الإسلامية من الكابوس البرتغالي أثر عميق في استعادة الحركة الإسلامية نشاطها. وبدأ الإسلام بالتوغل فعلياً نحو الداخل، عن طريق التجار والدعاة والذين نشطوا في نشر عقيدة التوحيد، في موزمبيق وسفالة، ونفذوا إلى منطقة نياسالاند (ملاوي اليوم)، وهضبة البحيرات ومملكة بوغندة (أوغندة) وكينية وتنجانيقا حتى حدود الكونغو، وأقيمت المساجد والكتاتيب في كل مدينة وقرية. وأحرز الإسلام تقدماً مماثلاً في مناطق شمال مقديشو. كما تسرب سلمياً إلى قلب الحبشة (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=14224&vid=24) طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكان (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=11694&vid=24) للاتصال المستمر بين هذه الإمارات والعالم الإسلامي أثره الكبير في انتشار الإسلام والثقافة العربية الإسلامية.
لؤلؤة المملكة
كان النظام المستقر أن جزيرة زنجبار وساحل أفريقيا الشرقي تابعان لسلطان عمان الذي كان يحكم من عمان، ويفوض ولاةً على زنجبار وبقية ممالك الساحل مقابل ضريبة سنوية. وفي عام 1828م قام السلطان سعيد بن سلطان أو السيد البحار كـما كان الأوربيون يطلقون عليه – والذي لم يكن يبلغ حينذاك 18 عامًا – قام بزيارة إلى جناح مملكته في شرق أفريقيا، وعندما وصل إلى زنجبار استهواه جمالها وطيب مناخها مقارنة بهجير عمان، فجعل الجزيرة مقره الرسمي، وعاصمة لمملكة يحكم منها عمان وساحل أفريقيا- بدلا عن مسقط - وأصبحت زنجبار منذ ذلك التاريخ عاصمة لمملكة عمان الواسعة والمترامية، وسرعان ما تعاظمت وتكثفت هجرات العمانيين إلى الجزيرة ملتحقين بسلطانهم. وإلى السلطان سعيد بن سلطان ( 1807- 1856 ) يعود الفضل في كونه أول من زرع شجر القرنفل في الجزيرة والتوسع فيها، على الرغم من معارضة الأهالي، لتصبح زنجبار اليوم أكبر مصدر للقرنفل في العالم كله. وقد استمر هذا السلطان البحار التاجر يحكم الجزيرة لمدة 50 عامًا متواصلة. وقد مات وهو يقود سفينته كـما تمنى وكـما عاش دوما. وفي عهدة وصلت أول سفينة عربية إلى ميناء نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في 13أبريل 1840. حاملة هدايا إلى الرئيس الأمريكي: حصانين ولآلئ وأحجاركريمة وسبيكة من الذهب وسجادة عجمية من حرير وعطر وماء ورد وأكثر من شال كشميريوسيف مذهب- إلى جانب مبعـوث السلطـان الخاص إليه- وكان ذلك - ثمرة معاهدة صداقة وتجارة أبرمها السلطان مع أمريكا في فترة المد الاستعماري الرأسمالي لأفريقيا – كما سيأتي-.
وقد ازدهرت زنجبار منذ ذلك الحين، عمرانيا وزراعيا، وتحولت من قرية صغيرة، إلى أن صارت تعتبر ثالث دولة تجارية في المحيط الهندي، وأصبحت نقطة التقاء أشراف الساحل الشرقي الأفريقي والعمانيين، وتضاءلت بجانبها المدن الأخرى الزاهرة مثل ممباسا وماليندي وكلوه. - ولما كانت سياسة هذا السلطان تتركز على تنشيط التجارة فقد شجع الهنود على الهجرة فوفدت أعداد وفيرة منهم.
ثم قوى نفوذ الهنود في عهد الانجليز والألمان وأصبحوا أصحاب الأملاك والفنادق والمحلات التجارية.
بيد أن التوهج الحضاري الكبير لم يدم طويلا ، فبعد وفاة السلطان سعيد انكمشت تلك المملكة الواسعة بنفس السرعة التي ازدهرت بها وكان للاستعمار الغربي اليد الطولى في ذلك، فضلا عن عامل الصراعات بين الأخوة على الحكم – وما أكثرها في تاريخ عمان -
الاستعمار وحبائل الشيطان
كان استقرار السلطان سعيد بن سلطان في زنجبار مع بدء إحساس الغرب بأهمية موقع زنجبار الاستراتيجي، من حيث كونها موقع مواجهة مع ساحل أفريقيا الشرقي القريب من الهند ومن ساحل الخليج العربي. – وقد وصفها الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو، أثناء زيارتها، بأنها «بلد العاجالكبير»، بعد أن اشتهرت بكونها عاصمة" سلطنة أفرو-عرب" Afro - Arab Daynasty وكانت الكشوف الجغرافية في أفريقيا سببا كافيا لكي يلتهب خيال أوروبا بالطمع في أفريقيا بعامة وزنجبار بوجه خاص. وفي القرن التاسع عشر احتدم صراع كبير بين الدول الرأسمالية الاستعمارية حول زنجبار بدأ بين بريطانيا وألمانيا، ثم تطور بعد ذلك ليصبح بين ايطاليا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا، إلا أن أمريكا كانت اسبق الجميع حين وقعت معاهدة صداقة مع زنجبار عام 1823 بعد تدشين العلاقات الدبلوماسية الثنائية معها، وحظيت أمريكا بموجبها على امتياز الدولة الأحق بالرعاية. وتم فتح قنصليتها بالجزيرة في عام 1833. وفي عام 1839، وقعت بريطانيا معاهدة مع زنجبار، اشترطت فيها على السلطان تحريم الرقيق، بعد أن كانت بريطانيا وغيرها من الدول الرأسمالية الأوربية قد تشبعت تماما من هذه التجارة اللعينة وما وفرته لها من أيد عاملة مُستعبَدة، ومن ثرواتٍ طائلة، كما أعطت المعاهدة للسفن البريطانية الحق في تفتيش السفن ومصادرة أي سفن تمارس هذه التجارة. واقتضى الأمر أن تتخذ بريطانيا من قوتها البحرية وسيلة لمحاربة آخر معاقل هذه التجارة في زنجبار والسودان، ولكن بعد أن كانت قد حصدت أكبر المغانم قاطبة منها. وتحت هذا الستار وبمعاونة مكتب شركة الهند الشرقية امتدت الأصابع البريطانية لزرع بذور الشقاق والفتنة، وإذكاء روح العداوة والبغضاء بين الأسرة العربية الحاكمة من جانب، واللعب على حبل التناقضات العنصرية والجنسية بين القوميات الثلاث التي ينتمي إليها سكان الجزيرة ( العرب والأفارقة والشيرازين )، من جانب آخر، بالرغم من أنهم جميعا يدينون بدين الإسلام. وبعدها نجحوا في ضم الإفريقيين والشرازيين في حزب واحد.
لقد كان الاستعمار الأوربي مدركا لعناصر القوة التي تُكتب للحضارة العربية الإسلامية البقاء في شرق ووسط إفريقيا. فحاربها سياسيا بزراعة المفاهيم الخاطئة لدى النخبة المتعلمة من ذوي الأصول الإفريقية, وعمل على محو الأثر الثقافي العربي والإسلامي في شرق إفريقيا, كما تمثل ذلك فيما لقيه الحرف العربي من حرب بالنسبة للغة الصومالية واللغة السواحلية, وكان أهون الأشكال ما بدأت تظهره الإدارة الاستعمارية من ضيق بالوثائق والمداولات المكتبية المكتوبة باللغة العربية أو السواحلية بالحرف العربي.. وجعلت الإدارة الاستعمارية الألمانية في شرق إفريقيا استعمال الكتابة العربية في الدوائر الرسمية والوثائق الحكومية أمرا يحرمه القانون.
صراعات الأخوة وانعكاساتها
بعد وفاة السلطان سعيد بن سلطان في 19أكتوبر1856 ثار الشقاق بين اثنين من أشقائه، وكالعادة استعان احدهما بالبريطانيين، وتدخل البريطانيون فشكلوا لجنة تحكيم برئاسة اللورد " كانتج" المندوب السامي في الهند، فقسم الإمبراطورية إلى جزأين أساسيين، هما عمان وقد جعلها من نصيب السلطان ثويني بن سعيد، وزنجبار وجعلها من نصيب السلطان ماجد. ومنذ ذلك التاريخ انفصلت زنجبار عن عمان. وكان ذلك نذير شؤم بالنسبة لجناحي المملكة كليهما، فقد " فقدت عُمان جزءا كبيرا مـن إمبراطوريتها بعد ذلك وتعرض مدها للانحسار وتقوقعـت بعد ذلك داخل حدودها ومرت عليها فترات طـويلة قاسيـة انعزلـت فيها نهائيا عن العـالم الخارجي.. ثم عادت إلى الظهور مرة أخـرى بعد عام 1970 كـأنها طائر العنقاء يخرج جديدا من وسط الرماد ".
وداخل زنجبار ثار خلاف وشقاقٍ جديد بين الأخوة، فقد حاول برغش شقيق السلطان ماجد أن يغتاله في مؤامرة شاركهُ فيها بعض أفراد العائلة، فاستعان ماجد بالبريطانيين، فتولوا حمايته بالقوة المسلحة، وحكم على برغش شقيق السلطان بالنفي إلى الهند. واستمر الموقف بنزاعات وشقاقات وانتهز البريطانيون الفرصة ليبسطوا أيديهم أكثر على الجزيرة.
وفي نوفمبر1886 قُسِّمت الجزيرة بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وتعاظم الصراع بعد ذلك، وتوالى بشكل سريع، وتعاقب على حكم زنجبار ولاة لم يدم حكم بعضهم عامين، وعرفت الجزيرة الانقلابات والحروب، ومكن هذا الوضع الاستعمار الانجليزي من نزع زنجبار من سلطة العمانيين على الجزيرة، وتحويل مقاليد الأمور الحقيقية إلى أيديهم ، حتى أنهم عزلوا حاكما من حكامها بالقوة المسلحة لينصبوا آخر، وهكذا.
وخلال ذلك نشطت الجمعيات والبعثات التبشيرية، التي تستند بقوة للغزو الثقافي وللإغراء المادي للفقراء، - وقد سهل سلطان زنجبار- رغم أنه مسلم - عمل تلك البعثات المسيحية، وعرض كافة المساعدات والتسهيلات للبعثات المسيحية عندما اتصلت به. وهذه مصيبة أخرى.
وللتحكم في عقول الطلائع الجديدة وخلق نخبة وطنية موالية له راحت أصابع الاستعمار تلعب وتتدخل في العملية التعليمية، وقررت الإدارة البريطانية استخدام الحروف الرومانية لكتابة اللغة السواحلية بحجة أن المبشرين والقساوسة قد استخدموها لمدة خمسين عاما في مجال التعليم, متجاهلة بذلك تجربة خمسة قرون متواصلة من استعمال الحرف العربي, ولما فتحت مدرسه في زنجبار سنة 1907م رفض كثير من السكان إرسال أبنائهم إلي هذه المدرسة خوفاً من الحركات التنصرية، التي كانت تستعمل المدارس لهذا الغرض، وقاوم أهالي زنجبار تلك السياسة الاستعمارية فقاطعوا التعليم الحكومي لمدة طويلة, ووصف البريطانيون الحماس الوطني بأنه (تحيز محلي)!
وأمام هذا الصمود والتشبث بالحرف العربي، شجعت بريطانيا توافد الأفارقة من الساحل الأفريقي إلى الجزيرة، لتغيير هويتها العربية، وتدريجيا بدأ البريطانيون في تكوين قوى وحركات سياسية وطنية موالية لهم داخل الجزيرة، عبر تقديم برامج لبناء مجدها السياسي على أسسمن التفريق الإثني والعرقي بين العربي والإفريقي وهو ما أدى إلى إذكاء حدة التفرقة بين العرب والأفارقة، وعمل الانجليز على تحجيم التواصل العربي الإسلامي مع شرق ووسط إفريقيا بوسائل إدارية كما يتبين من تلك الإجراءات المعقدة والمطولة في وجه الراغبين في السفر من مواطني غرب إفريقيا إلى دول شرق ووسط إفريقيا..
وانتهج المستعمرون والمبشرون الخبثاء وأعوانهم سياسة منظمة ومستمرة إزاء العرب " المسيطرين على الاقتصاد والتجارة " دأبت على بث الكراهية والتشويه المتعمد لصورتهم، وإثارة الأهالي الأفارقة ضدهم على اعتبار أن أولئك العرب هم الذين باعوا الأفارقة كعبيد للمستعمرين البريطانيين والفرنسيين " وصبر البريطانيون طويلا وزرعوا كثيرا، وكان لا بد أن يثمر الزرع الذي زرعوه"
أندلس افريقيا الضائعة!!
أحمد الظرافي
لم تكن الأندلس هي الفردوس الأولى ولا الأخيرة، التي يفقدها العرب، أو يتم إخراجهم عنوة منها، بعد قرون من وجودهم وحضارتهم الزاهرة فيها، فهناك – في حقيقة الأمر - أكثر من فردوس أو أندلس عربية مفقود، لا يملك المرء عند ذكرها إلا الشعور بالألم والحسرة، على هذه الأمجاد الضائعة، رغم مرارة وبؤس الواقع العربي الراهن. والذي يزداد تدهورا يوما بعد يوم. وهاهنا واحدة من تلك الجنان المفقودة والأمجاد الضائعة..إنها زنجبار مملكة العرب القديمة ومفتاح الشاطئ الشرقي لأفريقيا، وأشهر مركز إشعاع إسلامي في القارة السوداء. زنجبار الجزيرة الخضراء البديعة العبقة، حيث اللسان عربي، والتاريخ عربي، والتراث الحضاري عربي، والحكم عربي حتى قبل 44عاما فقط مضت.. الفارق أن زنجبار لا بواكي لها. فكيف كانت بداية الوجود العربي.. وكيف انتهى أفول الخروج؟
بر الزنـج
زنجبار عبارة عن جزيرة تبدو صغيرة في حجمها، ولكنها كبيرة بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وبطبيعتها الجميلة الخلابة، وبشعبها الحيوي النشط، وهي تقع في المحيط الهندي على بعد عشرين ميلاً عن الساحل الشرقي لأفريقيا، ويعني اسمها باللغة العربية "بر الزنج". أو ساحل الزنج، وتكتب باللغة الإنجليزية هكذا ( Zanzibar )، وتبلغ مساحة زنجبار– أو الجزيرة الخضراء، كما يحلو لسكانها في وصفها - حوالي1600كم مربع، وأما عدد سكانها فيبلغ – طبقا لآخر الإحصائيات - زهاء مليون نسمة منهم حوالي 97% مسلمون. وهم من الأفارقة والعرب والفرس والهنود. والنسبة الباقية فتتشكل من المسيحيين والهندوس.
واللغة السائدة فيها حاليا هي اللغة السواحلية وهي مزيج من لغات أفريقية قديمة واللغة العربية. ويقدر بعض علماء اللغة أن 70% من اللغة السواحلية من أصل عربي. وتتبع جزيرة زنجبار سياسيا دولة تنزانيا الحديثة النشأة والتكوين وتخضع لنظام حكم شبه ذاتي.
وتجمع الكتابات التاريخية والآثار أن العرب – وتحديدا عرب الجنوب الذين ركبوا البحر منذ القدم – قد بسطوا سيطرتهم على الساحل الشرقي لأفريقيا منذ القرن الأول الميلادي، وأمتد نشاطهم التجاري حتى الهند، وأقاموا المدن الزاهرة، وكانت الموانئ المنتشرة على طول الساحل محطات ومرافئ للسفن العربية التي تخترق المحيط في طريقها إلى الهند. ويحدثنا التاريخ بأن الحبشة أسسها عرب الجنوب الذين حكموا "الصومال" وما جاورها وأن"زنجبار" كان يحكمها سلطان عربي. وكل هؤلاء قدموا إلى هذه البلاد واستوطنوها معجاليات ضخمة من العرب عن طريق البحر، بسبب نشاطهم الملاحي الذي كان سبباً لانتشارهمفي أكثر البلاد والمدن الساحلية التي تقع على ساحل البحر الأحمر والمحيط الهنديوالخليج العربي. وكانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية السائدة في زنجبار ومنها انتشرت إلى العديد من الدول الإفريقية المجاورة.
ويقول المسعودى في سياق الحديث عن التجارة بأن أصحاب المراكب الذين كانوا يبحرون إلى أفريقيا الشرقية في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي كانوا عربا، ووصلوا حتى ميناء سفاله في موزمبيق الذي كان آنذاك مرفأً لتجارة الذهب القادمة من داخل البلاد . وكانت السلع التي تسعى المراكب لجلبها هي الذهب والعاج والأخشاب والتوابل والعنبر.واستمر الحال هكذا حتى سقوط بغداد في يد الغزاة المنغوليين عام 656هـ / 1258م مما أدى مرة أخرى إلى هجرة كثير من المسلمين إلى بلدان سواحل شرق القارة .
وتبين الآثار التاريخية المادية أن العلاقات التجارية التي ربطت دول الخليج العربية الحالية بشرق إفريقيا منذ القدم, لم تنقطع إلا بعد ظهور النفط.
مركز إشعاع إسلامي
وتاريخيا تعتبر زنجبار أرضا مسلمةً منذ القرن الأول الهجري. وقد انتشر فيها الإسلام نتيجة الهجرات المنظمة والمتوالية لبعض القبائل الأزدية والحضرمية والشيرازية إليها ثم نتيجة للعلاقات التجارية بينها وبين عرب الجنوب والخليج. وما كان يتحلى به هؤلاء التجار من سلوك قويم ومعاملة حسنة. وتعود أقدم الهجرات العربية إليها إلى عصر الخليفة عبد الملك بن مروان ( 65-86هـ) الموافق ( 685- 705م ). أثناء حملات الحجاج الثقفي العسكرية لضم عمان إلى الدولة الأموية.
وتجدر الإشارة إلى أن القبائل العربية التي هاجرت إلى زنجبار وشرق أفريقيا بعد الإسلام، لم تكن بوافدة على بيئة غريبة عليها, فقد كان هنالك تواصل وتداخل بين الجزيرة العربية والمناطق الإفريقية الداخلية منذ ما قبل الميلاد, تولد عنه كيان بشري وثقافة مشتركة، وقد شكل هذا الوعاء اللغوي والثقافي المشترك عاملا مهما لانتشار الإسلام في هذه المنطقة، بصورة تلقائية عن طريق الدعوة والإقناع، ومن ثم سهولة بسط نفوذ العرب المسلمين السياسي والثقافي في شرق أفريقيا. وكان من نتيجة انتشار الإسلام والمسلمين في المنطقة أن حل العرب والمسلمون محل غيرهم في التجارة البحرية بالمنطقة اعتبارا من القرن الثاني للهجرة ( الثامن الميلادي ) - وقد قامت في زنجبار أول دولة إسلامية عربية في أفريقيا وظلت زنجبار على مدى قرون عديدة من أهم مراكز نشر الإسلام واللغة العربية في شرق القارة الأفريقية.
وهناك من الباحثين من يرجع دخول الإسلام إلى زنجبار وشرق أفريقيا إلى مرحلة سابقة لهجرة تلك القبائل العربية إليها، وهي مرحلة فجر الإسلام، حين خرج العرب الذين أنار الدين الجديد عقولهم وحرر أخلاقهم وجدد هممهم، لنشر الدين في الشمال والغرب والشرق، وتمكنوا – أثناء ذلك - من نشر الإسلام في أجزاء كبيرة من القارة الأفريقية – بما فيها زنجبار- ويستدلون على ذلك بكون تلك المجتمعات الإفريقية لم تتبن المذاهب الفقهية أو العقائدية التي كانت تسود في المناطق التي هاجر منها أولئك العرب المسلمون. فلا نجد مثلا المذهب الإباضي أو المذهب الشيعي منتشرا في مناطق شرق إفريقيا أو وسطها. وهو ما ينطبق على زنجبار نفسها باستثناء الأسرة الحاكمة، والملتفين حولها، والذين اقتصرت أنشطتهم على التجارة والزراعة.إلى جانب أعداد قليلة من الشيعة وهم في أصولهم من مهاجري الهند وإيران والذين وفدوا إليها في مراحل لاحقة. ولذلك فقد ظلت زنجبار بمنأى عن الصراعات والفتن المذهبية لمدة طويلة، ولم تعرف الجاليات الإسلامية هذه الفتن إلا لمرة واحدة تقريبا، وذلك في عام 1336هـ الموافق 1928م ، أي بعد وقوع الجزيرة في براثن الاستعمار الانجليزي، وكانت هذه الفتنة بين الحضارم والعمانيين نتيجة للخلاف المذهبي بينهما– وهذا كما ذكر الأستاذ الدكتور صالح علي باصرة في مقال له نقلا عن أحد المصادر-.
السيادة العمانية
وقد خضعت زنجبار تاريخيا لسلطنة حكام عمان سواء عندما حكمها اليعاربة (1624ـ1742)، أو آل بوسعيد، (البوسعيديين), الذين يعتبر عصرهم هو العصر الذهبي للوجود العماني في شرق إفريقيا. وكان سلطان عمان يمتد إلى ممباسا وماليندي ومقديشو وأسمرة ومدن كثيرة حتى وسط أفريقيا. وفي فترة حكمهم انتشرت الثقافة العربية الإسلامية – ليس في زنجبار قاعدة حكمهم في أفريقيا فحسب – وإنما على طول الساحل الشرقي الإفريقي وفي الداخل. وقد ظلت سيطرة العمانيين على زنجبار وساحل شرق أفريقيا قرابة ألف عام، ولم تنقطع خلالها إلا فترات قصيرة عانت فيها مناطق النفوذ العماني من رحلات الاستكشاف البرتغالية، ثم من الاستعمار والتأثير البرتغالي، وتحديدا منذ القرن الخامس عشر وحتى أواخر القرن السابع عشر، إلى أن طرد الأمام سلطان بن سيف البرتغاليين من عمان ومنطقة الخليج، ثم من زنجبار في العام 1652 ثم بعد ذلك من ساحل شرق أفريقيا. ولقد أغرى ذلك الانتصار العمانيين بملاحقة البرتغاليين في المحيط الهندي وإلى شواطئ إفريقيا, كما لا يمكن إهمال الجانب الديني والوطني الذي دفع (عمان) لتخليص عرب ومسلمي شرق إفريقيا من الاستعمار البرتغالي. وكان (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=11694&vid=24) لتحرر الإمارات الإسلامية من الكابوس البرتغالي أثر عميق في استعادة الحركة الإسلامية نشاطها. وبدأ الإسلام بالتوغل فعلياً نحو الداخل، عن طريق التجار والدعاة والذين نشطوا في نشر عقيدة التوحيد، في موزمبيق وسفالة، ونفذوا إلى منطقة نياسالاند (ملاوي اليوم)، وهضبة البحيرات ومملكة بوغندة (أوغندة) وكينية وتنجانيقا حتى حدود الكونغو، وأقيمت المساجد والكتاتيب في كل مدينة وقرية. وأحرز الإسلام تقدماً مماثلاً في مناطق شمال مقديشو. كما تسرب سلمياً إلى قلب الحبشة (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=14224&vid=24) طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر. وكان (http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=11694&vid=24) للاتصال المستمر بين هذه الإمارات والعالم الإسلامي أثره الكبير في انتشار الإسلام والثقافة العربية الإسلامية.
لؤلؤة المملكة
كان النظام المستقر أن جزيرة زنجبار وساحل أفريقيا الشرقي تابعان لسلطان عمان الذي كان يحكم من عمان، ويفوض ولاةً على زنجبار وبقية ممالك الساحل مقابل ضريبة سنوية. وفي عام 1828م قام السلطان سعيد بن سلطان أو السيد البحار كـما كان الأوربيون يطلقون عليه – والذي لم يكن يبلغ حينذاك 18 عامًا – قام بزيارة إلى جناح مملكته في شرق أفريقيا، وعندما وصل إلى زنجبار استهواه جمالها وطيب مناخها مقارنة بهجير عمان، فجعل الجزيرة مقره الرسمي، وعاصمة لمملكة يحكم منها عمان وساحل أفريقيا- بدلا عن مسقط - وأصبحت زنجبار منذ ذلك التاريخ عاصمة لمملكة عمان الواسعة والمترامية، وسرعان ما تعاظمت وتكثفت هجرات العمانيين إلى الجزيرة ملتحقين بسلطانهم. وإلى السلطان سعيد بن سلطان ( 1807- 1856 ) يعود الفضل في كونه أول من زرع شجر القرنفل في الجزيرة والتوسع فيها، على الرغم من معارضة الأهالي، لتصبح زنجبار اليوم أكبر مصدر للقرنفل في العالم كله. وقد استمر هذا السلطان البحار التاجر يحكم الجزيرة لمدة 50 عامًا متواصلة. وقد مات وهو يقود سفينته كـما تمنى وكـما عاش دوما. وفي عهدة وصلت أول سفينة عربية إلى ميناء نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في 13أبريل 1840. حاملة هدايا إلى الرئيس الأمريكي: حصانين ولآلئ وأحجاركريمة وسبيكة من الذهب وسجادة عجمية من حرير وعطر وماء ورد وأكثر من شال كشميريوسيف مذهب- إلى جانب مبعـوث السلطـان الخاص إليه- وكان ذلك - ثمرة معاهدة صداقة وتجارة أبرمها السلطان مع أمريكا في فترة المد الاستعماري الرأسمالي لأفريقيا – كما سيأتي-.
وقد ازدهرت زنجبار منذ ذلك الحين، عمرانيا وزراعيا، وتحولت من قرية صغيرة، إلى أن صارت تعتبر ثالث دولة تجارية في المحيط الهندي، وأصبحت نقطة التقاء أشراف الساحل الشرقي الأفريقي والعمانيين، وتضاءلت بجانبها المدن الأخرى الزاهرة مثل ممباسا وماليندي وكلوه. - ولما كانت سياسة هذا السلطان تتركز على تنشيط التجارة فقد شجع الهنود على الهجرة فوفدت أعداد وفيرة منهم.
ثم قوى نفوذ الهنود في عهد الانجليز والألمان وأصبحوا أصحاب الأملاك والفنادق والمحلات التجارية.
بيد أن التوهج الحضاري الكبير لم يدم طويلا ، فبعد وفاة السلطان سعيد انكمشت تلك المملكة الواسعة بنفس السرعة التي ازدهرت بها وكان للاستعمار الغربي اليد الطولى في ذلك، فضلا عن عامل الصراعات بين الأخوة على الحكم – وما أكثرها في تاريخ عمان -
الاستعمار وحبائل الشيطان
كان استقرار السلطان سعيد بن سلطان في زنجبار مع بدء إحساس الغرب بأهمية موقع زنجبار الاستراتيجي، من حيث كونها موقع مواجهة مع ساحل أفريقيا الشرقي القريب من الهند ومن ساحل الخليج العربي. – وقد وصفها الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو، أثناء زيارتها، بأنها «بلد العاجالكبير»، بعد أن اشتهرت بكونها عاصمة" سلطنة أفرو-عرب" Afro - Arab Daynasty وكانت الكشوف الجغرافية في أفريقيا سببا كافيا لكي يلتهب خيال أوروبا بالطمع في أفريقيا بعامة وزنجبار بوجه خاص. وفي القرن التاسع عشر احتدم صراع كبير بين الدول الرأسمالية الاستعمارية حول زنجبار بدأ بين بريطانيا وألمانيا، ثم تطور بعد ذلك ليصبح بين ايطاليا وفرنسا وبريطانيا وأمريكا، إلا أن أمريكا كانت اسبق الجميع حين وقعت معاهدة صداقة مع زنجبار عام 1823 بعد تدشين العلاقات الدبلوماسية الثنائية معها، وحظيت أمريكا بموجبها على امتياز الدولة الأحق بالرعاية. وتم فتح قنصليتها بالجزيرة في عام 1833. وفي عام 1839، وقعت بريطانيا معاهدة مع زنجبار، اشترطت فيها على السلطان تحريم الرقيق، بعد أن كانت بريطانيا وغيرها من الدول الرأسمالية الأوربية قد تشبعت تماما من هذه التجارة اللعينة وما وفرته لها من أيد عاملة مُستعبَدة، ومن ثرواتٍ طائلة، كما أعطت المعاهدة للسفن البريطانية الحق في تفتيش السفن ومصادرة أي سفن تمارس هذه التجارة. واقتضى الأمر أن تتخذ بريطانيا من قوتها البحرية وسيلة لمحاربة آخر معاقل هذه التجارة في زنجبار والسودان، ولكن بعد أن كانت قد حصدت أكبر المغانم قاطبة منها. وتحت هذا الستار وبمعاونة مكتب شركة الهند الشرقية امتدت الأصابع البريطانية لزرع بذور الشقاق والفتنة، وإذكاء روح العداوة والبغضاء بين الأسرة العربية الحاكمة من جانب، واللعب على حبل التناقضات العنصرية والجنسية بين القوميات الثلاث التي ينتمي إليها سكان الجزيرة ( العرب والأفارقة والشيرازين )، من جانب آخر، بالرغم من أنهم جميعا يدينون بدين الإسلام. وبعدها نجحوا في ضم الإفريقيين والشرازيين في حزب واحد.
لقد كان الاستعمار الأوربي مدركا لعناصر القوة التي تُكتب للحضارة العربية الإسلامية البقاء في شرق ووسط إفريقيا. فحاربها سياسيا بزراعة المفاهيم الخاطئة لدى النخبة المتعلمة من ذوي الأصول الإفريقية, وعمل على محو الأثر الثقافي العربي والإسلامي في شرق إفريقيا, كما تمثل ذلك فيما لقيه الحرف العربي من حرب بالنسبة للغة الصومالية واللغة السواحلية, وكان أهون الأشكال ما بدأت تظهره الإدارة الاستعمارية من ضيق بالوثائق والمداولات المكتبية المكتوبة باللغة العربية أو السواحلية بالحرف العربي.. وجعلت الإدارة الاستعمارية الألمانية في شرق إفريقيا استعمال الكتابة العربية في الدوائر الرسمية والوثائق الحكومية أمرا يحرمه القانون.
صراعات الأخوة وانعكاساتها
بعد وفاة السلطان سعيد بن سلطان في 19أكتوبر1856 ثار الشقاق بين اثنين من أشقائه، وكالعادة استعان احدهما بالبريطانيين، وتدخل البريطانيون فشكلوا لجنة تحكيم برئاسة اللورد " كانتج" المندوب السامي في الهند، فقسم الإمبراطورية إلى جزأين أساسيين، هما عمان وقد جعلها من نصيب السلطان ثويني بن سعيد، وزنجبار وجعلها من نصيب السلطان ماجد. ومنذ ذلك التاريخ انفصلت زنجبار عن عمان. وكان ذلك نذير شؤم بالنسبة لجناحي المملكة كليهما، فقد " فقدت عُمان جزءا كبيرا مـن إمبراطوريتها بعد ذلك وتعرض مدها للانحسار وتقوقعـت بعد ذلك داخل حدودها ومرت عليها فترات طـويلة قاسيـة انعزلـت فيها نهائيا عن العـالم الخارجي.. ثم عادت إلى الظهور مرة أخـرى بعد عام 1970 كـأنها طائر العنقاء يخرج جديدا من وسط الرماد ".
وداخل زنجبار ثار خلاف وشقاقٍ جديد بين الأخوة، فقد حاول برغش شقيق السلطان ماجد أن يغتاله في مؤامرة شاركهُ فيها بعض أفراد العائلة، فاستعان ماجد بالبريطانيين، فتولوا حمايته بالقوة المسلحة، وحكم على برغش شقيق السلطان بالنفي إلى الهند. واستمر الموقف بنزاعات وشقاقات وانتهز البريطانيون الفرصة ليبسطوا أيديهم أكثر على الجزيرة.
وفي نوفمبر1886 قُسِّمت الجزيرة بين بريطانيا وفرنسا وألمانيا. وتعاظم الصراع بعد ذلك، وتوالى بشكل سريع، وتعاقب على حكم زنجبار ولاة لم يدم حكم بعضهم عامين، وعرفت الجزيرة الانقلابات والحروب، ومكن هذا الوضع الاستعمار الانجليزي من نزع زنجبار من سلطة العمانيين على الجزيرة، وتحويل مقاليد الأمور الحقيقية إلى أيديهم ، حتى أنهم عزلوا حاكما من حكامها بالقوة المسلحة لينصبوا آخر، وهكذا.
وخلال ذلك نشطت الجمعيات والبعثات التبشيرية، التي تستند بقوة للغزو الثقافي وللإغراء المادي للفقراء، - وقد سهل سلطان زنجبار- رغم أنه مسلم - عمل تلك البعثات المسيحية، وعرض كافة المساعدات والتسهيلات للبعثات المسيحية عندما اتصلت به. وهذه مصيبة أخرى.
وللتحكم في عقول الطلائع الجديدة وخلق نخبة وطنية موالية له راحت أصابع الاستعمار تلعب وتتدخل في العملية التعليمية، وقررت الإدارة البريطانية استخدام الحروف الرومانية لكتابة اللغة السواحلية بحجة أن المبشرين والقساوسة قد استخدموها لمدة خمسين عاما في مجال التعليم, متجاهلة بذلك تجربة خمسة قرون متواصلة من استعمال الحرف العربي, ولما فتحت مدرسه في زنجبار سنة 1907م رفض كثير من السكان إرسال أبنائهم إلي هذه المدرسة خوفاً من الحركات التنصرية، التي كانت تستعمل المدارس لهذا الغرض، وقاوم أهالي زنجبار تلك السياسة الاستعمارية فقاطعوا التعليم الحكومي لمدة طويلة, ووصف البريطانيون الحماس الوطني بأنه (تحيز محلي)!
وأمام هذا الصمود والتشبث بالحرف العربي، شجعت بريطانيا توافد الأفارقة من الساحل الأفريقي إلى الجزيرة، لتغيير هويتها العربية، وتدريجيا بدأ البريطانيون في تكوين قوى وحركات سياسية وطنية موالية لهم داخل الجزيرة، عبر تقديم برامج لبناء مجدها السياسي على أسسمن التفريق الإثني والعرقي بين العربي والإفريقي وهو ما أدى إلى إذكاء حدة التفرقة بين العرب والأفارقة، وعمل الانجليز على تحجيم التواصل العربي الإسلامي مع شرق ووسط إفريقيا بوسائل إدارية كما يتبين من تلك الإجراءات المعقدة والمطولة في وجه الراغبين في السفر من مواطني غرب إفريقيا إلى دول شرق ووسط إفريقيا..
وانتهج المستعمرون والمبشرون الخبثاء وأعوانهم سياسة منظمة ومستمرة إزاء العرب " المسيطرين على الاقتصاد والتجارة " دأبت على بث الكراهية والتشويه المتعمد لصورتهم، وإثارة الأهالي الأفارقة ضدهم على اعتبار أن أولئك العرب هم الذين باعوا الأفارقة كعبيد للمستعمرين البريطانيين والفرنسيين " وصبر البريطانيون طويلا وزرعوا كثيرا، وكان لا بد أن يثمر الزرع الذي زرعوه"