تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : اضواء من بعيد



عزام
03-11-2008, 01:05 PM
أصل هذا الكتيب رسالة بعث بها سيد قطب رحمه الله تعالى الى اخته امينة قطب، وكانت مجلة الفكرة التونسية قد نشرتها فى عددها السادس من السنة الرابعة – اذار – مارس – 1959 م. بعنوان اضواء من بعيد. ولما كثر الطلب على هذه الرسالة، قمنا بنشرها، راجين القبول من الله عز وجل. (الناشر)
اختى الحبيبة....... هذه الخواطر مهداة اليك....
1- إن فكرة الموت ما تزال تخيل لك، فتتصورينه فى كل مكان، ووراء كل شىء وتحسبينه قوة طاغية تُظل الحياة والاحياء، وتَرين الحياة بجانبه ضئيلة واجفة مذعورة. إننى أنظر اللحظة فلا أراه إلا قوة ضئيلة حسيرة بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة، وما يكاد يصنع شيئاً إلا أن يلتقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!....... مد الحياة الزاخر هو ذا يعج من حولى!.... كل شىء إلى نماء وتدفق وازدهار..... الامهات تحمل وتضع، الناس والحيوان سواء الطيور والاسماك والحشرات تدفع بالبيض المتفتح عن احياء وحياة... الارض تنفجر بالنبت المتفتح عن ازهار واثمار, السماء تتدفق بالمطر، والبحار تعج بالامواج... كل شىء ينمو على هذه الارض ويزداد.....! بين الحين والحين يندفع الموت فينهش نهشة ويمضى، او يقبع حتى يلتقط بعض الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات!.... والحياة ماضية فى طريقها، حية متدفقة فوارة، لا تكاد تحس بالموت او تراه!.... لقد تصرخ مرة من الالم، حين ينهش الموت من جسمها نهشة، ولكن الجرح سرعان ما يندمل، صرخة الألم سرعان ما تستحيل مراحا...... ويندفع الناس والحيوان، والطير والاسماك، الدود والحشرات، العنب والاشجار، تغمر وجه الارض بالحياة والاحياء!...... والموت قابع هنالك ينهش نهشة ويمضى...... أو يسقط الفتات الساقط من مائدة الحياة ليقتات! الشمس تطلع، والشمس تغرب، والارض من حولها تدور، والحياة تنبثق من هنا ومن هناك...... كل شىء الى نماء.... نماء فى العدد والنوع، نماء فى الكم والكيف..... لو كان الموت يصنع شيئا لوقف مد الحياة!.... ولكنه قوة ضئيلة حسيرة، بجانب قوى الحياة الزاخرة الطافرة الغامرة.......! من قوة الله الحى .....تنبثق الحياة وتنداح !!..
2- عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة، تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهى بانتهاء عمرنا المحدود! أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة، تبدأ من حيث بدأت الانسانية، وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الارض! إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي فى هذه الحالة، نربحها حقيقة لا وهما، فَتَصوُّر الحياة على هذا النحو، يضاعف شعورنا بايامنا وساعاتنا ولحظاتنا وليست الحياة بعدّ السنين، ولكنها بعدّ المشاعر، وما يسميه (الواقعيون) فى هذه الحالة (وهما) هو فى الواقع (حقيقة) أصح من كل حقائقهم! لأن الحياة ليست شيئا آخر غير شعور الانسان بالحياة، جرّد أي انسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها فى معناها الحقيقى! ومتى أحس الانسان شعورا مضاعفا بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلا..... يبدو لى ان المسألة من البداهة بحيث لا يحتاج الى جدال!..... إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، بقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين، نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها فى النهاية!...
3- بذرة الشر تهيج، ولكن بذرة الخير تثمر، إن الاولى ترتفع فى الفضاء سريعا ولكن جذورها فى التربة قريبة، حتى لتحجب عن شجر الخير النور والهواء ولكن شجر الخير تظل فى نموها البطىء، لان عمق جذورها فى التربة يعوضها عن الدفء والهواء.... مع اننا حين نتجاوز المظهر المزور البراق لشجرة الشر، نفحص عن قوتها الحقيقية وصلابتها، تبدو لنا واهنة هشة نافشة فى غير صلابة حقيقية على حين تصبر شجرة الخير على البلاء وتتماسك للعاصفة، وتظل فى نموها الهادىء البطىء، لاتحفل بما ترجمها به شجرة الشر من اقذاء واشواك ....
4- عندما نلمس الجانب الطيب فى نفوس الناس نجد ان هناك خيرا كثيرا قد لا تراه العيون اول وهلة... لقد جربت ذلك... جربته مع الكثيرين حتى الذين يبدون فى اول الامر انهم شريرون او فقراء الشعور.. شىء من العطف على اخطائهم وحماقاتهم، شىء من الود الحقيقى لهم، شىء من العناية غير المصطنعة –باهتماماتهم وهمومهم– ثم ينكشف لك نبع الخير فى نفوسهم، حتى يمنحونك حبهم ومودتهم وثقتهم، فى مقابل القليل الذى اعطيتهم اياه من نفسك، متى اعطيتهم إياه فى صدق وصفاء واخلاص . ان الشر ليس عميقا فى النفس الانسانية الى الحد الذى نتصوره احيانا، انه فى تلك القشرة الصلبة التى يواجهونها كفاح الحياة للبقاء فإذا أمِنُوا تكشفت لهم تلك القشرة الصلبة عن ثمرة حلوة شهية.... هذه الثمرة الحلوة انما تتكشف لمن يستطيع ان يشعر الناس بالامن من جانبه، بالثقة فى مودته، بالعطف الحقيقى على كفاحهم وآلامهم وعلى أخطائهم وعلى حماقاتهم كذلك..... وشىء من سعة الصدر فى اول الامر كفيل بتحقيق ذلك كله، أقرب مما يتوقع الكثيرون لقد جربت ذلك جربته بنفسى فلست اطلقها مجرد كلمات مجنحة وليدة أحلام وأهام...
5- عندما تنمو فى نفوسنا بذور الحب والعطف والخير نعفى انفسنا من اعباء ومشقات كثيرة إننا لن نكون فى حاجة الى ان نتملق الاخرين لاننا سنكون يومئذ صادقين مخلصين اذ نزجى اليهم الثناء اننا سنكشف فى نفوسهم عن كنوز من الخير وسنجد لهم مزايا طيبة نثنى عليها حين نثنى ونحن صادقون، ولن يعدم انسان ناحية خيّرة او مزية حسنة تؤهله لكلمة طيبة... ولكننا لا نطلع عليها ولا نراها إلا حين تنمو فى نفوسنا بذرة الخير ...
كذلك لن نكون فى حاجة لأن نحمّل انفسنا مؤونة التضايق منهم ولا حتى مؤونة الصبر على اخطائهم وحماقاتهم لاننا سنعطف على مواضع الضعف والنقص ولن نفتش عليها لنراها يوم تنمو فى نفوسنا بذرة العطف، وبطبيعة الحال لن نجشم انفسنا عناء الحقد عليهم او عبء الحذر منهم، فانما نحقد على الاخرين لان بذرة الخير لم تَنِمْ فى نفوسنا نموا كافيا ونتخوف منهم لان عنصر الثقة فى الخير ينقصنا.
كم نمنح انفسنا من الطمأنينة والراحة والسعادة، حين نمنح الاخرين عطفنا وحبنا وثقتنا، يوم تنمو فى نفوسنا بذرة الحب والعطف والخير ...
6- حين نعتزل الناس لاننا نحس اننا اطهر منهم روحا، او اطيب منهم قلبا، او ارحب منهم نفسا، او ازكى منهم عقلا، لا نكون قد صنعنا شيئا كبيرا... لقد اخترنا لانفسنا ايسر السبل واقلها مؤونة!! ان العظمة الحقيقية ان نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة و العطف على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروح الرغبة الحقيقية فى تطهيرهم ورفعهم الى مستوانا بقدر ما نستطيع! انه ليس معنى هذا ان نتخلى عن افاقنا العليا ومثلنا السامية او ان نتملق هؤلاء الناس ونثنى على رذائلهم او نشعرهم اننا اعلى منهم افقا ان التوفيق بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يتطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة الحقيقية!....
7- عندما نصل الى مستوى معين من القدرة نحس انه لا يعيبنا ان نطلب مساعدة الاخرين لنا، حتى اولئك الذين هم اقل منا قدرة و لايغض من قيمتنا ان تكون معونة الاخرين لنا قد ساعدتنا على الوصول الى ما نحن فيه اننا نحاول ان نصنع كل شىء بانفسنا، ونستنكف ان نطلب عون الاخرين لنا او ان نضم جهدهم الى جهودنا كما نستشعر الغضاضة فى ان يعرف الناس انه كان لذلك العون اثر فى صعودنا الى القمة اننا نضع هذا كله حين لا تكون ثقتنا بانفسنا كبيرة اى عندما نكون بالفعل ضعفاء فى ناحية من النواحى اما حين نكون اقوياء حقا فلن نستشعر من هذا كله شيئا ان الطفل هو الذى يحاول ان يبعد يدك التى تسنده وهو يتكفأ فى المسير !.. عندما نصل الى مستوى معين من القدرة، سنستقبل عون الاخرين لنا بروح الشكر والفرح.... الشكر لما يقدم لنا من عون.... والفرح بان هناك من يؤمن بما نؤمن به نحن فيشاركنا الجهد والتبعة ان الفرح بالتجاوب الشعورى هو الفرح المقدس الطليق ...

8- اننا نحن إن ((نحتكر)) افكارنا وعقائدنا ونغضب حين ينتحلها الاخرون لانفسهم ونجتهد فى توكيد نسبتها الينا وعدوان الاخرين عليها اننا انما نصنع ذلك كله حين لا يكون ايماننا بهذه الافكار والعقائد كبيرا حين لا تكون منبثقة من اعماقنا كما لو كانت بغير ارادة منا حين لا تكون هى ذاتها احب الينا من ذواتنا! ان الفرح الصافى هو الثمرة الطبيعية لان نرى افكارنا وعقائدنا ملكا للاخرين ونحن بعد احياء ان مجرد تصورنا لها انها ستصبح ولو بعد مفارقتنا لوجه هذه الارض زادا للاخرين وريّا ليكفى لان تفيض قلوبنا بالرضى والسعاد والاطمئنان!
التجار وحدهم هم الذين يحرصون على العلامات التجارية لبضائعهم كى لا يستغلها الاخرون ويسلبوهم حقهم فى الربح اما المفكرون واصحاب العقائد فكل سعادتهم فى ان يتقاسم الناس افكارهم وعقائدهم ويؤمنوا بها الى حد ان ينسبوها لانفسهم لا الى اصحابها الاولين.. انهم لا يعتقدون انهم اصحاب هذه الافكار والعقائد وانما هم مجرد وسطاء فى نقلها وترجمتها انهم يحسون ان النبع الذى يستمدون منه ليس من خلقهم ولا من صنع ايديهم وكل فرحهم المقدس، انما هو ثمرة اطمئنانهم الى انهم على اتصال بهذا النبع الاصيل!
9- الفرق بعيد.. جدا بعيد.. بين أن نفهم الحقائق، وأن ندرك الحقائق.. إن الأولى: العلم .. والثانية هي: المعرفة!..
في الأولى: نحن نتعامل مع ألفاظ ومعان مجردة.. أو مع تجارب ونتائج جزئية..
وفي الثانية: نحن نتعامل مع استجابات حية، ومدركات كلية…
في الأولى: ترد إلينا المعلومات من خارج ذواتنا، ثم تبقى في عقولنا متحيزة متميزة…
وفي الثانية: تنبثق الحقائق من أعماقنا يجري فيها الدم الذي يجري في عروقنا وأوشاجنا، ويتسق مع نبضنا الذاتي!..
في الأولى: توجد ((الخانات)) والعناوين: خانة العلم، وتحتها عنواناته وهي شتى. خانة الدين وتحتها عنوانات فصوله وأبوابه.. وخانة الفن وتحتها عنوانات منهاجه واتجاهاته!..
وفي الثانية: توجد الطاقة الواحدة، المتصلة بالطاقة الكونية الكبرى.. ويوجد الجدول السارب، الواصل إلى النبع الأصيل!..
10- نحن في حاجه ملحة إلى المتخصصين في كل فرع من فروع المعارف الإنسانية أولئك الذين يتخذون من معاملهم ومكاتبهم صوامع وأديرة! ويهبون حياتهم للفرع الذي تخصصوا فيه، لابشعور التضحية فحسب، بل بشعور اللذة كذلك! شعور العابد الذي يهب روحه لإلهه وهو فرحان! ولكننا مع هذا يجب أن ندرك أن هؤلاء ليسوا هم الذين يوجهون الحياة، أو يختارون للبشرية الطريق! إن الرواد كانو دائماً، وسيكونون هم أصحاب الطاقات الروحية الفائقة هؤلاء هم الذين يحملون الشعلة المقدسة التي تنصهر في حرارتها كل ذرات المعارف، وتنكشف في ضوئها طريق الرحلة، مزودة بكل هذه الجزيئات قوية بهذا الزاد، وهي تغذ السير نحو الهدف السامي البعيد! هؤلاء الرواد الذين يدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة، المتعددة المظاهر في العلم، والفن، والعقيدة، والعمل، فلا يحقرون واحداً منها ولا يرفعونه فوق مستواه!.. الصغار وحدهم، هم الذين يعتقدون أن هناك تعارضاً بين هذه القوى المتنوعة المظاهر، فيحاربون العلم باسم الدين، أو الدين باسم العلم..
ويحتقرون الفن باسم العمل، أو الحيوية الدافعة باسم العقيدة المتصوفة!.. ذلك أنهم يدركون كل قوة من هذه القوى، منعزلة عن مجموعة من القوى الأخرى الصادرة كلها من النبع الواحد وتلك القوة الكبرى المسيطرة على هذا الوجود ((الصواب أن يقال: من ذي القوة الكبرى المسيطر، لأن الله ذات موصوفة وليس صفة سبحانه وتعالى))- الناشر
ولكن الرواد الكبار يدركون تلك الوحدة لانهم متصلون بذلك النبع الأصيل، ومنه يستمدون!... انهم قليلون... قليلون في تاريخ البشرية... بل نادرون! ولكن منهم الكفاية... فالقوة المشرفة على هذا الكون، هي التي تصوغهم وتبعث بهم في الوقت المقدر المطلوب!... ((الصواب أن يقال فالقوي المدبر لهذا الكون))– الناشر

11- الاستسلام المطلق للاعتقاد في الخوارق والقوى المجهولة خطر، لأنه يقود إلى الخرافة.. ويحول الحياة إلى وهم كبير!.. ولكن التنكر المطلق لهذا الاعتقاد ليس أقل خطرا: لأنه يغلق منافذ المجهول كله، وينكر كل قوة غير منظورة لا لشيء إلا لأنها قد تكون أكبر من إدراكنا البشري في فترة من فترات حياتنا! وبذلك يصغر من هذا الوجود –مساحة وطاقة، قيمة كذلك، ويحده بحدود ((المعلوم)) وهو إلى هذه اللحظة حين يقاس إلى عظمة الكون– ضئيل.. جدا ضئيل!..
إن حياة الإنسان على هذه الأرض سلسلة من العجز عن إدراك القوى الكونية أو سلسلة من القدرة على إدراك هذه القوى، كلما شب عن الطوق وخطا خطوة إلى الأمام في طريقه الطويل! إن قدرة الإنسان في وقت بعد وقت على إدراك إحدى قوى الكون التي كانت مجهولة له منذ لحظة وكانت فوق إدراكه في وقت ما.. لكفيلة بأن تفتح بصيرته على أن هناك قوى أخرى لم يدركها بعد لأنه لا يزال في دور التجريب!.
إن احترام العقل البشري ذاته لخليق بأن نحسب للمجهول حسابه في حياتنا لا لنكل إليه أمورنا كما يصنع المتعلقون بالوهم والخرافة، ولكن لكي نحس عظمة هذا الكون على حقيقتها ولكي نعرف لأنفسنا قدرها في كيان هذا الكون العريض. وإن هذا لخليق بأن يفتح للروح الإنسانية قوى كثيرة للمعرفة وللشعور بالوشائج التي تربطنا بالكون من داخلنا وهي بلا شك أكبر وأعمق من كل ما أدركناه بعقولنا حتى اليوم بدليل أننا ما نزال نكشف في كل يوم عن مجهول جديد؛ وأننا لا نزال بعد نعيش!.
12- من الناس في هذا الزمان من يرى في الاعتراف بعظمة الله المطلقة غضا من قيمة الإنسان و إصغارا لشأنه في الوجود: كأنما الله والإنسان ندان يتنافسان على العظمة والقوة وهذا الوجود!. أنا أحس أنه كلما ازددنا شعورا بعظمة الله المطلقة زدنا نحن أنفسنا عظمة لأننا من صنع إله عظيم!. إن هؤلاء الذين يحسبون أنهم يرفعون أنفسهم حين يخفضون في وهمهم إلههم أو ينكرونه إنما هم المحدودون الذين لا يستطيعون أن يروا إلا الأفق الواطئ القريب!. أنهم يظنون أن الإنسان إنما لجأ إلى الله إبان ضعفه وعجزه فأما الآن فهو من القوة بحيث لا يحتاج إلى إله! كأنما الضعف يفتح البصيرة والقدرة تطمسها!. إن الإنسان لجدير بأن يزيد إحساسا بعظمة الله المطلقة كلما نمت قوته لأنه جدير بأن يدرك مصدر هذه القوة كلما زادت طاقته على الإدراك…
إن المؤمنين بعظمة الله المطلقة لا يجدون في أنفسهم ضعة ولا ضعفا، بل العكس يجدون في نفوسهم العزة والمنعة باستنادهم إلى القوة الكبرى المسيطرة على هذا الوجود إنهم يعرفون أن مجال عظمتهم إنما هو في هذه الأرض، وبين هؤلاء الناس فهي لا تصطدم بعظمة الله المطلقة في هذا الوجود إن لهم رصيدا من العظمة والعزة في إيمانهم العميق لا يجده أولئك الذين ينفخون أنفسهم ((كالبالون)) حتى ليغطي الورم المنفوخ عن عيونهم كل آفاق الوجود!.
13- أحيانا تتخفى العبودية في ثياب الحرية فتبدو انطلاقا من جميع القيود انطلاقا من العرف والتقاليد، انطلاقا من تكاليف الإنسانية في هذا الوجود!. إن هنالك فارقا أساسيا بين الانطلاق من قيود الذل والضغط والضعف، والانطلاق من قيود الإنسانية وتبعاتها إن الأولى معناها التحرر الحقيقي أما الثانية فمعناها التخلي عن المقومات التي جعلت من الإنسان إنسانا وأطلقته من قيود الحيوانية الثقيلة!.. إنها حرية مقنعة لأنها في حقيقتها خضوع وعبودية للميول الحيوانية، تلك الميول التي قضت البشرية عمرها الطويل وهي تكافحها لتخلص من قيودها الخانقة إلى جو الحرية الإنسانية الطليقة…
لماذا تخجل الإنسانية من إبداء ضروراتها؟ لأنها تحس بالفطرة أن السمو مع هذه الضروريات هو أول مقومات الإنسانية وأن الانطلاق من قيودها هو الحرية وأن التغلب على دوافع اللحم والدم وعلى مخاوف الضعف والذل كلاهما سواء في توكيد معنى الإنسانية!.
14- لست ممن يؤمنون بحكاية المبادئ المجردة عن الأشخاص لأنه ما المبدأ بغير عقيدة حارة دافعة؟ وكيف توجد العقيدة الحارة الدافعة في غير قلب انسان؟..
إن المبادئ والأفكار في ذاتها- بلا عقيدة ثابتة- مجرد كلمات خاوية أو على الأكثر معان ميتة! والذي يمنحها الحياه هي حرارة الإيمان المشعه من قلب انسان ! لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة في ذهن بارد لا في قلب مشع. آمن أنت أولاً بفكرتك، آمن بها الى حد الاعتقاد الحار! عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون!! وإلا فستبقى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة!... لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان، ولم تصبح كائناً حياً دب على وجه الأرض في صورة بشر! .. كذلك لا وجود لشخص –في هذا المجال– لا تعمر قلبه فكرة يؤمن بها في حرارة وإخلاص... إن التفريق بين الفكرة والشخص كالتفريق بين الروح والجسد أو المعنى واللفظ، عملية –في بعض الأحيان- مستحيلة، وفي بعض الأحيان تحمل معنى التحلل والفناء !..
كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب انسان! أما الأفكار التي لم تطعم هذا الغذاء المقدس فقد ولدت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام!..
15- من الصعب على أن أتصور كيف يمكن أن نصل إلى غاية نبيلة باستخدام وسيله خسيسة!؟ إن الغاية النبيلة لا تحيا إلا في قلب نبيل: فكيف يمكن لذلك القلب أن يطيق استخدام وسيله خسيسة؟ بل كيف يهتدي إلى استخدام هذه الوسيلة!؟ حين نخوض إلى الشط الممرع بركة من الوحل لابد أن نصل إلى شط ملوثين... إن أوحال الطريق ستترك آثارها على أقدامنا وعلى موضع هذه الأقدام، كذلك الحال حين نستخدم وسيلة خيسية: إن الدنس سيعلق بأرواحنا، وسيترك آثاره في هذه الأرواح، وفي الغابة التي وصلنا إليها!.. إن الوسيلة في حساب الروح جزء من الغاية. ففي عالم الروح لاتوجد هذه الفوارق والتقسيمات! الشعور الانساني وحده إذا أحس غاية نبيلة فلن يطيق استخدام وسيلة خسيسة... بل لن يهتدي إلى استخدامها يطييعته! ((الغاية تبرر الوسيلة!؟؟)): تلك هي حكمة الغرب الكبرى!! لأن الغرب يحيا بذهنه وفي الذهن يمكن أن توجد التقسيمات و الفوارق بين الوسائل والغايات!
16- بالتجربة عرفت أنه لا شيء في هذه الحياة يعدل ذلك الفرح الروحي الشفيف الذي نجده عندما نستطيع أن ندخل العزاء أو الرضى، الثقة أو الأمل أو الفرح إلى نفوس الآخرين!... انها لذة سماوية عجيبة ليست فى شىء من هذه الارض، انها تجاوب العنصر السماوي الخالص فى طبيعتنا، انها لا تطلب لها جزاءً خارجيا، لان جزاءها كامن فيها. هناك مسألة اخرى يقحهما بعض الناس فى هذا المجال وليست منه فى شىء، مسألة اعتراف الاخرين بالجميل. لن احاول انكار ما فى هذا الاعتراف من جمال ذاتى ولا ما فيه من مسرة عظيمة للواهبين، ولكن هذا كله شىء اخر، ان المسألة هنا مسألة الفرح بان الخير يجد له صدى ظاهريا قربيا فى نفوس الاخرين، هذا الفرح قيمته من غير تلك لانه ليس من طبيعة ذلك الفرح الاخر الذى نحسه مجردا فى ذات اللحظة التى نستطيع ان ندخل فيها العزاء او الرضى، الثقة او الامل او الفرح فى نفوس الاخرين! ان هذا لهو الفرح النقى الخالص الذى ينبع من نفوسنا ويرتد اليها بدون حاجة الى عناصر خارجية عن ذواتنا، انه يحمل جزاءه كاملا لان جزاءه كامن فيه.
17- لم اعد افزع من الموت حتى لو جاء اللحظة، لقد اخذت فى هذه الحياة كثيرا، اعنى لقد اعطيت!! احيانا تصعب التفرقة بين الاخذ والعطاء لانهما يعطيان مدلولا واحدا فى عالم الروح! فى كل مرة اعطيت لقد اخذت، لست اعنى ان احدا قد اعطى لى شيئا، انما اعنى اننى اخذت نفس الذى اعطيت لان فرحتى بما اعطيت لم تكن اقل من فرحة الذين اخذوا.
لم اعد افزع من الموت حتى لو جاء اللحظة، لقد عملت بقدر ما كنت مستطيعا ان اعمل، هناك اشياء كثيرة اود ان اعملها لو مد لى فى الحياة، و لكن الحسرة لن تأكل قلبى اذا لم استطع، إن اخرين سوف يقومون بها، انها لن تموت اذا كانت صالحة للبقاء، فانا مطمئن الى ان العناية التى تلحظ هذا الوجود لن تدع فكرة صالحة تموت... لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة! لقد حاولت ان اكون خّيرا بقدر ما استطيع، اما اخطائى وغلطاتى فانا نادم عليها! إنى أَكِلُ أمرها الى الله وارجو رحمته وعفوه اما عقابه فلست قلقا من اجله، فانا مطمئن الى انه عقاب حق وجزاء عدل، وقد تعودت ان احتمل تبعة اعمالى خيرا كانت او شرا... فليس يسوءنى أن ألقى جزاء ما أخطأت حين يقوم الحساب.

من هناك
03-11-2008, 05:28 PM
فعلاً القراءة سهلة إذا كانت الحروف واضحة