تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : النظام والعقيدة من خلال القرآن الكريم



عزام
02-21-2008, 07:57 PM
النظام والعقيدة (محمد قطب)

في فترة الرسالة النبوية الشريفة كانت النقلة الأولى نقلة العقيدة . . من الأربابالمتفرقة إلى لا إله إلا الله . . والنقلة الثانية كانت من فترة الابتلاء والتمحيص، من فترة "الاستضعاف والتشريد" إلى التمكين في الأرض والاستخلاف. وكما كان القرآن - وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم - هو أداة النقلة الأولى من الكفر إلى الإيمان،فكذلك كان هو أداة النقل الثانية إلى التمكين والاستخلاف . . فكيف كان الكتاب هو الموجه والمربي في فترة التمكين؟ وفي أي الموضوعات كان يتحدث القران؟ تتحدث السور المدنية عن العقيدة كما أشرنا من قبل. ولكن حديث العقيدة هنا لا يأخذ المساحة التي كانيأخذها في السور المكية لأنه هناك كان للتأسيس وهو هنا للتذكير. لقد تأسست العقيدة بالفعل في فترة التربية العقيدية في مكة، واليوم يقوم مجتمع مسلم ودولة مسلمة في المدينة، تحتاج إلى تنظيمات وتشريعات وتحتاج إلى جهاد لحمايتها من أعدائها بادئ ذي بدء تم لنشر الإسلام في الأرض فيما بعد. ومن ثم يحتل هذان الموضوعان الجديدان معظم المساحة في السور المدنية: التنظيمات والتشريعات، والجهاد في سبيل الله. و ولكن الذي يسترعي النظر أن حديث العقيدة لم ينقطع ليبدأ الحديث عن هذين الموضوعين. بل استمر على ذات النمط المكي -وإن كان في حيز أقل - فتحدث عن الألوهية واليوم الاخر، والملائكة والكتاب والنبيين والقدر خيره وشره، وقصص الأنبياء، وقصة آدم والشيطان، وأخلاقيات لا إله إلا الله. وتحدث في كل واحد منهذه الموضوعات عن مفرداته جميعا كما كان يتحدث القران في مكة. فتحدث في الألوهية عن الكون بضخامته المعجزة ودقته المعجزة، وعن الموت والحياة، وعن حدوث الأحداث وجريانها، وعن الضعف البشري في مقابل القدرة التي لا يعجزها شيء، وعن علم الغيب. وتحدث في اليوم الآخر عن البعث والحساب والثواب والعقاب . . . الخ. . الخ . . كما أن هناك ما يسترعي النظر أكثر من ذلك: أن الموضوعين الجديدين اللذين استغرقا أكبر مساحة من السور المدنية، وهما التشربعات والتنظيمات، والجهاد في سبيل الله، لم يعالجا كموضوعين قائمين بذاتهما. وإنما عولجا من خلال العقيدة، وانبثاقا منها. وهذا هو العنصر الأهم في الموضوع كله! فليس في هذا الدين عقيدة منفصلة وتشريعات وتنظيمات منفصلة ولا عبادات منفصلة ومعاملات منفصلة وإنما كله وحدة، وكله " عبادة " بالمعنى الشامل للعبادة ، الذي تتضمنه الاية : "وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون " وتفسره الاية : " قل : إن صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي لله رب العالمين". وقد يكون اتصال الجهاد في سبيل الله بالعقيدة أمرا طبيعيا في حس كثير من الناس لا يسترعي الانتباه. ولكن اتصال التشريعات والتنظيمات بالعقيدة، بل انبثاقها منها، هو الذي يسترعي الانتباه حقا ويحتاج إلى شيء من البيان. لقد درجنا في أيامنا الأخيرة - وبسبب العدوى الوافدة إلينا من الغرب - أن نتحدث عن الإسلام كنظام. نظام سياسي واقتصادي واجتماعي . . الخ. ولا شك أن في الإسلام تنظيمات سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وأخلاقية .. الخ. ولكن الحديث عن أي تنظيم أو نظام إسلامي بمعزل عن العقيدة مما يفقده روحه، ويحوله - كأي نظام اخر - إلى نظام تقوم عليه " الدولة " وتحرسه تنظيماتها ولا زيادة! وليس الأمر كذلك في الإسلام!حقيقة إن النظام الإسلامية السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية . . الخ . متميزة في ذاتها . لأنها من صنع الله. فهي خالية من عيوب القصور البشري، والهوى البشري، والنظرة البشرية الجزئية، التي ترى شيئا وتغفل عن أشياء وترى مصلحة الجيل الواحد ولا ترى مصلحة كل الأجيال، بل ترى زاوية واحدة من الشيء الواحد ولا ترى الزوايا كلها مجتمعة في آن . . ولكن هذه المزية - على ضخامتها - ليست المزية الوحيدة في النظام الإسلامي . .. .
والوقوف عندها ، تفكيرا أو تنفيذا ، يفقد النظام أهم خصائصها وهي قيامه عى العقيدة وانبثاقه منها . . ولتقدير أهمية هذا إلأمر الذي فقد أهميته في نظر كثير من المثقفين المحدثين بسبب تلك العدوى الوافدة من الغرب. نضرب أولا مثالا من الحاضر الغربي مقارنا بالواقع الإسلامي ثم نشير إلى حقيقة تاريخية هامة ذات دلالة لا ينبغي أن تغيب عن الأذهان . . فأما المثال من الحاضر فهو مسألة الخمر . . ففي أمريكا قانون يمنع السكر. وهو لا يمنع شرب الخمر ولكنه يمنع السكر فقط! ولا يمنعه انطلاقا من "روح إنسانية " تقدس قيمة الكيان البشري والمكانة الرفيعة التي خلقه الله عليها لكي يقوم بمهمة الخلافة الراشدة في الأرض مما يتنافى مع حالة الخدر و "الهروب" التي يسعى الشاربون إلى الوصول إليها . . كلا ! إنما يمنعه لأسباب مادية اقتصادية بحتة! فالسكر يؤدي إلى زيادة حوادث الطريق فيعطل الإنتاج ! ! ويحدث خسائر اقتصادية !! أيا يكن الأمر فهناك "قانون " يمنع السكر ! وهناك " توعية " مستمرة ضد هذه الجريمة! وهناك " عقوبة " على ارتكابها! فماذا كانت النتيجة ؟! فلنسألهم هم .. فإن تقاريرهم السنوية تجيب! إن جر يمة السكر اخذة في الازدياد المستمر، رغم وجود القانون والتوعية والعقوبة! أما في الإسلام فقد حدث شيء اخر . . حين نزلت اية التحريم: " يا ايها الذين آمنوا !نما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون؟". أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي في طرقات المدينة: أيها الناس! ألا إن الخمر قد حرمت ! فقط !.. هذا هو كل الإجراء الذي تم ! فماذا كانت النتيجة؟! كانت النتيجة أن من كان في بيته زق أو دن من الخمر أراقه . . دونما شرطة ولا تحقيق ولا محاكمة! بل أكثر من ذلك ، وأعجب من ذلك .. أن من كان فى فمه شربة من الخمر أراقها! ولم يقل لنفسه: أشرب هذه لأنها في فمي بالفعل، تم امتنع بعد ذلك! ذلك أن الله هو الذي حرم الخمر، وهو يتعامل مع الله! وذلك هو الفارق بين النظام الذي يقوم على العقيدة وينبثق منها، والنظام الذي تقوم عليه "الدولة"وتحرسه تنظيماتها. وفي الإسلام دولة تقوم على النظام، وتشريع يحرسه . . ولكن ذلك ليس هو الإجراء الأول بل هو الإجراء الأخير: "يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" . . فالوازع الأول هو ا لقرآن، والوازع الأخير هو السلطان! تلك شهادة الحاضر الغربي مقارنا بالواقع الإسلامي، وهي غنية عن البيان .. أما شهادة التاربخ، ذات الدلالة الهامة فهي أن الإسلام قد بقي حتى اليوم في الأرض لأنه عقيدة ونظام قائم على عقيدة، وليس لمجرد أنه نظام! لو أنه مجرد نظام لتفتت بمجرد أن تفتت " الدولة " أو بالكثير حين ألغيت الدولة! ولكنه باق حتى اليوم، ينبعث في حركات بعث متتالية متواصلة، لأنه عقيدة لا لأنه نظام . . أو لأنه عقيدة ينبثق منها نظام .. وقد حاول أعداؤه في الحروب الصليبية الأولى أن يحطموه كنظام، أو كدولة حامية للنظام . . ولكنهم أدركوا أنهم فشلوا . . فعادوا في الحروب الصليبية الحديثة يحاولون أن يحطموه كعقيدة، ليضمنوا ألا تقوم الدولة ولا يقوم النظام . . ومن بين حربهم له كعقيدة أن يقولوا للمسلمين "المثقفين" منهم بصفة خاصة - إن العقيدة لم يعد لها اعتبار في هذا العصر الذي نعيش فيه! وإن المهم ليس هو العقيدة انما هو النظام! فإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إن الديمقراطية ليست نظاما فحسب وانما هي عقيدة وإن الشيوعية ليست نظاما فحسب وإنما هي عقيدة أو "فلسفة " كما يقولون! يحاولون أن يسندوا نظمهم الجاهلية بشيء يشبه العقيدة . . فإذا تحدثوا عن الإسلام أهملوا العقيدة وتحدثوا عن النظام . . ثم قالوا إن النظام الإسلامي غير قابل للتطبيق في القرن العشرين.
انها الحرب بكل وسائل الحرب . . ولن ننتظر من الأعداء غير الحرب .. والله هو الذي يقول "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم . . " " ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا . . " إنما نحن ينبغي أن نعرف ديننا على حقيقته، ولا نتلقى حقائق ديننا من أعداء هذا الدين! إن العقيدة في هذا الدين هي الدافع لكل شيء فيه: "هي الدافع لإقامة " النظام" بكل مزاياه الربانية التي لا توجد في أنظمة البشر ومناهجهم. وهي الدافع لحماية هذا النظام الرباني من أعدائه الذين لا يرغبون في رؤيته قائما في الأرض. وهي الدافع لنشر الدعوة، وللجهاد لكي تكون كلمة الله هي العليا في كل الأرض. وهي الدافع للتخلق بالأخلاق الربانية الني ينبغي أن يكون عليها المسلم. وهي الدافع للتعلم. وهي الدافع لعمارة الأرض على الطريقة الربانية المستنيرة الراشدة، التي تنشئ حضارة "إنسانية " شاملة، لا مادية ولا حيوانية ولا آلية متجردة عن الإنسانية . . وحين تضعف العقيده أو تنهار . . ينهار هذا كله . . وحين تكون العقيدة قوية فإنها هي تنشئ هذا كله .. كما حدث في الأمة المسلمة الأولى، التي لم تكن من قبل أمة علم ولا حضارة ولا نظام، فدفعها الإسلام إلى إنشاء أكبر حركة علمية وقتئذ، وما زال تراثها - وهو المنهج التجريبي - هو الذي تقوم عليه الحركة العلمية اليوم. وإنشاء أكبر حركة حضارية وقتئذ، تبدو إلى جوارها الحضارة المادية الجاهلية المعاصرة الخاوية من الروح نكسة بشرية تعمل حثيثا على تدمير مقومات "الإنسان"، كما أنشأت تلك الأمة دولة نظامية مترامية الأطراف تحكم كلها بشريعة الله على مستوى الدولة " الأم " لا كما تصنع الامبراطوريات، تخص نفسها بتشريعات لا تنفذها في بقية " المستعمرات " .. لذلك يحرص القرآن على ترسيخ هذه العقيدة وتقويتها، وجعل عمل التنظيمات والتشريعات والتوجيهات مرتبطة بها ومنبثقة عنها، بقدر ما يحرص أعداء الإسلام على قتل هذه العقيدة وطمس معالمها!
في السور المدنية نجد ربطا كاملا بين " العقيدة " و " الشريعة " يلفت النظر إليه لفتا مباشرا كما تحطه الإشارات والتلميحات . . يلفت النظر إليه لفتا مباشرا في مثل قوله تعالى : "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" وقوله تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما" وقوله تعالى: "ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا، ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق يأتوا اليه مذعنين! أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ؟! بل أولئك هم الظالمون. انما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا : سمعنا وأطعنا. وأولئك هم المفلحون". ومفهوم هذه الآيات كلها أن المدلول الحقيقي للإيمان هو التحاكم إلى شريعة الله. وأن الإدعاء بالإيمان مع رفض التحاكم إلى شريعة الله أو عدم التسليم لها في داخل النفس هو ادعاء كاذب مردود على أصحابه. فالمحك الحقيقي للإيمان هو تحكيم الشريعة والتحاكم إليها وبغير ذلك فهي دعوى كاذبة لا يؤخذ بها في الأرض ولا يؤخذ بها في السماء." وأما الإشارات والإيحاء ات فر بما كان أبرزها الآية الثالثة من سورة المائدة، فقد نزلت أول مرة على هذه الصورة : "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم.وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق... فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم". وكلها كما هو واضح تشريعات بشأن ما يحل وما يحرم من اللحوم، مع بيان حكم المضطر من شدة الجوع .. ثم نزلت بعرفات في حجة الوداع تكملة الاية: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون. أليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا". ولكن الذي يلفت النظر أن التكملة لم توضع في نهاية الآية بعد ما كان نزل منها من قبل، بل فى وسطها "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق. اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون. اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا. فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم". ووضع التكملة على هذه الصورة ذو دلالة واضحة . . هي صلة هذا الدين الذي أكمل، والنعمة التي أتمت، والإسلام الذي رضيه الله دينا للمسلمين . . صلةذلك كله بالشريعة وأحكامها، بحيث يوحى السياق أن الشريعة وأحكامها في هذا الدين، وهذه النعمة، وذلك الإسلام! وثمت مثال اخر من سورة البقرة ذو دلالة مماثلة: في الاية 226 يتحدث السياق بصورة متصلة عن الطلاق وأحكامه: "للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم . .. "ويستمر السياق في ذكر أحكام الطلاق حتى الآية 237: "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم، إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، وأن تعفوا أقرب للتقوى. ولا تنسوا الفضل بينكم، إن الله بما تعملون بصير". وفجأة . . قبل أن تنتهي أحكام الطلاق تأتي هاتان الآيتان 238 239 "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين. فإن خفتم فرجالا أو ركبانا، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون". ثم يعود السياق بعدها مباشرة إلى إكمال أحكام الطلاق: "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم، متاعا إلى الحول غير إخراج، فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف. والله عزيز حكيم. وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين. كذلك يبين الله لكم أياته لعلكم تعقلون". ولا يمكن أن يمر الإنسان بالسياق على هذا النحو دون أن يقف ليتفكر في دلالة هذا الحديث عن الصلاة في وسط أحكام الطلاق، وما بقي إلا ثلاث آيات فقط وينتهي الحديث المتصل عن الطلاق الذي استغرق خمس عشرة آية .. إن هناك قصدا ولا شك من وضع هاتين الآيتين في وسط تلك الآيات . . إنه إيحاء بأن هذا الدين لا فاصل فيه ببن الشريعة والشعيرة .. كلاهما سواء .. كلاهما من "هذا الدين"‍‍‍!‍‍‍‌‌