تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟



عزام
02-16-2008, 04:28 PM
مقال اعجبتني نصائحه.. ارجو ان انجح في تطبيقها

عزام
هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟

الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضل فلا هادي له، له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه ، وله الحمد على كل حال ، وفي كل آنٍ ، وله الحمد ملء السماوات والأرض ، وملء ما بينهما ، وملء ما شاء من شيء بعد ، وله الحمد كما نقول ، وخيراً مما نقول ، وله الحمد كما يقول حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، كما يليق بجلاله ، وعظيم سلطانه سبحانه وتعالى .
ونصلي ونسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين سيد الأولين والآخرين ، نبينا وحبيبنا محمد بن عبدالله الصادق الوعد الأمين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين .

أما بعد أيها الأخوة الكرام :
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ...
ونحمد الله جل وعلا أن جدد اللقاء في هذا اليوم المبارك ، وفي رحاب بيت من بيوته تحفنا - بإذن الله عز وجل - الملائكة ، وتتغشانا الرحمة ، وتتنزل علينا السكينة ؛ إذ نذكر الله جل وعلا ، ونذكر هدي وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وهذا لقاءنا نع الدرس الثاني والثلاثين بعد المائة ينعقد في اليوم السابع من شهر الله المحرم عام سبعة عشر وأربعمائة وألف للهجرة ، وعنوان هذا الدرس ( هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟ ) .

وهو أمر نعرج فيه أو موضوع نعرج فيه على كثير من الممارسات والمقالات التي لا تنسجم مع كمال العقل وحصافة الرأي ؛ وبالتالي قبل ذلك أيضاً لا تتفق مع شرع الله عز وجل .
فإن العقل الكامل التام ليس الـذي هـو يميز الأمور أو يعرف الظواهر وإنما كما سنذكر له ملامح أعظم وأدق ، ونرى أن كثيراً من الممارسات تخالف مثل هذا المعنى ، فنستعين الله جل وعلا ، ونسأله التوفيق والسداد ، وأن يجعل في مجلسنا هذا النفع والفائدة ، وأن يكتب لنا فيه الأجر والمثوبة .

وسنبدأ في : معنى العقل .
ثم : وقفة بين العقل والهوى .
وثالثة : مع ملامح العقلاء .
ورابعة : نستطرد فيها في صور شتى ..

نسأل أنفسنا عند كل صورة منها : هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟
حتى ندرك أن من التصرفات التي يمارسها بعض العقلاء ما يدل على أنهم غير عقلاء .

العقل في المعنى اللغوي يأتي بمعنى : الحجر ، ويأتي أيضاً ويطلق عليه: النهى ، ومعناه مرتبط بالكبح والضبط ؛ لأننا نعرف عقال البعير الذي يربطه ويضبطه ويقعده عن انطلاقته التي لا يريدها صاحبه ، ونعرف أيضاً الاعتقال ، فيقولون فلان معتقل . أي حبس وحدت حركته ونشاطه الذي تجـاوز فيه الحـد على غيره، أو أسـاء فيه إلى الناس ،أو أرتكب الجرم الذي استحق به أن يعقل ،وأن يعتقل ،أي أن يضبط وأن يحبس .

فالعقل في الحقيقة مضاد للهوى ، ومانع من الردى ، وكابح لشهوات النفس المردية ، ومدبر لتصرفات الإنسان ، وضابط لألفاظه وكلماته ، وهو الذي في جملة الأمر يحبه عن ما يضره ، ويكبح جماحه ،عما فيه مساءة لغيره ،وعاقبة سيئة له .

ولذلك لو تأملنا الاستعمالات اللغوية للمادة الثلاثية لكلمة العقل وهي "عقل" لوجدنا أنها تدور في هذه الدائرة وهي دائرة الحبس والمنع مما يضر .
ومن هذا المنطلق ننطلق إلى النقطة الثانية وهي بين العقل والهوى : فإن الهوى يهوي بصاحبه فهو انطلاق وجريان كجريان الهوى والريح ، يحتاج إلى عقل يضبطه ؛ ومن ثم فإن هناك نزاعاً بين العقل والهوى في حكم الإنسان ، وكأن هناك منافسة على السلطة في كيان الإنسان بين العقل وبين الهوى .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في فوائده " إذا خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة إليه " .
فالعقل إذا لم يكن تحت حكم الهوى رجع هو الذي يضبط الأمور ويسوس التصرفات والأفعال .
ولذلك يقول ابن القيم في روضة المحبين " إذا كانت الدولة للعقل سالمه الهوى وكان من خدمه وأتباعه كما أن الدولة إذا كانت للهوى صار العقل أسيراً في يديه محكوماً عليه فمن تسلط عليه هواه غاب عقله ومن تصرف الهوى في أفعاله وأقواله ظهر الجهل فيها وبان خفاء العقل منها " .

ولذلك يعبر ابن الجوزي في " صيد خاطره " عن الضبط الذي يكون للعقل وأنه قد يكون ضبطاً محكماً وقد يكون ضبطاً فيه ارتخاء فيمثل لذلك بمثال يقول " وما مثل الهوى إلا كسبع في عنقه سلسلة - سبع يعني أسد في عنقه سلسلة - فإن استوثق منه ضابطه كفه " أي إن أحكم مسك السلسلة كفه عن الهجوم والاعتداء والإساءة ، ثم يقول : " إن استوثق منه ضابطه كفه ، وربما لاحـت له شهواته الغالبة عليه ، فلم تقاومها السلسة فأفلت" ، وما ظنكم بهذا السبع إذا أفلت ؟ .. أي ضرر يقع منه وأي خطر يرتقب ويحذر منه ؟ قال " على أن من الناس من يكف هواه بسلسلة ، ومنهم من يكف هواه بخيط " أي بخيط خفيف مجرد أي حركة ينقطع هذا الخيط ، ويفلت الزمام من يده وهذا الذي لا يجعل للعقل حظوراً قوياً في موقف ، ولا يجعل للعقل سيطرة تامة في كل تصرف يكون ضبطه خفيفاً هيناً متميعاً ، فلا يملك إلا أن يغلبه هواه في جولة ثم ثانية ، ثم ربما استولى الهوى وتفرد بالسلطة على كيان الإنسان وتصرف في أفعاله و أقواله كما ذكرنا .

ولذلك عندما يفكر الإنسان ينظر إلى حقيقة العقل وإلى خطر الهوى ، ونجتمع في هذا إلى كلمات نفيسة ذكرها الماوردي في أدب الدنيا والدين إذ قال : " لما كان الهوى غالباً وإلى سبيل المهالك مورداً جعل العقل رقيباً مجاهداً يلاحظ عثرت غفلته ، ويدفع بادرة سطوت ويدفع خداع حيلته ؛ فإن سلطان الهوى قوي ومدخل مكره خفي " .

وهذه كلمات تدل على عمق نظر ودقة بصر ، وعلى فهم عميق وتحليل دقيق لطبيعة الإنسان وطبيعة سلوكه في الحياة ، بين فيها أن الهوى يغلب وأن غلبته تورد إلى المهالك وأن العقل ينبغي أن يكون رقيباً مجاهداً مجتهداً يلاحظ عثرة الغفلة ويدفع بادرة السطوة ويدفع خداع الحيلة ؛ لأن سلطان الهوى قوي ودخل مكره خفي .

فإذا عرفنا ذلك فلننتقل إلى النقطة الثالثة التي ننظر فيها إلى بعض ملامح العقلاء مما ورد في بعض الحكم والكلمات التي ذكرها العلماء والأدباء :
نحن نعرف العقل المعروف الذي ضد الجنون الذي يعرف فيه الإنسان أنه كذا ... والعقل الذي يدفع الإنسان إلى التعلم ويدفعه إلى ممارسة حياته وجلب المنفعة ودفع المضرة ، لكن نريد أن ننظر إلى ملامح العقل التام ، وإلى ملامح العقل الكامل الذي من رزقه فقد رزق خيراً عظيماً وفضلاً كبيراً ؛ لأن الله سبحانه وتعالى بين عظيم منزلة وفضيلة العقل ، عندما جعل خطابه والانتفاع من آياته مخصوصاً بأهل العقل كما قال عز وجل : { إنما يتذكر أولوا الألباب } وكما قال عز وجل : { وما يعقلها إلا العالمون } قالوا في معناها أنهم العقلاء .

وكذلك في تفسير قوله عز وجل : { لينذر من كان حياً } قالوا من كان عاقلاً .
وكذلك في قوله سبحانه وتعالى : { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } .
أي لمن كان له عقل فلا أجل ولا أعظم من نعمة العقل التي جعلها الله عز وجل مناط التكليف والتي نوه الله سبحانه وتعالى أن هدايته وأن آياته وأن فضله وإنعامه لا يناله إلا صاحب العقل ولذلك قال محمد بن يزيد نظماً قي تفضيل العقل فقال :-

وأفضل قسم الله للمرء عقله *** وليس من الخيرات شيئاً يقاربه
إذا كمل الرحمن للمرء عقله *** فقد كملت أخلاقه ومآربه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه *** على العقل يجري علمه وتجاربه
ومن كان غلاباً بعقل ونجدة *** فذو الجد في أمر المعيشة غالبه
فزين الفتى في الناس صحة عقله *** وإن كان محصوراً عليه مكاسبه
وشين الفتى في الناس قلة عقله *** وإن كرمت أعراقه ومناسبه
وشين الفتى في الناس قلة عقله *** وإن كرمت أعراقه ومناسبه

فإن هذا لا يفيده ولا ينفعه إن لم يكن له عقل يحسن أفعاله ، ويجمّل ألفاظه ، ويأمن به شرور العواقب بإذن الله عز وجل .

يقول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في حقيقة العقل وخلاصة تصرف العاقل : " لا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه ، والشر فتركه ومن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ما له عقل " .
حتى إذا جئنا إلى الصور نكون قد اتفقنا على هذه القواعد ؛ فإذا جئنا إلى صورة أو إلى بعض النماذج الواقعة في حياة المسلمين وجئنا بعد كل صورة لنسأل : " هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟ " .
نتذكر هذه القواعد التي ذكرها العلماء فها هو يقول وأعيد قوله مرة أخرى :
" لا يسمى عاقلاً إلا من عرف الخير فطلبه والشر فتركه ومن فعل ما يعلم أنه يضره فمثل هذا ما له من عقل " .

وقال أيضاً : " وهذا من الجهل الذي هو عمل بخلاف العلم ؛ حتى يقدم المرء على فعل ما يعلم أنه يضره وترك ما يعلم أنه ينفعه لما نفسه من البغض والمعاداة لأشخاص وأفعال وهو في هذه الحال ليس عديم اعلم والتصديق بالكلية ؛ لكنه لما في نفسه من بغض وحسد غلب موجب ذلك الموجب والنتيجة لا توجد عنه وحده بل عنه ، وعما في النفس من حب ما ينفعها ، وبغض ما يضرها فإذا حصل لها مرض بهذه الأمراض والأدواء ففسدت به أحبت ما يضرها ، وأبغضت ما ينفعها فتصير النفس كالمريض الذي يتناول ما يضره لشهوة نفسه له مع علمه أنه يضره " .

وهذا أحد المعالم التي هي أحد ملامح العقلاء وملمح آخر مهم هو أن العقلاء لا ينظرون إلى أوائل الأمور ومبادئها وإنما ينظرون إلى أواخرها وعواقبها وهنا يرجح عقل العاقل وهنا تظهر فطنة الفطن فإن الناس يشتركون في مبادئ الأمور لكن أصحاب العقول الراجحة هم الذين يتروون وينظرون إلى ما وراء الظواهر من العواقب والبواطن ولذا قال ابن الجوزي رحمه الله في ذم الهوى : " ومطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة ، ويحث إلى الميل إلى الشهوات عاجلاً ، وإن كانت سبباً للأم والأذى في العاجل ومنع اللذات في الآجل " ، والعقل - طبعاً - بخلاف ذلك هو الذي ينظر في اللذة الآخرة ، وينظر إلى عاقبة كل أمر ونهايته ، ولذلك من جميل ما قيل من حوار بين رجال من أعقل العقلاء نقل في بعض كتب الأدب هذا الحوار بين معاوية وعمرو بن العاص وكلاهما من أجلة العقلاء ومن نوادر الدهاة الأذكياء فقال معاوية لعمرو : ما بلغ من دهائك يا عمرو ؟!
قال عمرو : لم أدخل في أمر قط إلا خرجت منه . يعني لم أدخل في أمر قط وكرهته أو رأيت فيه مضرة إلا خرجت منه .
فقال معاوية : لكني لم أدخل في أمر قط فأردت الخروج منه . يعني فكر في الدخول قبل الخروج فلم يدخل ثم بعد ذلك يلتمس سبيل الخروج .
وعمرو كان ربما دخل في الأمر ولكنه أحسن التخلص ، لكن ما رأيكم في الثالث الذي يدخل في الأمر يضره ثم لا يحسن أن يخرج منه بل يبقى فيه ، هذا لا شك أنه هو أجهل الجهلاء .

ولذلك قال بعض أهل الأدب والحكمة : " ليس العاقل الذي يحتال في الأمر إذا وقع أو يحتال للأمر إذا وقع ولكنه الذي يحتال للأمر أن لا يقع " ، أي الذي يفكر ويحلل ، ويجمع المتفرقات ، ويدرس القضايا .. فيعرف الأواخر قبل الأوائل ، ويعرف المنتهى قبل المبتدى ، فيحكم أمره ، ويصوغ رأيه قبل أن يندم على تصرف يتصرفه .

ولذلك أيضاً قال القائل : " الناس حازمان وعاجز .. فأحد الحازمين الذي إذا نزل به البلاء لم ينظر به ، وتلقاه بحيلته ورأيه حتى يخرج منه - لم ينظر به أي يمكث فيه عنده كثيراً وإنما يسرع بالحيلة والتدبير حتى يخرج من المضرة والأذى - وأحزم منه العارف بالأمر إذا أقبل فيدفعه قبل وقوعه .. والعاجز من هو ؟
العاجز في تردد حائر بائر ، لا يأتمر رشدا ولا يطيع مرشدا " ؛ فهذا لا شك أنه العاجز الجاهل الأحمق الذي ينبغي أن لا يتصف بوصفه أحد يريد لنفسه النجاة ولوصفه الكمال.

قال القائل في هذا المعنى : " بصري بأعقاب الأمور كأنما تخاطبه من كل أمر عواقبه " ، كأن النهايات تخاطبه فيعرفها ويبصرها .
ولا شك أن هذا أن مع كمال العقل إشراق التقوى ، لأن الله عز وجل قال : } وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ { [ البقرة:282 ] .
وكما ورد أيضاً : ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) .

لا شك أن التقوى والبعد عن الذنوب مع العقل والتفكر هو الذي يقود الإنسان إلى بصائر الذنوب ، وكما قال بعض أهل العلم : " الفتنة إذا أدبرت عرفها كل أحد لكنها لا يعرفها إذا أقبلت إلا أهل العقل والإيمان " يعني إذا انتهت الفتنة عرف ما كان فيها من الحق والباطل ، ولذلك تقع الفتن فتختلف الآراء وتضطرب المواقف ، ويحصل لكل أحد رأي وموقف وعمل ، ثم تنجلي الأمور فكثيراً يكونون من النادمين ويقرون ، بأنهم كانوا مخطئين ، وقليلون من أهل البصائر ومن أهل الإيمان من يكونوا قد وفق لمعرفة ما وراء ذلك ، وكما قال القائل أيضاً :
بصير بأعقاب الأمور كأنما *** يرى بصواب الرأي ما هو واقع
فهذه أيضاً نقطة ثانية مهمة فيما يتعلق بعواقب الأمور وهي من ملامح العقلاء .

ومن الملامح أيضاً أن العاقل يفكر عن إرادة الفعل تفكيراً دقيقاً ؛ حتى يزن الأمر قبل فعله .. وهذا يختلف عن الأول في أن هذا في الأمور المعتادة والعارضة وذاك في الأمور الكبيرة الجسيمة .
قال الحسن البصري رحمه الله : " لسان العاقل وراء قلبه فإذا أراد التكلم تفكر ؛ فإن كان له قال ، وإن كان عليه سكت ، وقلب الأحمق من وراء لسانه .. فإذا أراد أن يقـول قـال ؛ فـإن كـان لـه سكت ، وإن عليه قال " ؛ لأنه يعكس الأمور ويأتي بها على عواقبها .
وفي هذا بالذات في ملامح العقلاء ما يتعلق بالمنطق :
وهذه مسألة مهمة لأن النبي عليه والصلاة والسلام قد قال : ( رب كلمة يتكلم بها الرجل لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفا ) .
ولما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها في حق صفية : "حسبك من صفية قصرها " قال النبي : ( قد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته )

وهذا تدليل على عظمة الكلام وخطورته ، ودقة مواقعه وخطورة ما يئول إليه سيما إن كان في الحكم على الناس أو إن كان في الفتيا في الدين ونحو ذلك ؛ فإنه أمر تخشى عواقبه .
ولذلك من نفائس الحكم التي ذكرت عن سليمان بن عبد الملك رحمه الله أنه قال : " فضل العقل على المنطق حكمة ... " وفضل يعني زيادة .
أي زيادة العقل على الكلام حكمة أي بمعنى من زاد عقله على كلامه فذلك حكمة ، ثم قال : " وفضل المنطق على العقل هجنة" أي مما يستهجن ويعاب به الإنسان .
ثم قال : " وخير الأمور ما صدق بعضها بعضا" أي ما كان اللسان في مواطنـاً للعقـل موافقـاً لـه منضبطاً بتفكيره وتدبيره ، ولذلك ينبغي أن ندرك مثل هذا الملمح .

وملمح رابع أيضاً نذكره وهو : أن التجارب هي التي تصقل العقول
ولذلك ينبغي أن لا نظن أن العقل وكماله بالعلم وحده ، وإنما التجربة تنضج العقل في كثير من الأحوال أكثر من العلم والاطلاع .
ولذلك كما يقولون : " حكمة الشيوخ " ، ومن أين جاءت حكمة الشيوخ ؟ .. جاءت من طول التجارب التي تمر بهم ، ولذلك ينبغي أن ندرك أهمية هذه التجارب .. و قد قال القائل في مثل هذا المعنى :
ألم ترى أن العقل زين لأهله *** وأن كمال العقل طول التجارب

ولذلك يتأمل الإنسان فيرى أعظم ما ينفعه إنما يكتسبه بكثرة الخبرة والمعرفة والتأمل في مصائر الناس ؛ لأنه كما قالوا : " السعيد من وعظ بغيره ، والعاقل من تفكّر في مصير غيره " .
لأن الأمور إنما تقاس بالأشباه والنظائر ؛ فإذا حصل نتيجة الفعل القبيح عاقبة سيئة فليعلم أن من فعل مثل هذا الفعل فستكون له مثل تلك العاقبة .
.

عزام
02-16-2008, 04:29 PM
ومن الملامح وهو ربما كان أهمها وأعظمها أن العقلاء هو الذين يراعون أمر الله عز وجل :
وهذا يشمل كل ما مضى فإن العاقل هو المتدين الذي يدين الله عز وجل في كل قول وفي كل فعل ويراقبه سبحانه وتعالى في كل ما يأتي وفي كل يذر .

ولذلك سئل بعض الأعراب الذين فيهم حكمة وفطنة قيل له : أي الأشياء أدل على عقل العاقل ؟ فقال : حسن التدبير . وقيل : أي منافع العقل أي منافع العقل أعظم ؟ قال : اجتناب الذنوب ؛ ولا شك أن هذا من الأمور التي يدرك الإنسان أنها من دلائل كمال العقل وفضائله في الوقت نفسه .

وعندما ننظر في كثير من المشاهد والصور التي سنذكرها سنتذكر مثل هذه المعاني والملامح التي أشرت إلى بعض منها ، ويؤكدها بكثير من هذه المقالات التي نوجز فيها حتى نستطيع أن نستكمل بقية الصور .

مما يؤكد هذا المعنى الحكمة التي تبين أن الدين عند العاقل هو أعظم ما يفكر فيه وأعظم ما يضبطه في تصرفاته وأعظم يكمل عقله ويجمل منطقه وتصرفه .
فالعاقل كما قيل :" العاقل يقي ماله بسلطانه ، ونفسه بماله ودينه بنفسه " .
وأعيد حتى نتأمل في المعنى ؛ لأن الكلمات فيها بعض الترابط .
العاقل : يقي ماله بسلطانه ، يعني يحمي المال بالسلطان . وأيهما يكون عنده أعظم ؟
بالتأكيد سيكون المال ؛ لأنه يمكن أن يتخلى عن السلطان في مقابل أن يحفظ المـال ، ويقـي نفسه بماله ؛ لأنه في وقت الجد أو في الأزمة أو كذا أو هو مسجون يكون مطلوب بفدية أو كفالة سيدفع ؛حتى يحمي نفسه ويقيها .

وأخيراً : " يقي دينه بنفسه " . يعني لو ذهبت نفسه في مقابل أن يحفظ دينه فإنه يجود بنفسه حماية لدينه .
وهذا يدل على أن العاقل في آخر الأمر هو الذي يقدم دينه على نفسه وماله وسلطانه فيكون كامل العقل من كان مقدماً لدينه على كل شيء .

وهذه كما قلت بعض الملامح ووراء ذلك أيضاً كلام كثير وحكم كثيرة وكل شيء محتاج إلى العقل ، والعقل محتاج إلى التجارب .
ننتقل إلى لب وأساس الموضوع : في بعض الصور والوقائع والأعمال التي ربما نراها في واقع حياتنا وربما نتلبس بها أحياناً فننظر حينئذ إلى هذه الصور والأفعال ونقيسها بمقياس الشرع أولاً وبمقياس العقل الحصيف والرأي الراجح ثانياً ، لننظر فيها .. ثم نسأل عند كل صورة وعمل : هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟

نبقى أولاً في ميدان التصرفات الشخصية ونقف وقفات عند بعض الصور والمشاهد :
أولاً : الغضب
الذي يعتري بعض الناس لأتفه الأسباب ، ولأمور ليس لها كبير قدر ، ولا عظيم أهمية في دين الله عز وجل ، وليست في مقياس الإسلام ، وميزان الإيمان ، والتفاضل بالتقوى ، والعلو في الرتبة عند الله عز وجل بذات أثر ، ومع ذلك يغضب لها بعض الناس ، فيهيج ، ويرغي ، ويزبد ، ثم ينطلق لسانه ، فيهرف - كما يقولون - بما لا يعرف ، فإذا به لا يدع شيئاً من السباب ، والشتائم ، وأقذع الألفاظ ، إلا أتى عليه ، ثم إذا به يتحرك بجوارحه ، فيده تبطش وتلطم وتضرب ، ورجله تركل وترفس وتجري ، وكل خلجت من خلاجات قلبه ، وكل حركةمن حركات جوارحه تنبئ عن ثورة عارمة ، وعن أمور عظيمة ، وتجده كما وصف النبي عليه الصلاة والسلام أو كما وصف في حديث النبي عليه الصلاة والسلام " أن رجلان غضب أحدهما من الآخر فاشتد غضب الأول حتى أحمر وجهه وانتفخت أوداجه ، فرآه النبي عليه الصلاة والسلام فقال لبعـض أصحــابه ( إني أعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد ) قالوا : وما هي يا رسول الله ، قال : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) فسعى بها أحد القوم إليه . يعني إلى هذا الغاضب ، فقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : كذا وكذا . فقال له من شدة غضبه : اذهب عني فإني لست بمجنون !

والذي ينظر إلى بعض الناس يرى الوقار وقد زال عنه ، ويرى مرتبته في العلم وقد تدنت إلى أدنى المراتب ، ويرى مقامه في السن وقد زال عما يليق به .
فتجد بعض الناس لأتفه الأمور وربما نستطيع أن نضرب لهذا أمثلة كثيرة تقع في واقعنا ، ربما تجد صوراً تتكرر عليك أحياناً في اليوم والليلة أكثر من مرة واحدة .

وتجد مثل هذا التصرف ، بينما ربما تكون هناك مصيبة عظمى وداهية كبرى ، وهناك خطر جسيم يحيق بالإسلام والمسلمين ،أو أمر يقدح في اعتقاد وإيمان ، أو أمر يؤدي إلى انحلال وتفسخ ، أو أمر يستحق وقفة غبطة من المؤمن ، وتجده غير مكترث ولا مبال لمثل هذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغضب لنفسه ، لكن إذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه قائمة ، وإن الله يغار وغيرة الله أن تنتهك محارمه .

فكم نرى من الناس - كما قلت - إذا مس في أمر بسيط ، أو أختلف مع إنسان في أمر بسيط ، يغضب هذا الغضب ويطيش هذا الطيش ، ونرى مثل هذه التصرفات ، فيعجب الإنسان ويسأل : هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟

والجواب بمقتضى الحكمة والشرع والعقل :
أن مثل هذا ليس بتصرف العاقل ، وإن مثل هذا في هذا التصرف على أقل تقدير ، قد غاب عنه عقله ، فكأنما هو بعد فيئه إلى نفسه ، ورجوعه إلى عقله ، ينكر ما كان منه من قول ، وينكر ما كان منه من تصرف .
وترى بعض الناس ترثى لحاله ، كيف يكون بهذا القدر والمنزلة وهذا العلم والمعرفة وتلك الرتبة العليا بين الناس ؟ ثم إذا به شمر ثيابه وخلع غطاء رأسه ، وإذا يفعل أموراً عجيبة .
وتجد بعض الناس إذا جهل عليه جاهل ، لا يحلم ولا يفعل الفعل الذي وصف الله عز وجل به عباد الرحمن : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً } [ الفرقان:63 ] .
وإذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخير من إجابته السكوت

فيسكت وسلم من هذا فيأتيه الناس الذين يظنون أنهم عقلاء فيقولون له :
" كيف تسكت عن هذا ؟ كيف ترضى بأن تذل وأن تهان ؟ كيف وكيف ... "
فإذا انتصر لنفسه قالوا : إنه رجل ، وقالوا : إنه شهم ، وقالوا : إنه كذا وكذا ...
وما عرفوا أنهم يقيسون بمقياس غير مقياس الشرع ، وأنهم يرجحون بترجيح يخاف مقتضى العقل.

وفي الدائرة التصرفات الشخصية أيضاً نقف أمام صورة أخرى من الصور الكثيرة التي نراها وهي صورة : الكبر والخيلاء
بعض الناس إذا نال حظاً من المال ، أو شيئاً من الجاه ، أو كان له نسباً يعد عند الناس من مفاخر النسب ، أو نحو ذلك .. شمخ بأنفه ، وصعر خده ، ورفع رأسه ، ونظر إلى الناس كأنما ينظر إليهم من السماء السابعة ، وليس من السماء الأولى .
ومشى مشية الطاووس ، يختال كبرياءً ، ويزهو بهائاً .
وإذا كلمه المتكلمون ، أو خاطبه بعض الناس ، ترفع أن يرد عليهم ، ورأى دنواً في منزلته أن ينظر إليهم .

وترى بعض صور الكبرياء والخيلاء صوراً ممجوجة في حياة الناس والمجتمعات تدل على عظيم الحمق وعلى سعة أو عظم الجهل ، أولئك الناس .

ولذلك من عظيم ما جاء في كتاب الله عز وجل ، رد الأمور إلى حقائقها .
والعاقل في الحقيقة هو الذي ينظر إلى الأمور : إدراك الشيء على حقيقته هو عين العقل ، وكما قال بعض الحكماء : " العقل إدراك الأشياء على حقائقها ، فمن أدرك الشيء على حقيقته فقد كمل عقله " .
وأما الذي ينظر إلى المظاهر ، وهو حال كثير من الناس وللأسف قد فتنتهم المظاهر ، وخلبت أنظارهم الصور ولم يعرفوا حقائق الأشياء .

وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة مثلاً عظيماً في هذا الباب عندما كان جالساً مع بعض أصحابه فمر رجل حسن الهيئة حسن الثياب ، تظهر عليه آثار النعمة فلما جاز بالنبي عليه الصلاة والسلام وبأصحابه قال النبي عليه الصلاة والسلام ( ما تقولون في هذا ؟ ) قالوا بحسب المظهر والمنظر : هذا حري إن تكلم أن يُسمع ، وإن شفع أن يشفع ، وإن خطب أن ينكح !
فسكت النبي عليه الصلاة والسلام .. فمر رجل آخر ، رثة هيئته يظهر عليه ملامح الستر والتواضع ، فلما مرّ بهم ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( ما تقولون في هذا ؟ ) .
قالوا : هذا حري إن تكلم أن لا يسمع ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن خطب أن لا ينكح .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فإن هذا خير من مائة من مثل ذاك ) ، أو في بعض الروايات : ( خير من ملء الأرض من مثل ذاك ) أو كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام .

فهذا يدلنا على هذا المقياس ، والله عز وجل قد رد الأمور إلى حقيقتها فقال سبحانه وتعالى : { وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً } [ الإسراء:37 ] . ولما ذكر خرق الأرض والتطاول للجبال ؟
لأن المتكبر عادة يفعل أحد فعلين :
إما أن يدق الأرض بقدمه دقا حتى ينظر الناس إليه ، فتجده إذا سار يعني كأنما يسير موكب لا رجل ، يدق الأرض غطرسة وكبرياءً ، وإظهار للقوة والعظمة .
أو يتطاول على أطراف أقدامه ، بهاءاً ، واختيالاً.
فالله عز وجل قال لا هذه ولا تلك .
هل سيرتفع عن قيد شبر واحد ، أو قدر أنملة واحدة ؟

قال الله عز وجل : { لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ } .. دق كما شئت أن تدق ، فالأرض تحتك كما هي وأنت كما أنت .
وترفع كما شئت فلن تبلغ الجبال طولا ولا ترتفع قيد أنملة عن الأرض .
ولذلك قال أبو العلاء : " خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد "
هذا الذي يمشي متبختر متكبر ، على هونك فإنما أنت تراب ستئول إلى التراب ، وسيدوسك الناس يوم ما ، عندما تئول وتتحول إلى تراب .

ولذلك مما ذكر من مقالات الحسن وينسب إلى غيره أنه رأى بعض أهل الثراء أو بعض الأمراء يمشي مشية المتبختر المتكبر ، فقال مذكراً بحقائق الأمور : " هل أنت في أول مبدئك إلا نطفة مذرة ، وفي آخر أمرك تئول إلى جيفة قذرة ، وأنت فيما بينهما تحمل العذرة " العذرة : يعني الفضلات ، أجلكم الله .
هذا أولك ، وهذا آخرك ، وهذا ما بينهما ، فأي شيء يجعلك تكبر على خلق الله !.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الكبر بطر الحق ، وغمط الناس ) .
بعض الناس إذا خالفه الناس الرأي تكبر ، وإن كان الحق معه رده لأنه لا يكون حقاً ، إلا من بنات أفكاره ، وإلا من أقواله ، وآرائه ، وهذا لا شك أنه أعظم الجهل ، وقمة الحمق .
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) .
وكم نرى من الناس اليوم وللأسف ، من يتطاولون على الناس ، ويحتقرونهم ، وتجده قد جر ثوبه خيلاء ، وقد ركب سيارته الفارهة ، فإذا به ينطلق بها كأنه لا يرى الناس إلا ذراً أمامه ، وكم ترى وترى من الصور من هذه التصرفات التي يظنها بعض الناس عقلاً ، ويظنها بعض الناس تقدماً أو حضارة أو نحو ذلك ، وحقيقة الأمر أنها جهل وحمق .

وننتقل أيضاً إلى تصرفات أخرى أو ميدان آخر في ميدان التصرفات الاجتماعية - وخاصة في الميادين الأسرية - بتربية الأبناء البنات وما يتعلق بهذا الحال الذي نراه في صور كثيرة أيضاً في مجتمعاتنا .
والحقيقة أن بعض ما دفعني إلى طرح هذا الموضوع هو بعض هذه الصور التي نلمسها وبعضها هذه الأحداث التي ربما لامسني بعضها مواجهة ، فجعلت نظرة ، أو جعلتني أدفع أو أتوق إلى نظرة ننظر فيها إلى الحقائق ونعرف فيها ميزان الشرع ، ونعرف فيها نظر العقل .

أحب الناس إلى الإنسان أبناءه ولو قيل لك ، إن رجلاً يحب ابنه ثم يلقيه في النار ، لما صدقت مثل هذا القول أبداً ، ولا يفعل مثل هذا إلا المجنون الذي ليس عنده مسكة عقل .
والنبي عليه الصلاة والسلام عبر عن مثل هذا المعنى في شدة التعلق بالابن عندما كانوا في بعض الغزوات وكانت امرأة تبحث عن رضيعها بين الأسرى والقتلى ، فوجدته فضمته إلى صدرها وحدبت عليه . فقال النبي عليه الصلاة والسلام ( أتظنون هذه ملقية بولدها في النار ) قالوا : هي أرحم به من ذاك يا رسول الله ، قال : ( فالله عز وجل أرحم بكم من هذه بولدها ) .. الشاهد رحمتها بولدها .

ونرى بعض الناس في حقيقة الأمر - وإن كان هو لا يعترف بهذا - يلقي بأبنائه في النار ، عياناً بياناً ، في رابعة النهار كما يقولون ...، وتعجب من هذه التصرفات وأذكر لهذا حدثين أو صورتين مرة بي وعرفتها عن قرب وعن كتب .

أحد الناس ممن من الله عز وجل عليه بالنعمة والثراء وسعة الحال ، وعنده ابنه الأكبر الذي في الغالب يكون موضع المحبة ، الأعظم وموضع الاهتمام والرعاية الأكبر . فلما انتهى من دراسته الثانوية من فرط محبته له ، ومن شدة رغبته في مستقبل زاهر لابنه ، أرسله ليدرس في أمريكا ، مع أن الدراسة بعد الثانوية ميسورة في كل بقاع الأرض ، وليس فيها بين شرق وغرب فرق ، بعثه ليدرس في أمريكا ، شاب في سن الثامنة عشر ، مراهق ، يمتلأ قلبه ميلاً إلى الشهوات ، وتطرم في نفسه الغرائز الفطرية ، البشرية . ثم هيئ له الأسباب المادية ، فهو يسكن في سكن فاخر مناسب ، ويأخذ مصروفاً جيداً ، ثم اشترى له بعد ذلك سيارة ثمنها الله أعلم به ... ثم بعد ذلك كله يأتي من يقترح عليه أن يزوّج ابنه ، فيقول : لا حتى يتخرج ، حتى يعتمد على نفسه ، حتى يصبح رجلاً ، وتجد أنه قد أنفق عليه من المال أضعاف ، أضعاف ما يحتاج إليه لتزويجه ، ويريده رجلاً ، ويريده أن يكمل دراسته ، ويريده أن يحافظ على خلقه ، ويريده أن يمثل شخصيته ، وهو كما قال القائل :
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له *** إياك إياك أن تبتل بالماء

وزار بعض الناس الشاب في مكان دراسته ، فالدراسة في واد وهو في واد آخر ، وقد بدأ في طريق الانحراف فلن يحقق لأبيه أمله في الدراسة ، ولن يحقق له أمله في التخرج ، ولن يحقق له في الاعتماد على نفسه ، ولن يحقق له أمله في تموين نفسه ، ولا في رجولته ، ولا شيء من ذلك.

ومع ذلك تجد هذا الأب الذي يصلي خمسة فروض في المسجد ، وعنده المال الذي يشتري به السيارة بخمسين أو بمائة ألف ، ويعطيها لابنه ، ولا يريد أن يزوجه ، حتى يعصمه ، وحتى يجعل له نوعاً من الاستقرار النفسي والعاطفي ، والهدوء الذي يستطيع به أن يكمل به دراسته وعلمه إلى غير ذلك ، فأي وصف يمكن أن يوصف به هذا الأب ؟

إلا أنه جاهل في تصرفه ، أحمق في مثل هذا العمل الذي قام به ، وهذا أمر واقع ، وقصص حقيقية في حياتنا الاجتماعية .

وحادثة أخرى طلب فيها مثل هذه الحادثة ، طلب فيها الابن من أبيه أن يزوجه .
فقال له : اذهب ولا تتحدث في هذا الموضوع أبداً ، وإلا قاطعتك وقطعت دراستك .
أنظر إلى هذه التربية الحازمة وإلى هذه الحكمة الجازمة التي هي عين الجهل والحمق لمثل هؤلاء الآباء ؛ الذين يظنون أنهم يسنون صنعا ، وهم إنما يفسدون ويخربون ، ويجذون في آخر الأمر المرارة الكاملة !

وكم رأينا من أمثال هؤلاء من ضاع أبنائهم ودمروا تدميراً عقلياً ، وسلوكياً ، ودينياً ، و من كل الجوانب ، حتى عادوا يعضون أصابع الندم ، ولات حين مندم ، وربما يكون الوقت قد فات ، والخرق قد اتسع على الراقع كما يقولون .

وهذه إحدى الصور التي للأسف تتكرر في واقع حياة الناس ، وهذا أيضاً من العجائب ، والغرائب ، التي يراها الإنسان ، ويرى إصرار بعض الناس عليها ، ولا يملك إلا أن يرثى لحال هؤلاء الجهلاء الذين لا يصح في مثل هذا العمل أن يوصفوا بأنهم عقلاء .
صورة أخرى أيضاً في ميدان التصرفات في الاجتماعية وهي صورة يكثر الحديث عنها ، ويطول الكلام فيها وهي ما يتعلق بشئون الزواج وتيسيره أو تعسيره .. ونجد هذا في صور كثيرة في واقع الحياة الاجتماعية ، لكثير من الناس ، ومن أمثلة ذلك : غلاء المهور ، الذي يفعله بعض الآباء لأحد أمور منها :
أولاً : التكسب
وهذا واضح ، وبعض الآباء يأتون بأمر عجب ، يفرضون مهراً لبناتهم ومهراً خاصاً لهم ، كأنه هو الذي سيكون أيضاً سيتزوج مـع ابنته ، فيقول : لابنتي كذا ولي كذا ، وإلا فلا ، أو إذا كانت ابنته وهذا واقع إذا كانت ابنته ذات وظيفة أو متعلمة أو مدرسة ، يشترط أن يكون خراجها له ، مثل الأرض المفتوحة ، أو مثل البلاد التي فتحها المسلمون سابقاً ، تكون زوجة لزوجها ، ولكن يشترط نسبة من راتبها أو راتبه . فهذا ضرب من الضروب .

وأما الضرب الثاني : والذي هو أشد جهلاً وحمقاً ، فهو المباهاة ، المغالاة ، لماذا يرفع في المهر وهو لا يريد شيئاً هو عنده المال ؟
لكن حتى يقول الناس ، إن ابنته دفع فيها كذا وكذا .
وربما يحرمها من الزواج عاماً ، إثر عام ، حتى يفوتها القطار ، أو حتى تتزوج وقد بقي عليها من سن اليأس ثلاث أو خمس سنوات وانتهى ما كانت ، تأمله من زواجها ومن ذرية ومن بناء أسرة .

وهذا لا شك أنه أجهل وأحمق من الأول ؛ لأن الأول على الأقل سيستفيد فائدة يعني مادية ، أما هذا سيستفيد فائدة كلام ، كلام في كلام ، يقولون إن ابنة فلان أخذت كذا أو ابنة فلان غالية كأنما هي بضاعة تباع وتشترى ، مثل السيارات الآن سيارة مثلاً من نوع تويوتا رخيصة ، وسيارة من نوع مثلاً كذا غالية , وفي الأخير كل السيارة أربع كفرات تمشي إلى الأمام ، وترجع إلى الوراء وتذهب بها إلى أي مكان .

لكن عندما يتفطن الإنسان ، إلى المقياس الشرعي ينظر إلى مدى حمق وجهل هؤلاء ، وإلى مدى المضرة ، نحن ننظر إلى مقياس الشرع وإلى حتى مقياس العقل .
أي مصلحة تجنى في مصلحة عملية واقعية من مثل هذه التصرفات ، الرعناء الحمقاء ، التي يجني أصحابها ، وأربابها ،حر ضرها .
ومن ثم ظهرت ظواهر خطيرة ، ظهرت ظاهرة العنوسة ، وظهرت ظاهرة الطلاق الذي يترتب على هذه المشكلات المادية ، والإتاوات ، والفروض ، التي يفرضها الآباء ، وظهرت أيضاً ، مشاكل التفسخ والانحلال الإجتماعي ، والفساد الأخلاقي ، كل هذا في أي مقابل ، في مقابل أن بعض هؤلاء الآباء المغفلون الحمقى ، يتصرفون مثل هذه التصرفات ، فلا تعود الجناية عليهم وحدهم بل تعود الجناية على المجتمع كله .
وهذا أيضاً عندما نسأل : هل هؤلاء حقاً عقلاء ؟
والجواب : أنهم ليسوا قطعاً من صنف العقلاء في مثل هذه التصرفات .

ومسألة أخرى أيضاً في الحياة أو التصرفات الاجتماعية ، وهي - كما يقولون - لا تدخل في العقل فدائماً بعض المسائل يعني بلهجتنا العامية يقول لك : يا أخي هذه لا تدخل في العقل ، وهذه بعضها من مثل هذا النوع .
وقد أشرت إلى بعض منها ربما في دروس مختلفة أو في دروس غير هذا الدرس لكن هي في الحقيقة من الأمور المثيرة للتفكير عند أصحابها الذين يمارسونها ، أذكرها في مظهرين :
مظهراً ترى فيه امرأة كبيرة في السن من الأمهات ، وقد لبست ثيابها الطويلة ، وغطت وجهها وأسدلت حجابها ، وأسبغت سترها ، وتنظر إلى يدها فإذا بها تمسك بيد ابنتها التي هي في ريعان الصبا ، وفي ميعة الشباب ، وفي مقتبل العمر كما يقولون ، فإذا بابنتها التي تمسكها حاسرة الذراعين ، كاشفة الشعر ، متزينة متبرجة ، متهتكة ، متعطفة .

فتعجب لهذا المنظر الغريب ، وغرابته أنه لا يتفق مع العقل ، ولا يدخل في العقل - كما يقولون - فلأي شيء تلك المرأة الكبيرة ، التي ربما لا يلتفت النظر إليها ، تتغطى وتتستر ، وهذه التي ينظر إليها تتكشف وتتهتك .

فإذا جئت إلى الأم التي تسترت وتحجبت ، تسألها وأنت متعجب ، لما لا تتحجب ابنتك وأنت متحجبة بحمد الله ؟
قالت : دعها حتى تتمتع بشبابها . و تقول لك أيضاً : هذه القيود الثقيلة عليها ينبغي أن تتخفف منها أو هذا عصر غير عصرنا أو غير ذلك من المقلات !
والذي يفكر بعقله كما قلت ، والشرع حاكم فوق ذلك لا شك ، ينظر إلى هذا التصرف فلا يرى له موضعاً في العقل السليم .

الصورة الأخرى قريبة من هذه : تجد رجلاً مفتول الشاربين ، عريض الكتفين ، قوي العضلات ، يمشي وإلى جوارها زوجته كأنما ، أخرجها من بيته ليعرضها على الناس والعياذ بالله .
فتعجب من هذه المرأة ؟
زوجته ! ... لماذا أخرجها بهذه الصور ؟
وتعجب ! إذا رأيت أحداً ينظر إليها ، أو يسيء إليها بكلمة أو يغازلها بهمسة ، فإذا به يغضب ويثور ، يغضب هذا الرجل أو هذا الزوج ، ويصف هذا المتعرض لزوجته بقلة الأدب والحياء وبالاعتداء على الحرمات ، ونحو ذلك ..
فيقال له : ماذا كنت تنتظر ؟ أو لأي شيء فعلت هذا ؟ أو جعلت زوجتك تفعل مثل هذا الفعل لأي شيء ؟!

أليس فعلك كأنك تقول للناس انظروا إليها ، أليس عملك هذا كأنك تقول لناس تغزلوا بها ، ألست تدعو العيون إلى أن تنظر إليها ، والقلوب إلى أن تتعلق بها ، والألسن إلى أن تصف جمالها ، والأيدي أيضاً إلى أن تقبض عليها أو تعتدي عليها .
ومع ذلك - كما قلت - تدرج هؤلاء الناس ، يتصرفون على أن هذا التصرف التحضري أو التمدن ، أو نحو ذلك ..

وهذا كله من الحمق والجهل والغباء الذي كما قلنا إنه ونعود إلى القواعد التي ذكرناها أن أعظم منافع العقل اجتناب الذنوب ، وأن أعظم العقلاء هو الذي يراعي دينه ، ويحكم شرع الله عز وجل في تصرفاته ، وأفعاله .. وهذا أيضاً أمر يعني بين في مثل هذا الجانب .
والأمثلة في الحقيقة كثيرة ، والتصرفات الاجتماعية التي تخرج عن حد العقل وهي خارجة أيضاً عن إطار الشرع كثيرة يصعب حصرها وإنما نمثل لبعض منها

من هناك
02-17-2008, 05:13 AM
سأعود لاحقاً إن شاء الله. لما قرأت إسم الكاتب ظننت ان مقاوماً هو من اضاف المقالة ولكني فوجئت بإسم عزام بالأزرق فوقه :)