ابو شجاع
02-06-2008, 04:37 PM
بسم الله الرّحمن الرّحيم
استفتاء القلب
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نرجو منكم بيان معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" وهل يجوز للشخص أن يتخير في المسائل عملا بهذا الحديث النبوي. وبارك الله فيكم.
الجواب:
الكاتب: ياسين بن علي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
نعم وردت بعض الأحاديث يفهم منها جواز الرجوع إلى ما يقع في القلب إذا لم يكن في المسألة من الأدلة الشرعية ما يدل على حكمها تصريحا أو تلميحا. ومن هذه الأحاديث:
قوله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" (أخرجه مسلم عن النواس بن سمعان).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنكر قلبك فدعه" (أخرجه ابن عساكر عن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج) وفي رواية: "ما حاك في صدرك فدعه" (أخرجه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك ثلاث مرات البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وان أفتاك الناس وأفتوك" (أخرجه أحمد في المسند عن وابصة الأسدي).
إلا أن هذه الأحاديث معارضة لقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105)} (النساء)، فقد أمره بالحكم بما أراه الله وليس بما رآه قلبه، ولقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)} (النساء)، فقد أمرنا بالعودة إلى الله والرسول وليس إلى حديث النفس وهوى القلب، ومعارضة أيضا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله و سنتي و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" (أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة).
وقد أزال هذا التعارض وبيّن فقه الأحاديث الآمرة باستفتاء القلب أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى بيانا كافيا وافيا شافيا فقال (في الاعتصام ج2 ص161-163):
"فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين: نظر في دليل الحكم، ونظر في مناطه؛ فأما النظر في دليل الحكم لا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما عن إجماع أو قياس أو غيرهما، ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس ولا نفي ريب القلب إلا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلا أو غير دليل. ولا يقول أحد (؟) إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل عليها أو يستقبحون كذلك من غير دليل إلا طمأنينة النفس (؟) أن الأمر كما زعموا وهو مخالف لإجماع المسلمين.
وأما النظر في مناط الحكم، فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتا بدليل شرعي فقط بل يثبت بدليل غير شرعي أو بغير دليل. فلا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد بل لا يشترط فيه العلم فضلا عن درجة الاجتهاد. ألا ترى أن العامي إذا سئل عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلي: هل تبطل به الصلاة أم لا؟ فقال العامي: إن كان يسيرا فمغتفر وإن كان كثيرا فمبطل لم يغتفر في اليسير إلى أن يحققه له العالم بل العاقل يفرق بين الفعل اليسير والكثير. فقد انبنى ها هنا الحكم ـ وهو البطلان أو عدمه ـ على ما يقع بنفس العامي وليس واحدا من الكتاب أو السنة؛ لأنه ليس ما وقع بقلبه دليلا على الحكم وإنما هو مناط الحكم فإذا تحقق له المناط بأي وجه تحقق فهو المطلوب فيقع عليه الحكم بدليله الشرعي. وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة وفرقنا بين اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة، فقد يكتفي العامي بذلك حسبما يشهد قلبه في اليسير أو الكثير فتبطل طهارته أو تصح بناء على ذلك الواقع في القلب؛ لأنه نظر في مناط الحكم.
فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله؛ لأن حلّيته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط الحلية لتحقيق مناطها بالنسبة إليه، أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له أكله؛ لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحلّية فتحقق مناطها بالنسبة إليه. وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه واطمأنت إليه نفسه لا بحسب الأمر في نفسه. ألا ترى أن اللحم قد يكون واحدا بعينه فيعتقد واحد حليته بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه، ويعتقد آخر تحريمه بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه؛ فيأكل أحدهما حلالا ويجب على الآخر الاجتناب لأنه حرام؟ ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال وكان محالا؛ لأن أدلة الشرع لا تناقض أبدا. فإذا فرضنا لحما أشكل على المالك تحقيق مناطه لم ينصرف إلى إحدى الجهتين كاختلاط الميتة بالذكية واختلاط الزوجة بالأجنبية. فها هنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة.
وهذا المناط محتاج إلى دليل شرعي يبين حكمه وهي تلك الأحاديث المتقدمة كقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، وقوله: "البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في صدرك"، كأنه يقول: إذا اعتبرنا باصطلاحنا ما تحققت مناطه في الحلية أو الحرمة؛ فالحكم فيه من الشرع بين، وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به. وهو معنى قوله ـ إن صح ـ : "استفت قلبك وإن أفتوك"، فإن تحقيقك لمناط مسألتك أخص بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك. ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط ولم يشكل على غيرك؛ لأنه لم يعرض له ما عرض لك.
وليس المراد بقوله: "وإن أفتوك" أي إن نقلوا إليك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك؛ فإن هذا باطل وتقول على التشريع الحق، وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط.
نعم قد لا يكون ذلك درية أو أنسا بتحقيقه فيحققه لك غيرك وتقلده فيه، وهذه الصورة خارجة عن الحديث، كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضا موقوفا على تعريف الشارع، كحد الغنى الموجب للزكاة، فإنه يختلف باختلاف الأحوال، فحققه الشارع بعشرين دينارا ومائتي درهم وأشباه ذلك، وإنما النظر هنا فيما وُكِل تحقيقه إلى المكلف.
فقد ظهر معنى المسألة وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل القلب كما أورده السائل المستشكل، وهو تحقيق بالغ والحمد لله الذي بنعته تتم الصالحات".
وهذا الذي حقّقه الشاطبي رحمه الله من أروع ما قيل في المسألة، وهو الصواب الذي نقول به، والله أعلم.
24 محرم 1428هـ
عن مجلة الزيتونة
http://www.azeytouna.net/Cevab-Sual/cevab_sual027.htm
استفتاء القلب
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نرجو منكم بيان معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" وهل يجوز للشخص أن يتخير في المسائل عملا بهذا الحديث النبوي. وبارك الله فيكم.
الجواب:
الكاتب: ياسين بن علي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
نعم وردت بعض الأحاديث يفهم منها جواز الرجوع إلى ما يقع في القلب إذا لم يكن في المسألة من الأدلة الشرعية ما يدل على حكمها تصريحا أو تلميحا. ومن هذه الأحاديث:
قوله صلى الله عليه وسلم: "البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس" (أخرجه مسلم عن النواس بن سمعان).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنكر قلبك فدعه" (أخرجه ابن عساكر عن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج) وفي رواية: "ما حاك في صدرك فدعه" (أخرجه الطبراني في الكبير عن أبي أمامة).
وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك ثلاث مرات البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وان أفتاك الناس وأفتوك" (أخرجه أحمد في المسند عن وابصة الأسدي).
إلا أن هذه الأحاديث معارضة لقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً (105)} (النساء)، فقد أمره بالحكم بما أراه الله وليس بما رآه قلبه، ولقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)} (النساء)، فقد أمرنا بالعودة إلى الله والرسول وليس إلى حديث النفس وهوى القلب، ومعارضة أيضا لقوله صلى الله عليه وسلم: "إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله و سنتي و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" (أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة).
وقد أزال هذا التعارض وبيّن فقه الأحاديث الآمرة باستفتاء القلب أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله تعالى بيانا كافيا وافيا شافيا فقال (في الاعتصام ج2 ص161-163):
"فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين: نظر في دليل الحكم، ونظر في مناطه؛ فأما النظر في دليل الحكم لا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما عن إجماع أو قياس أو غيرهما، ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس ولا نفي ريب القلب إلا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلا أو غير دليل. ولا يقول أحد (؟) إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل عليها أو يستقبحون كذلك من غير دليل إلا طمأنينة النفس (؟) أن الأمر كما زعموا وهو مخالف لإجماع المسلمين.
وأما النظر في مناط الحكم، فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتا بدليل شرعي فقط بل يثبت بدليل غير شرعي أو بغير دليل. فلا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد بل لا يشترط فيه العلم فضلا عن درجة الاجتهاد. ألا ترى أن العامي إذا سئل عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلي: هل تبطل به الصلاة أم لا؟ فقال العامي: إن كان يسيرا فمغتفر وإن كان كثيرا فمبطل لم يغتفر في اليسير إلى أن يحققه له العالم بل العاقل يفرق بين الفعل اليسير والكثير. فقد انبنى ها هنا الحكم ـ وهو البطلان أو عدمه ـ على ما يقع بنفس العامي وليس واحدا من الكتاب أو السنة؛ لأنه ليس ما وقع بقلبه دليلا على الحكم وإنما هو مناط الحكم فإذا تحقق له المناط بأي وجه تحقق فهو المطلوب فيقع عليه الحكم بدليله الشرعي. وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة وفرقنا بين اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة، فقد يكتفي العامي بذلك حسبما يشهد قلبه في اليسير أو الكثير فتبطل طهارته أو تصح بناء على ذلك الواقع في القلب؛ لأنه نظر في مناط الحكم.
فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله؛ لأن حلّيته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط الحلية لتحقيق مناطها بالنسبة إليه، أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له أكله؛ لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحلّية فتحقق مناطها بالنسبة إليه. وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه واطمأنت إليه نفسه لا بحسب الأمر في نفسه. ألا ترى أن اللحم قد يكون واحدا بعينه فيعتقد واحد حليته بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه، ويعتقد آخر تحريمه بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه؛ فيأكل أحدهما حلالا ويجب على الآخر الاجتناب لأنه حرام؟ ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال وكان محالا؛ لأن أدلة الشرع لا تناقض أبدا. فإذا فرضنا لحما أشكل على المالك تحقيق مناطه لم ينصرف إلى إحدى الجهتين كاختلاط الميتة بالذكية واختلاط الزوجة بالأجنبية. فها هنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة.
وهذا المناط محتاج إلى دليل شرعي يبين حكمه وهي تلك الأحاديث المتقدمة كقوله: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، وقوله: "البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في صدرك"، كأنه يقول: إذا اعتبرنا باصطلاحنا ما تحققت مناطه في الحلية أو الحرمة؛ فالحكم فيه من الشرع بين، وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به. وهو معنى قوله ـ إن صح ـ : "استفت قلبك وإن أفتوك"، فإن تحقيقك لمناط مسألتك أخص بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك. ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط ولم يشكل على غيرك؛ لأنه لم يعرض له ما عرض لك.
وليس المراد بقوله: "وإن أفتوك" أي إن نقلوا إليك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك؛ فإن هذا باطل وتقول على التشريع الحق، وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط.
نعم قد لا يكون ذلك درية أو أنسا بتحقيقه فيحققه لك غيرك وتقلده فيه، وهذه الصورة خارجة عن الحديث، كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضا موقوفا على تعريف الشارع، كحد الغنى الموجب للزكاة، فإنه يختلف باختلاف الأحوال، فحققه الشارع بعشرين دينارا ومائتي درهم وأشباه ذلك، وإنما النظر هنا فيما وُكِل تحقيقه إلى المكلف.
فقد ظهر معنى المسألة وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل القلب كما أورده السائل المستشكل، وهو تحقيق بالغ والحمد لله الذي بنعته تتم الصالحات".
وهذا الذي حقّقه الشاطبي رحمه الله من أروع ما قيل في المسألة، وهو الصواب الذي نقول به، والله أعلم.
24 محرم 1428هـ
عن مجلة الزيتونة
http://www.azeytouna.net/Cevab-Sual/cevab_sual027.htm