تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مختصر ظلال سور الجزء الأخير من القرآن (سيد قطب )



كلسينا
01-09-2008, 09:16 AM
المقدمة


بسم الله الرحمن الرحيم




عندما أقتنيت مجموعة (في ظلال القرآن .. للشهيد سيد قطب ) أعتبرتها من أحدث وأوسع التفاسير القرآنية الموجودة .وأعتبرتها مرجع للتوسع بآيات معينة حين دراستي لتدبر القرآن وبعد أعوام على أقتناء هذه المجموعة القيمة ،


طلب مني أستاذي (الأستاذ محمد المعصراني) رحمه الله .البدء بقراءة هذه المجموعة والعمل على أخذ مقتطفات منها ، لأن المؤلف رحمه الله متوسع بكل مقطع على ثلاث مراحل ، ففيها تكرار مع توسعات بنظرنا غير ضرورية فهي واضحة وفيها شروحات فقهية لا يجرؤ أحدنا على أتخاذ موقف بها دون العودة إلى رجال الدين فحذفتها . وذلك لحرصي على توصيل بعض مافي هذه المجموعة من درر ثمينة نفعنا الله بها والقراء الكرام بأذنه . وخصوصاً بعد أن علمت أن معظم أصدقائي ممن أقتنوا هذه الدرة الأصلية الكاملة لم يقرأوها إنما هم مثلي يعتبرونها مرجع .


إن مجموعة (في ظلال القرآن) هي رؤية الشيخ الشهيد سيد قطب حول القرآن الكريم . وهذا الكتيب المتواضع هو مقتطفات من الجزء الثلاثون لهذه الرؤية .

الفقير إلى الله الطامع برحمته
محمد حبيب كلسينا

مقاوم
01-09-2008, 11:07 AM
بوركت يا حاج.... نحن بالانتظار إن شاء الله.

كلسينا
01-09-2008, 02:36 PM
سورة النبأ (بداية الجزء الثلاثون )

بسم الله الرحمن الرحيم

انذار عام :


إنها طرقات متوالية على الحس، وصيحات بنوم غارقين في النوم، أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية . تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد : اصحوا . استيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا .. إن هنالك إلهاً . وإن هنالك تدبيراً . وإن هنالك تقديراً . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حساباً . وإن هنالك جزاء . وإن هنالك عذاباً شديداً . ونعيماً كبيراً .. اصحوا .

ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزاً عنيفاً .. وهم كأنهم يفتحون أعينهم وينظرون ثم يعودون لما كانوا فيه . وأحياناً يتيقظ النوام ليقولوا : في إصرار وعناد : لا .. ثم يردون على المنذر المنبه بالأحجار والبزاء .. ثم يعودون لما كانوا فيه . فيعود إلى هزهم من جديد .


هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء . وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد ، عظيمة القدر ، ثقيلة الوزن .


وفي الجزء كله تركيز

- على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان .

- وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح .

- وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية .

ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها .. واتخاذها جميعاً دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة . مع التقريع بها والتخويف والتحذير .. وأحياناً تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين . والأمثلة على هذا هي الجزء كله .


حول النبأ :


هذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه ولمساته في الكون والنفس ، والدنيا والآخرة .

وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة الحقيقة التي يختلفون عليها ، وهي أمر عظيم لا خفاء فيه ، ولا شبهة ؛ ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته : ((عَمَّ يَتَسَاءلُونَ ؟ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ . كَلَّا سَيَعْلَمُونَ . ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ )) ..

ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه ، ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم ، في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم ، يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه : ((أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا ، وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ؟ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا ؟ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا ؟ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ؟ وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا ؟ وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا ؟ وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجًا؟ لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ، وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا ؟ )) ..

ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون ، ليقول لهم ما هو ؟ وكيف يكون : ((إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا . يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا . وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا . وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا)) ..

ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه : ((إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا ، لِلْطَّاغِينَ مَآبًا ، لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا ، لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا . إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا . جَزَاء وِفَاقًا . إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا ، وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا ، وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا . فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا )) ..

ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقاً ((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا : حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا ، وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا ، وَكَأْسًا دِهَاقًا ، لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا . جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا )) ..

وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه، وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل : ((رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا . ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا . إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)) ..

حقيقة النبأ

إن الناس لم يخلقوا عبثاً ولن يتركوا سدى . والذي قدر حياتهم ذلك التقدير ، ونسق حياتهم مع الكون الذي يعيشون فيه ذلك التنسيق ، لا يمكن أن يدعهم يعيشون سدى ويموتون هملاً . ويصلحون في الأرض أو يفسدون ثم يذهبون في التراب ضياعاً . ويهتدون في الحياة أو يضلون ثم يلقون مصيراً واحداً . ويعدلون في الأرض أو يظلمون ثم يذهب العدل والظلم جميعاً .

إن هنالك يوماً للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان . وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود : ((إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)).. وهو يوم ينقلب فيه نظام هذا الكون وينفرط فيه عقد هذا النظام .

((يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا . وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا . وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا)) ..

والصور : البوق . ونحن لا ندري عنه إلا اسمه . ولا نعلم إلا أنه سينفخ فيه . وليس لنا أن نشغل أنفسنا بكيفية ذلك . فهي لا تزيدنا إيماناً ولا تأثر بالحادث . وقد صان الله طاقاتنا عن أن تتبدد في البحث وراء هذا الغيب المكنون ، وأعطانا منه القدر الذي ينفعنا فلا نزيد . إنما نحن نتصور النفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجاً .. نتصور هذا المشهد والخلائق التي توارت شخوصها جيلاً بعد جيل ، وأخلت وجه الأرض لمن يأتي بعدها كي لا يضيق بهم وجه الأرض المحدود .. نتصور مشهد الخلائق جميعاً .. أفواجاً .. مبعوثين قائمين آتين من كل فج إلى حيث يحشرون . نتصور الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة . ونتصور الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها ، ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قط في وقت واحد وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم .. أين ؟ لا ندري .. ففي هذا الكون الذي نعرفه أحذاث وأهوال جسام .

والسماء المبنية المتينة .. فتحت فكانت أبواباً .. فهي منشقة . منفرجة . كما جاء في مواضع وسور أخرى . على هيئة لا عهد لنا بها . والجبال الرواسي الأوتاد سيرت فكانت سراباً . فهي مدكوكة مبسوسة مثارة في الهواء هباء ، يحركه الهواء (كما جاء في مواضع وسور أخرى . ومن ثم فلا وجود لها كالسراب الذي ليس له حقيقة . أو إنها تنعكس إليها الأشعة وهي هباء فتبدو كالسراب .

إنه الهول البادي في انقلاب الكون المنظور ، كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور . وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير ..

ثم يمضي السياق فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة . وتكملة لمشاهد اليوم الذي يتم فيه ذلك كله . يجيئ المشهد الختامي في السورة ، حيث يقف جبريل ( عليه السلام ) والملائكة صفاً بين يدي الرحمن خاشعين .لا يتكلمون (إلا من أذن له الرحمن ) في الموقف المهيب الجليل .

((رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا. يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا))..

ذلك الجزاء الذي فصله في المقطع السابق : جزاء الطغاة وجزاء التقاة . هذا الجزاء ((مِّن رَّبِّكَ)) .. ((رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ)) .. فهي المناسبة المهيأة لهذه اللمسة ولهذه الحقيقة الكبيرة . حقيقة الربوبية الواحدة التي تشمل الإنسان . كما تشمل السماوات والأرض ، وتشمل الدنيا والآخرة ، وتجازي على الطغيان والتقوى ، وتنتهي إليها الآخرة والأولى .. ثم هو ((الرحْمَنِ)) .. ومن رحمته ذلك الجزاء لهؤلاء وهؤلاء . حتى عذاب الطغاة ينبثق من رحمة الرحمن . ومن الرحمة أن يجد الشر جزاءه وألا يتساوى مع الخير في مصيره .
وفي ظل هذا المشهد تنطلق صيحة من صيحات الإنذار ، وهزة للنائمين السادرين في الخمار : ((ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا . إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)) ..

إنها الهزة العنيفة لولئك الذين يتساءلون في ارتياب : ((ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ )) .. فلا مجال للتساؤل والإختلاف .. والفرصة ما تزال سانحة .(( فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً)) ..قبل أن تكون جهنم مرصاداً ومآباً .

وهو الإنذار الذي يوقظ من الخمار : ((إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا)) .. ليس بالبعيد ، فجهنم تنتظركم وتترصد لكم . على النحو الذي رأيتم . والدنيا كلها رحلة قصيرة ، وعمر قريب .
وهوعذاب من الهول بحيث يدع الكافر يؤثر العدم على الوجود : ((يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا)) .. وما يقولها إلا وهو ضائق مكروب .

وهو تعبير يلقي ظلال الرهبة والندم ، حتى ليتمنى الكائن الإنساني أن ينعدم . ويصير إلى عنصر مهمل زهيد . ويرى هذا أهون من مواجهة الموقف الرعيب الشديد .. وهو الموقف الذي يقابل تساؤل المتسائلين وشك المتشككين . في ذلك النبأ العظيم ...

فـاروق
01-09-2008, 02:38 PM
بارك الله بك يا حج...

نتابع ان شاء الله

هنا الحقيقه
01-10-2008, 07:08 AM
احسنت اخي كلسينا وانا متابع ان شاء الله

كلسينا
01-11-2008, 12:42 PM
شكراً لمتابعتكم وبارك الله فيكم جميع ونفعنا وأياكم بهذا العمل .

كلسينا
01-11-2008, 12:47 PM
سورة النازعات


بسم الله الرحمن الرحيم


هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة ، بهولها وضخامتها ، وجديتها ، وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني ،والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها ؛ ثم في الدار الآخرة ، التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها .


وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب ، ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى . وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة . فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية ..


يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئاً من الحدس والرهبة والتوجس . يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث ، كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار : ((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا . وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا . وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا . فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا . فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا )) ..


وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه ؛ كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه : ((يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ . قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ . أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ . يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ ؟ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً ؟ قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ . فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ . فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ))..


ومن هنالك .. من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور .. يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون . فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئاً ما ، ليناسب جو الحكاية والعرض : ((هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى . إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى : اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُلْ : هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ؟ وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ؟ فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى ، فَكَذَّبَ وَعَصَى ، ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى ، فَقَالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى . فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى )) .. وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى .


ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره ، في الدنيا والآخرة . فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر ، قوية الإيقاع ، تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام : ((أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء؟ بَنَاهَا ، رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ، وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ؛ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا ، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا، مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ )) ..


وهنا (بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية ) يجيء مشهد الطامة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا . جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى :
((فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى . فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى. وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) ..

وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى ،والجحيم المبرزة لمن يرى ، وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا ، ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى .. في هذه اللحظة يرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن موعدها . يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها :
((يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا؟ فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا؟ إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا. إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)) .. والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل ، تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل .


دعوة الفراعنة والشعوب


((اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)) .. والطغيان أمر لا ينبغي أن يكون ولا أن يبقى . نه أمر كريه ، مفسد للأرض ، مخالف لما يحبه الله ، مؤد إلى ما يكره .. فمن أجل منعه ينتدب الله عبداً من عباده المختارين . ينتدبه بنفسه سبحانه . ليحاول وقف هذا الشر ، ومنع هذا الفساد ، ووقف هذا الطغيان .. إنه أمر كريه شديد الكراهية حتى ليخاطب الله بذاته عبداً من عباده ليذهب إلى الطاغية ، فيحاول رده عما هو فيه ،والإعذار إليه قبل أن يأخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى .


((اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)) .. ثم يعلمه الله كيف يخاطب الطاغية بأحب أسلوب وأشده جاذبية للقلوب ، لعله ينتهي، ويتقي غضب الله وأخذه : ((فَقُلْ : هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ؟ )) .. هل لك أن تتطهر من رجس الطغيان ودنس العصيان ؟ هل لك إلى طريق الصلاة والبركة ؟ ((وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ؟ )) .. هل لك أن أعرفك طريق ربك ؟ فإذا عرفته وقعت في قلبك خشيته . فما يطغى الإنسان ويعصي إلا حين يذهب عن ربه بعيداً ، وإلا حين يضل طريقه إليه فيقسو قلبه ويفسد ، فيكون منه الطغيان والتمرد .


لقد بلغ موسى ما كلف تبليغه . بالأسلوب الذي لقنه ربه وعرفه . ولم يفلح هذا الأسلوب الحبيب في إلانة القلب الطاغي الخاوي من معرفة ربه . فأراه موسى الآية الكبرى . آية العصا واليد البيضاء كما جاء في المواضع الأخرى : ((فَكَذَّبَ وَعَصَى)) .. وانتهى مشهد اللقاء والتبليغ عند التكذيب والمعصية في اختصار وإجمال .

ثم يعرض مشهداً آخر . مشهد فرعون يتولى عن موسى ، ويسعى في جمع السحرة للمباراة بين السحر والحق . حين عز عليه أن يستسلم للحق والهدى : ((ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى، فَحَشَرَ فَنَادَى ، فَقَالَ : أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى .)) .. ويسارع السياق هنا إلى عرض قولة الطاغية الكافرة ، مجملاً مشاهد سعيه وحشره للسحرة وتفصيلاتها . فقد أدبر يسعى في الكيد والمحاولة ، فحشر السحرة والجماهير ؛ ثم انطلقت منه الكلمة الوقحة المتطاولة ، المليئة بالغرور والجهالة : ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) ..


قالها الطاغية مخدوعاً بغفلة جماهيره ، وإذعانها وانقيادها . فما يخدع الطغات شيء ما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها . وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سلطاناً . إنما هي الجماهير الغافلة الذلول ، تمطي له ظهرها فيركب . وتمد له أعناقها فيجر . وتحني له رؤوسها فيستعلي . وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى .


والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى . وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم . فالطاغية (وهو فرد) لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين ، لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها . وكل فرد فيها هو كفء للطاغية من ناحية القوة ولكن الطاغية يخدعها فيوهمها أنه يملك لها شيئاً . وما يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبداً . وما يمكن أن يطغى فرد في أمة رشيدة أبداً . وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها وتؤمن به وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضراً ولا رشداً .


فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان ، ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة : ((أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)) .. وما كان ليقولها أبداً لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة ، تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء . وإن يسلبه الذباب شيئاً لا يستنقذه . وأمام هذا التطاول الوقح ، بعد الطغيان البشع ، تحركت القوى الكبرى (( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى)) .. ويقدم هنا نكال الآخرة على نكال الأولى .. لأنه أشد وأبقى . فهو النكال الحقيقي الذي يأخذ الطغاة والعصات بشدته وبخلوده . ونكال الأولى كان عنيفاً قاسياً . فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى ؟ وفرعون كان ذا قوة وسلطان ومجد موروث عريق ؛ فكيف بغيره من المكذبين ؟ وكيف بهؤلاء الذين يواجهون الدعوة من المشركين ؟ ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى )) ..فالذي يعرف ربه ويخشاه هو الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه . أما الذي لا يعرف قلبه التقوى فبينه وبين العبرة حاجز ، وبينه وبين العظة حجاب . حتى يصطدم بالعاقبة اصطداماً . وحتى يأخذه الله نكال الآخرة والأولى . وكل ميسر لنهج ، وكل ميسر لعاقبة . والعبرة لمن يخشى ..


البداية والنهاية:


((فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى)) ..


إن الحياة الدنيا متاع ، متاع مقدر بدقة وإحكام . وفق تدبير يرتبط بالكون كله ونشأة الحياة والإنسان . ولكنه متاع . متاع ينتهي إلى أجله.. فإذا جاءت الطامة الكبرى غطت على كل شيء ، وطمت على كل شيء . عل ى المتاع الموقوت وعلى الكون المتين المقدر المنظم . على السماء المبنية والأرض المدحوة والجبال المرساة والأحياء والحياة وعلى كل ما كان من مصارع ومواقع . فهي أكبر من هذا كله ، وهي تطم وتعم على هذا كله .


عندئذ يتذكر الإنسان ما سعى . يتذكر سعيه ويستحضره ، إن كانت أحداث الحياة ، وشواغل المتاع أغفلته عنه وأنسته أياه . يتذكره ويستحضره ولكن حيث لا يفيد التذكر إلا الحسرة وتصور ما وراءه من العذاب والبلوى .


((وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى)).. فهي بارزة مكشوفة لكل ذي نظر .عندئذ تختلف المصائر والعواقب ؛ وتتجلى غاية التدبير والتقدير في النشأة الأولى : ((فَأَمَّا مَن طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)) .. والطغيان هنا أشمل من معناه القريب . فهو وصف لكل من يتجاوز الحق والهدى . ومداه أوسع من الطغاة ذوي السلطان والجبروت ، حيث يشمل كل متجاوز للهدى ، وكل من آثر الحياة الدنيا ، واختارها على الآخرة . فعمل لها وحدها ، غير حاسب للآخرة حساباً . واعتبار الآخرة هو الذي يقيم الموازين في يد الإنسان وضميره . فإذا أهمل حساب الآخرة أو آثر عليها الدنيا اختلت كل الموازين في يده ، واختلت كل القيم في تقديره ، واختلت كل قواعد الشعور والسلوك في حياته ، وعد طاغياً وباغياً ومتجاوزاً للمدى . فأما هذا .. ((فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى)) ..


((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)) .. والذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية ، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة . فظل في دائرة الطاعة . ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة . فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان ، وكل تجاوز ، وكل معصية . وهو اساس البلوى ، وينبوع الشر ، وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى . فالجهل سهل علاجه . ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها .


والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة . وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى . ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة . فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها ، الخبير بدوائها وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها ، ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها، وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها .


ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى . فهو (سبحانه) يعلم أن هذا خارج عن طاقته . ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها . وأن يستعين في هذا بالخوف من مقام ربه الجليل العظيم . وكتب له بهذا الجهاد الشاق ، الجنة مثابة ومأوى . ذلك أن الله يعلم ضخامة هذا الجهاد ؛ وقيمته كذلك في تهذيب النفس البشرية وتقويمها ورفعها إلى المقام الأثنى .


إن الإنسان إنسان بهذا النهي ، وبهذا الجهاد ، وبهذا الارتفاع . وليس إنساناً يترك نفسه لهواه ، وإطاعة جواذبه ، بحجة أن هذا مركب في طبيعته . فالذي أودع نفسه الاستعداد لجيشان الهوى ، هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه ، ونهي النفس عنه ، ورفعها عن جاذبيته ؛ وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر ويرتفع ويرقى .


وهنالك حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان . تلك هي حرية الأنتصار على هوى النفس والانطلاق من أسر الشهوة ، والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية الاختيار والتقدير الإنساني . وهنالك حرية حيوانية ، هي هزيمة الإنسان أمام هواه ، وعبوديته لشهوته ، وانفلات الزمام من إرادته . وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية مستعبد يلبس عبوديته رداء زائفاً من الحرية .


إن الأول هو الذي ارتفع ةارتقى وتهيأ للحياة الرفيعة الطليقة في جنة المأوى . أما الآخر فهو الذي ارتكس وانتكس وتهيأ للحياة في درك الجحيم حيث تهدر إنسانيته ، ويرتد شيئاً توقد به النار التي وقودها الناس (من هذا الصنف ) والحجارة .


دور الرسول والدعاة


((يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا)) ..وكان المتعنتون من المشركين يسألون الرسول- صلى الله عليه وسلم- كلما سمعوا وصف أهوال الساعة وأحداثها وما تنتهي إليه من حساب وجزاء .. متى أو أيان موعدها .. والجواب ((فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا))؟ .. وهو جواب يوحي بعظمتها وضخامتها ، بحيث يبدو هذا السؤال تافهاً باهتاً ، وتطفلاً كذلك وتجاوزاً . فها هو ذا يقال للرسول العظيم : ((ِفيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا))؟ .. إنها لأعظم من أن تسأل عن موعدها .(( إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا)) .. فهو الذي يعلم موعدها ، وهو الذي يتولى كل شيء فيها . ((إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا)) ..هذه وظيفتك ، وهذه حدودك .. أن تنذر بها من ينفعه الإنذار ، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ويعمل لها ، ويتوقعها في موعدها الموكل إلى صاحبها سبحانه وتعالى .

عبرة لمن يعتبر


((كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)) .. فهي من ضخامة الوقع في النفس بحيث تتضاءل إلى جوارها الحياة الدنيا ، وأعمارها ، وأحداثها ، ومتاعهل ، وأشياؤها ، فتبدو في حس أصحابها كأنها بعض يوم .. عشية أو ضحاها .


وتنطوي هذه الحياة الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها ويتطاحنون . والتي يؤثرونها ويدعون في سبيلها نصيبهم في الآخرة . والتي يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان . والتي يجرفهم الهوى فيعيشون له فيها .. تنطوي هذه الحياة في نفوس أصحابها أنفسهم ، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها .


هذه هي : قصيرة عاجلة ، هزيلة ذاهبة ، زهيدة تافهة .. أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة ؟ ومن أجل شهوة زائلة يدعون الجنة مثابة ومأوى .


ألا إنها الحماقة الكبرى . الحماقة التي لا يرتكبها إنسان . يسمع ويرى .

من هناك
01-11-2008, 03:36 PM
بارك الله بك يا حاج ويجب علينا ان نراجع التفاسير مرة بعد مرة لكل ما حفظنها حتى نحس بوقعه في القلب
إن في جزء عمّ الكثير الكثير من العبر ولكننا تعودنا عليها بشكل كبير جداً بسبب حفظنا لها في الصغر وحفظنا للتفسير المختصر جداً ايضاً في تلك الفترة فتذهب عنا الكثير من المعاني العظيمة جداً

هنا الحقيقه
01-11-2008, 03:51 PM
يبارك بيك حاج

تصوير مدهش وشرح جميل جدا

كلسينا
01-12-2008, 01:20 PM
شكراً لكم أخوتي ولكن لا تنسو صاحب العمل الأساسي الشيخ الشهيد سيد قطب من دعواتكم جعله الله في ميزان حسناته .

منال
01-16-2008, 06:11 PM
ما شاء الله متى كان هذا الموضوع

يثبت لاهميته وللمتابعة

بس هنسق شوية عشان نتابع معاكم وجزاك الله خيرا عمو كلسينا

منال
01-16-2008, 06:41 PM
تم التنسيق ولو فى ازعاج بالالوان قولوا نغيرها نرجعها بالاسود
وكذا لو الخط كبير
هو صراحة اريد درجة اقل من هذه بس اذا عملت 4 ما بتطلعلى درجة الا الطبيعية فاختار 5 يطلعلى كبير اوى كما هو عليه الان
فكما تحبون نبقيه او نصغره
وبارك الله فيكم ونفع بكم

مقاوم
01-17-2008, 03:37 AM
شكراً لكم أخوتي ولكن لا تنسو صاحب العمل الأساسي الشيخ الشهيد سيد قطب من دعواتكم جعله الله في ميزان حسناته . سبقتني يا حاج. وهي إن شاء الله من العلم النافع الذي يجرى أجره على صاحبه إلى يوم البعث.
اللهم اجعل كتاب الظلال ظلا لسيد يوم القيامة.

أختي منال
أثابك الله على هذا الجهد الطيب فقد سهل علي القراءة كثيرا.

كلسينا
01-19-2008, 11:38 AM
اللهم آمين وشكراً للمتابعة .
بارك الله بجهودك أخت منال فالتعديل سهل القراءة كما قال الأخ مقاوم فعلى بركة الله

كلسينا
01-19-2008, 11:42 AM
سورة عبس


بسم الله الرحمن الرحيم


من آيات العصمة والعتاب :

((عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَن جَاءهُ الْأَعْمَى)) .. بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب . إكراماً له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه . ثم يستدير التعبير إلى العتاب في صيغة الخطاب .فيبدأ هادئاً شيئاً ما : ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ؟ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى)) .. وما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير . أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير (الذي جاءك راغباً في ما عندك من الخير ) وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى . الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه . وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان الله ..

ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته ؛ وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب : ((أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ، فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى؟ وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ؟ وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى ، وَهُوَ يَخْشَى ، فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى ؟ )) .. أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والنور . فأنت تتصدى له وتحفل أمره ، وتخهد لهدايته ، ((وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ؟ )) .. وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه ؟ وأنت لا تُسأل عن ذنبه . وأنت لا تُنصر به . وأنت لا تقوم بأمره .. ((وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى )) .. طائعاً مختاراً ، ((وَهُوَ يَخْشَى )) .. ويتوقى ((فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى)) .. ويسمي الانشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهياً .. وهو وصف شديد ..

ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر : ((كَلَّا)) .. لا يكن ذلك أبداً .. وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام .

ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها ، واستغناءها عن كل أحد . وعن كل سند . وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها ، كائناً ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا : ((إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَن شَاء ذَكَرَهُ . فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ . مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ )) .. فهي كريمة في كل اعتبار . كريمة في صحفها ، المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها . وهم كذلك كرام بررة .. فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها ، وما يمسها من قريب أو من بعيد . وهي عزيزة لا يُتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها ؛ فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها ..
هذا هو الميزان . ميزان الله . الميزان الذي توزن به القيم والاعتبارات ، ويقدر به الناس والأوضاع .. وهذه هي الكلمة . كلمة الله . الكلمة التي ينتهي إليها كل قول ، وكل حكم ، وكل فصل .

وأين هذا ؟ ومتى ؟ في مكة ، والدعوة مطاردة ، والمسلمون قلة . والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي . إنما هي الدعوة أولاً وأخيراً . ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان ، وإنما هي هذه القيم ، وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر . فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم ..

ثم إن الأمر (كما تقدم ) أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد ، ومن موضوعه المباشر . إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض ، ومن الأعتبارات السماوية لا من الأعتبارات الأرضية .. (( إنّ أكرَمَكُم عِندَ الله أتقَاكُم ))..والأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال ، ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى ، التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية . النسب والقوة والمال .. وسائر القيم الأخرى ، لا وزن لها حين تتعرى عن اإيمان والتقوى . والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنفقت لحساب الإيمان والتقوى .

هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة .

ولقد انفعلت نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم- لهذا التوجيه ، ولذلك العتاب .واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها ، وفي حياة الجماعة المسلمة . بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى .ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية ، ولا في المسلمين أنفسهم .. غير أن الرسول- صلى الله عليه وسلم- قد استطاع (بإرادة الله ، ثم بتصرفاته هو وبتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت ) أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة ؛ وأن يحرسها ويرعاها ، حتى تتأصل جذورها ، وتمتد فروعها ، وتظلل حياة الجماعة المسلمة قروناً طويلة .. على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى ..

ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها ، زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية ، لمولاه زيد بن حارثة . وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة ، جعل عمه حمزة ومولاه زيداً أخوين . وجعل خالد بن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين .وبعث زيداً أميراً في غزوة مؤته ، وجعله الأمير الأول ، يليه جعفر بن أبي طالب ، ثم عبد الله بن رواحة الأنصاري ، على ثلاث آلاف من المهاجرين والأنصار ، فيهم خالد بن الوليد . وكان آخر عمل من أعماله- صلى الله عليه وسلم- أن أمر أسامة بن زيد على جيش لغزوا الروم ، يضم كثرة من المهاجرين والأنصار ، فيهم أبوبكر وعمر وزيراه ، وصاحباه ، والخليفتان بعده بإجماع المسلمين . وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه- صلى الله عليه وسلم- ومن أسبق قريش إلى الإسلام .ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي ، بحكم إحاءات القومية الضيقة ، ضرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال : ( سلمان منا أهل البيت ) فتجاوز به (بقيم السماء وميزانها ) كل آفاق النسب الذي يستعزون به ، وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها .. وجعله من أهل البيت رأساً .وجليبيب (وهو رجل من الموالي )كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار . فلما تأبى أبوابها قالت هي : أتريدون أن تردوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمره ؟ إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه . فرضيا وزوجاها . وقد افتقده رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه .فقال لأصحابه : ( هل تفقدون من أحد ؟ فقالو : لا . قال : لكني أفقد جليبيباً ، فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه . فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فوقف عليه ، ثم قال : قتل سبعة ثم قتلوه . هذا مني وأنا منه . هذا مني وأنا منه . ثم وضعه على ساعديه ، ليس له سرير إلا ساعد النبي- صلى الله عليه وسلم- قال : فحفر له ، ووضع في قبره ولم يذكر غسلاً .

بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد . ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء ، طليقاً من قيود الأرض ، بينما هو يعيش على الأرض .. وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام .

واستقرت تلك الحقيقة الكبيرة في المجتمع الإسلامي ، وظلت مستقرة بعد ذلك آماداً طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة .

وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها .. في اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم . ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريباً جداً بعد أن طغت الجاهلية طغياناً شاملاً في أنحاء الأرض جميعاً .واصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية . وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية . أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى ، وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها . وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى ..
ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية ؛ وأن يتحقق على يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة ، والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة ..

الإنسان الجاحد

يعجب السياق من أمر هذا الإنسان ، الذي يعرض عن الهدى ، ويستغني عن الإيمان ، ويستعلي على الدعوة إلى ربه .. يعجب من أمره وكفره ، وهو لا يذكر مصدر وجوده ، وأصل نشأته ، ولا يرى عناية الله به وهيمنته كذلك على كل مرحلة من مراحل نشأته في الأولى والآخرة ؛ ولا يؤدي ما عليه لخالقه وكافله ومحاسبه : ((قُتِلَ الْإِنسَانُ .)) .. فإنه ليستحق القتل على عجيب تصرفه .. فهي صيغة تفظيع وتقبيح وتشنيع لأمره . وإفادة أنه يرتكب ما يستوجب القتل لشناعته وبشاعته .. ((مَا أَكْفَرَهُ )) .. ما أشد كفره وجحوده ونكرانه لمقتضيات نشأته وخلقته . ولو رعى هذه المقتضيات لشكر خالقه ، ولتواضع في دنياه ، ولذكر آخرته ..

وإلا فعلام يتكبر ويستغني ويعرض ؟ وما هو أصله وما هو مبدؤه ؟ ((مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ )) ؟ .. إنه أصل متواضع زهيد ، يستمد كل قيمة من فضل الله ونعمته ، ومن تقديره وتدبيره : ((مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ )) .. من هذا الشيء الذي لا قيمة له ؛ ومن هذا الأصل الذي لا قوام له .. ولكن خالقه هو الذي قدره . (قدره : من تقدير الصنع وإحكامه . وقدره :من منحه قدراً وقيمة فجعله خلقاً سوياً ، وجعله خلقاً كريماً . وارتفع به من ذلك الأصل المتواضع ، إلى المقام الرفيع الذي تسخر له فيه الأرض وما عليها . ((ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ )) .. فمهد له سبيل الحياة . أو مهد له سبيل الهداية . ويسره لسلوكه بما أودعه من خصائص واستعدادات . سواء لرحلة الحياة، أو الأهتداء فيها . حتى إذا انتهت الرحلة ، صار إلى النهاية التي يصير إليها كل حي . بلا اختيار ولا فرار : ((ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ )) .. فأمره في نهايته كأمره في بدايته ، في يد الذي أخرجه إلى الحياة حين شاء ، وجعل مثواه جوف الأرض ، كرامة له ورعاية ، ولم يجعل السنة أن يترك على ظهرها للجوارح والكواسر . وأودع فطرته الحرص على مواراة ميته وقبره . فكان هذا طرفاً من تدبيره له وتقديره .

حتى إذا حان الموعد الذي اقتدته مشيئته ، أعاده إلى الحياة لما يراد به من الأمر : ((ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَه )) .. فليس متروكاً سدى ، ولا ذاهباً بلا حساب ولا جزاء .. فهل تراه تهيأ لهذا الأمر واستعد ؟

((كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ )) .. الإنسان عامة ، بأفراده جملة ، وأجياله كافة .. مقصر ، لم يؤدي واجبه . لم يذكر أصله ونشأته حق الذكرى .. ولم يشكر خالقه وهاديه وكافله حق الشكر . ولم يقض هذه الرحلة على الأرض في الأستعداد ليوم الحساب والجزاء .. هو هكذا في مجموعه . فوق أن الكثرة تعرض وتتولى ، وتستغني وتتكبر على الهدى .

يد القدرة في حياة الإنسان

((فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ . أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا . ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا . فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ، وَعِنَبًا وَقَضْبًا . وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا . وَحَدَائِقَ غُلْبًا . وَفَاكِهَةً وَأَبًّا . مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ )) .. إلى حين ينتهي فيه هذا المتاع ؛ الذي قدره الله حين قدر الحياة . ثم يكون بعد ذلك أمر آخر يعقب المتاع . أمر يجدر بالإنسان أن يتدبره قبل أن يجيء .

مشاهد من العاقبة

((فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ )) .. هذه هي خاتمة المتاع . وهذه هي التي تتفق مع التقدير الطويل ، والتدبير الشامل ، لكل خطوة وكل مرحلة في نشأة الإنسان . وفي هذا المشهد ختام يتناسق مع المطلع . مع الذي جاء يسعى وهو يخشى . والذي استغنى وأعرض عن الهدى . ثم هذان هما في ميزان الله . والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ ، يكاد يخرق صماخ الأذن .

وهو يمهد بهذا الجرس العنيف للمشهد الذي يليه : مشهد المرء يفر وينسلخ من ألصق الناس به : ((يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ )) .. أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم ؛ ولكن هذه الصاخة تمزق هذه الروابط تمزيقاً ، وتقطع تلك الوشائج تقطيعاً .

والهول في المشهد هول نفسي بحت ، يفزع النفس ويفصلها عن محيطها . ويستبد بها أستبداداً . فللكل نفسه وشأنه ، ولديه الكفاية من الهم الخاص به ، الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد : ((لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ )) .. والظلال الكامنة وراء هذه العبارة وفي طياتها ظلال عميقة سحيقة . فما يوجد أحصر ولا أشمل من هذا التعبير ، لتصوير الهم الذي يشغل الحس والضمير .

ذلك حال الخلق جميعاً في هول ذلك اليوم .. إذا جاءت الصاخة .. ثم يأخذ في تصوير حال المؤمنين وحال الكافرين ، بعد تقويمهم ووزنهم بميزان الله هناك : ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ . ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ )) .. فهذه وجوه مستنيرة منيرة متهللة ضاحكة مستبشرة ، راجية في ربها ، مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها . فهي تنجو من هول الصاخة المذهل لتتهلل وتستنير وتضحك وتستبشر . أو هي قد عرفت مصيرها ، وتبين لها مكانها ، فتهللت واستبشرت بعد الهول المذهل ..

((وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ . تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ . أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ )) .. فأما هذه فتعلوها غبرة الحزن والحسرة ، ويغشاها سواد الذل والانقباض . وقد عرفت ما قدمت ، فاستيقنت ما ينتظرها من جزاء .. ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ )) .. الذين لا يؤمنون بالله وبرسالاته ، والذين خرجوا عن حدوده وانتهكوا حرماته .. وفي هذه الوجوه وتلك قد ارتسم مصير هؤلاء وهؤلاء . ارتسم ملامح وسمات من خلال الألفاظ والعبارات . وكأنما الوجوه شاخصة ، لقوة التعبير القرآني ودقة لمساته .
بذلك يتناسق المطلع والختام .. المطلع يقرر حقيقة الميزان . والختام يقرر نتيجة الميزان . وتستقل هذه السورة القصيرة بهذا الحشد من الحقائق الضخام ، والمشاهد والمناظر ، والإيقاعات والموحيات . وتفي بها كلها هذا الوفاء الجميل الدقيق ..

منال
01-19-2008, 12:18 PM
السلام عليكم

الحمدلله أن أراحكم التنسيق وبارك الله بجهودكم

أضيف إضافة بسيطة على سورة عبس وهى حكمة الترتيب فى الآية
( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ )
قدّم الأخ هنا فى موضع فرار لأن الإنسان فى الدنيا إذا نزل به مكروه يفزع إلى أخيه أو إخوانه ليوضح أنه مع ذلك سيفر منه فى هذا اليوم العصيب.
قال ابن جرير : وفي آية عبس ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ )
قال ابن جرير أيضا : ويعني بقوله : ( يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) يفرّ عن أخيه وأمه وأبيه ، ( وَصَاحِبَتِهِ ) يعني زوجته التي كانت زوجته في الدنيا ، ( وَبَنِيهِ ) حذرا من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم . وقال بعضهم : معنى قوله ( يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) يفرّ عن أخيه لئلا يراه وما ينـزل به .


بخلاف آية سورة المعارج
( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ )
هنا موضع مفاداة لأن الإنسان مستعد للتضحية بكل شىء وبنفسه دون ابنائه ومع ذلك تنعكس الحالة فى الآخرة فيتمنى لو بفتدى من العذاب بهم.
قال ابن جرير رحمه الله في آية المعارج : بدأ جلّ ثناؤه بِذِكر البنين ، ثم الصاحبة ، ثم الأخ ، إعلاما منه عباده أن الكافر من عظيم ما ينزل به يومئذ من البلاء يفتدي نفسه لو وَجَد إلى ذلك سبيلاً بأحبّ الناس إليه كان في الدنيا ، وأقربهم إليه نسبا .

أبو مُحمد
01-19-2008, 02:54 PM
جزاكم الله خيرا

كلسينا
01-25-2008, 11:28 AM
سورة التكوير



بسم الله الرحمن الرحيم



هذه السورة ذات مقطعين اثنين تعالج في كل مقطع منها تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة :



الأولى حقيقة القيامة ، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل ، يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار ، والأرض والسماء ، والأنعام والوحوش ، كما يشمل بني الإنسان .



الثانية حقيقة الوحي ، وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله ، وصفة النبي الذي يتلقاه ، ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه ، ومع المشيئة الكبرى التي فطرتهم ونزلت لهم الوحي .



والإيقاع العام للسورة أشبه بحركة جائحة . تنطلق من عقالها ، فتقلب كل شيء ، وتنثر كل شيء ؛ وتهيج الساكن وتروع الآمن ؛ وتذهب بكل مألوف وتبدل كل معهود ؛ وتهز النفس البشرية هزاً عنيفاً طويلاً ، يخلعها من كل ما اعتادت أن تسكن إليه ، وتتشبث به ، فإذا هي في عاصفة الهول المدمر الجارف ريشة لا وزن لها ولا قرار . ولا ملاذ لها ولا ملجأ إلا في حمى الواحد القهار ، الذي له وحده البقاء والدوام ، وعنده وحده القرار والاطمأنان ..



ومن ثم فالسورة بإيقاعها العام وحده تخلع النفس من كل ما تطمئن إليه وتركن ، لتلوذ بكنف الله ، وتأوي إلى حماه ، وتطلب عنده الأمن والقرار ..



وفي السورة (مع هذا ) ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة ، سواء في هذا الكون الرائع الذي نراه ، أو في ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من أوضاع . وثروة كذلك من التعبيرات الأنيقة . المنتقاة لتلوين المشاهد والإيقاعات . وتلتقي هذه وتلك في حيز السورة الضيق ، فتضغط على الحس وتنفذ إليه في قوة وإيحاء .


((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ، وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ، وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ، وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ، وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ ، بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ ؟ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ، وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ ، وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ، وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ .. عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ )) .. عندما تقع هذه الأحداث الهائلة كلها ، في كيان الكون ، وفي أحوال الأحياء والأشياء . عندئذ لا يبقى لدى النفوس في حقيقة ما عملت ، وما تزودة به لهذا اليوم ، وما حملت معها للعرض ، وما أحضرت للحساب : ((عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ )) .. كل نفس تعلم ، في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها .. تعلم وهذا الهول يحيط بها ويغمرها .. تعلم وهي لا تملك أن تغير شيئاً مما أحضرت ، ولا أن تزيد عليه ولا أن تنقص منه .. تعلم وقد أنفصلت عن كل ما هو مألوف لها ، معهود في حياتها أو تصورها . وقد تغير كل شيء وتبدل كل شيء ، ولم يبقى إلا وجه الله الكريم ، الذي لا يتحول ولا يتبدل .. فما أولى أن تتجه النفوس إلى وجه الله الكريم ، فتجده (سبحانه ) عندما يتحول الكون كله ويتبدل .

ثم يجيء المقطع الثاني في السورة ((فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ . إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ، ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ . وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ . وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ . وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ . فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ؟ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ . لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ . وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )) ..ذكر يذكرهم بحقيقة وجودهم ، وحقيقة نشأتهم ، وحقيقة الكون من حولهم .. ((لِّلْعَالَمِينَ )) ..فهو دعوة عالمية من أول مرحلة . والدعوة في مكة محاصرة مطارده . كما تشهد مثل هذه النصوص المكية ..
وأمام هذا البيان الموحي الدقيق يذكرهم أن طريق الهداية ميسرة لمن يريد . وأنهم إذن مسؤولون عن أنفسهم ، وقد منحهم الله هذا التيسير : ((لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ )) .. أن يستقيم على هدى الله ، في الطريق إليه ، بعد هذا البيان ، الذي يكشف كل شبهة ، وينفي كل ريبة ، ويسقط كل عذر . ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم . فمن لم يستقم فهو مسؤول عن انحرافه . فقد كان أمامه أن يستقيم .

والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد . وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ . وما ينحرف عن طريق الله (بعد ذلك ) إلا من يريد أن ينحرف . في غير عذر ولا مبرر .
فإذا سجل عليهم إمكان الهدى ، ويسر الاستقامة ، عاد لتقرير الحقيقة الكبرى وراء مشيئتهم . حقيقة أن المشيئة الفاعلة من وراء كل شيء هي مشيئة الله سبحانه .. ((وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ )) ..وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى ، التي يرجع إليها كل أمر . فإعطاؤهم حرية الاختيار ، ويسر الأهتداء ، إنما يرجع إليها كل أمر . فإعطاؤهم حرية الاختيار ، ويسر الاهتداء ، إنما يرجع إلى تلك المشيئة . المحيطة بكل شيء كان أو يكون .

وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق ، يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة : حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله . وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير . شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعة المطلقة لما يؤمرون ، والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون . فهو طرف في مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان .
ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين ، ليدركوا ما هو الحق لذاته . وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى يطلبون عندها العون والتوفيق ، ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق .

كلسينا
02-05-2008, 07:27 PM
سورة الانفطار



بسم الله الرحمن الرحيم



تتحدث هذه السورة القصيرة عن الانقلاب الكوني . تتجه إلى لمسات وإيقاعات من لون جديد . هادئ عميق . لمسات كأنها عتاب . وإن كان في طياته وعيد .

ومن ثم فإنها تختصر في مشاهد الانقلاب ، لأن جو العتاب أهدأ ، وإيقاع العتاب أبطأ .

إنها تتحدث في المقطع الأول عن انفطار السماء وانتثار الكواكب ، وتفجير البحار وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدمت وأخرت ، في ذلك اليوم الخطير : ((إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ ، وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ، وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ . عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ )) ..



وفي المقطع الثاني تبدأ لمسة العتاب المبطنة بالوعيد ، لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة في ذاته وخلقته ، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها ، ولا يعرف لربه قدره ، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة : ((يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ؟ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ )) ..



وفي المقطع الثالث يقرر علة هذا الجحود والإنكار . فهي التكذيب بالدين (اي بالحساب ) وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود . ومن ثم يؤكد هذا الحساب توكيداً ، ويؤكد عاقبته وجزاءه المحتوم : ((كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ . وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ . إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ . يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ . وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ )) ..



فأما المقطع الأخير فيصور ضخامة يوم الحساب وهوله ، وتجرد النفوس من كل حول فيه ، وتفرد الله سبحانه بأمره الجليل : ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ؟ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ؟ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ )) ..



فالسورة في مجموعها حلقة في سلسلة الإيقاعات والطرقات التي يتولاها هذا الجزء كله بشتى الطرق والأساليب .



علة الغرور والتقصير:


يكشف الله سبحانه عن علة الغرور والتقصير (وهي التكذيب بيوم الحساب ) ويقرر حقيقة الحساب ، واختلاف الجزاء ، في توكيد وتشديد : ((كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ )) .. وكلا كلمة ردع وزجر عما هم فيه . وبل كلمة إضراب عما مضى من الحديث . ودخول في لون من القول جديد . لون البيان والتقرير والتوكيد . وهو غير العتاب والتذكير والتصوير ..


تكذبون بالحساب والمؤاخذة والجزاء . وهذه هي علة الغرور ، وعلة التقصير . فما يكذب القلب بالحساب والجزاء ثم يستقيم على هدى ولا خير ولا طاعة . وقد ترتفع القلوب وتشف ، فتطيع ربها وتعبده حباً فيه ، لا خوفاً من عقابه ، ولا طمعاً في ثوابه . ولكنها تؤمن بيوم الدين وتخشاه ، وتتطلع إليه ، لتلقى ربها الذي تحبه وتشتاق لقاءه وتتطلع إليه . فأما حين يكذب الإنسان تكذيباً بهذا اليوم ، فلن يشتمل على أدب ولا طاعة ولا نور . ولن يحيا فيه قلب ، ولن يستيقظ فيه ضمير .


تكذبون بيوم الدين وأنتم صائرون إليه ، وكل ما عملتم محسوب عليكم فيه . لا يضيع منه شيء ، ولا ينسى منه شيء : ((وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، ، كِرَامًا كَاتِبِينَ . يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ )) .. وهؤلاء الحافظون هم الأرواح الموكلة بالإنسان (من الملائكة) التي ترافقه ، وتراقبه ، وتحصي عليه كل ما يصدر عنه .. ونحن لا ندري كيف يقع هذا كله ، ولسنا مكلفين أن نعرف كيفيته . فالله يعلم أننا لم نوهب الاستعداد لإدراكها . وأنه لا خير لنا في إدراكها . لأنها غير داخلة في وظيفتنا وفي غاية وجودنا . فلا ضرورة للخوض فيما وراء المدى الذي كشفه الله لنا من هذا الغيب . ويكفي أن يشعر القلب البشري أنه غير متروك سدى . وأن عليه حفظة كراماً كاتبين يعلمون ما يفعله ، ليرتعش ويستيقظ ، ويتأدب . وهذا هو المقصود . ولما كان جو السورة جو كرم وكرامة ، فإنه يذكر من صفة الحافظين كونهم .. ((كِرَامًا)) .. ليستجيش في القلوب إحساس الخجل والتجمل بحضرة هؤلاء الكرام . فإن الإنسان ليحتشم ويستحي وهو بمحضر الكرام من الناس أن يسف أو يتبذل في لفظ أو حركة أو تصرف .. فكيف به حين يشعر ويتصور أنه في كل لحظاته وفي كل حالاته في حضرة حفظة من الملائكة كرام لا يليق أن يطلعوا منه إلا على كل كريم من الخصال والفعال ؟...


إن القرآن ليستجيش من القلب البشري أرفع المشاعر بإقرار هذه الحقيقة فيه بهذا التصوير الواقعي الحي القريب إلى الإدراك المألوف ..


ثم يقرر مصير الأبرار ومصير الفجار بعد الحساب ، القائم على ما يكتبه الكرام الكاتبون : ((. إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ . وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ . يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ . وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ )) .. فهو مصير مؤكد ، وعاقبة مقررة . أن ينتهي الأبرار إلى النعيم . والفجار إلى الجحيم . والبر هو الذي يأتي أعمال البر حتى تصبح له عادة وصفة ملازمة . وأعمال البر هي كل خير على الأطلاق . والصفة تتناسق في ظلها مع الكرم والإنسانية . كما أن الصفة التي تقابلها الفجار فيها سوء الأدب والتوقح في مقارنة الأثم والمعصية . والجحيم هي كفء للفجور . ثم يزيد حالهم فيها ظهوراً .. ((. يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ)) .. ويزيدها توكيداً وتقريراً : ((وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ )) ..لا فراراً ابتداء . ولا خلاصاً بعد الوقوع فيها ولو إلى حين . فيتم التقابل بين الأبرار والفجار . وبين النعيم والجحيم . مع زيادة الإيضاح والتقرير لحالة رواد الجحيم .


حقيقة يوم الدين :


((وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ؟ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ؟)) .. والسؤال للتجهيل مألوف في التعبير القرآني . وهو يوقع في الحس أن الأمر أعظم جداً وأهول من أن يحيط به إدراك البشر المحدود . فهو فوق كل تصور وفوق كل توقع وفوق كل مألوف .


وتكرار السؤال يزيد من الاستهوال ..



ثم يجيء البيان بما يتناسق مع هذا التصوير : ((يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا )) ..فهو العجز الشامل .وهو الشلل الكامل . وهو الأنحسار والأنكماش والأنفصال بين النفوس المشغولة بهمها وحملها عن كل من تعرف منالنفوس . ((وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ )) .. يتفرد به سبحانه . وهو المتفرد في الأمر في الدنيا والآخرة . ولكن في هذا اليوم (يوم الدين ) تتجلى هذه الحقيقة التي قد يغفل عنها في الدنيا الغافلون المغرورون . فلا يعود بها خفاء ، ولا تغيب عن مخدوع ولا مفتون .


ويتلاقى هذا الهول الصامت الواجم الجليل في نهاية السورة ، مع ذلك الهول المتحرك الهائج المائج في مطلعها . وينحصر الحس بين الهولين .. وكلاهما مذهل مهيب رعيب . وبينهما ذلك العتاب الجليل المخجل المذيب .

هنا الحقيقه
02-05-2008, 07:43 PM
يبارك الله بك اخي كلسينا

مقاوم
02-06-2008, 06:22 AM
السلام عليكم

الحمدلله أن أراحكم التنسيق وبارك الله بجهودكم

أضيف إضافة بسيطة على سورة عبس وهى حكمة الترتيب فى الآية
( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ )
قدّم الأخ هنا فى موضع فرار لأن الإنسان فى الدنيا إذا نزل به مكروه يفزع إلى أخيه أو إخوانه ليوضح أنه مع ذلك سيفر منه فى هذا اليوم العصيب.
قال ابن جرير : وفي آية عبس ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ )
قال ابن جرير أيضا : ويعني بقوله : ( يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) يفرّ عن أخيه وأمه وأبيه ، ( وَصَاحِبَتِهِ ) يعني زوجته التي كانت زوجته في الدنيا ، ( وَبَنِيهِ ) حذرا من مطالبتهم إياه بما بينه وبينهم من التبعات والمظالم . وقال بعضهم : معنى قوله ( يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ) يفرّ عن أخيه لئلا يراه وما ينـزل به .


بخلاف آية سورة المعارج
( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ )
هنا موضع مفاداة لأن الإنسان مستعد للتضحية بكل شىء وبنفسه دون ابنائه ومع ذلك تنعكس الحالة فى الآخرة فيتمنى لو بفتدى من العذاب بهم.
قال ابن جرير رحمه الله في آية المعارج : بدأ جلّ ثناؤه بِذِكر البنين ، ثم الصاحبة ، ثم الأخ ، إعلاما منه عباده أن الكافر من عظيم ما ينزل به يومئذ من البلاء يفتدي نفسه لو وَجَد إلى ذلك سبيلاً بأحبّ الناس إليه كان في الدنيا ، وأقربهم إليه نسبا .

سبحان الله!!
الحمد لله الذي هدانا لهذا وماكنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
أجبت على سؤالك الخامس في المسابقة بالأمس ولم أكن قد قرأت هذه المشاركة الطيبة فالحمد لله.

منال
02-06-2008, 01:42 PM
مش بقول لحضرتك بتقفل علىّ كل شىء بتغششهم كدا :)

بارك الله بحضرتك ولسه السؤال السادس

وبوركت عمو كلسينا على النقل الطيب لم اتم قراءة آخر اضافة بعد

لى عودة باذن الله

كلسينا
02-09-2008, 07:10 PM
سورة الطففين



بسم الله الرحمن الرحيم



هذه السورة تتألف من أربعة مقاطع .. يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطففين .



ويتحدث المقطع الثاني عن الفجار في شدة وردع وزجر ، وبيان لسبب هذا العمى وعلة هذا الانطماس ، وتصوير لجزائهم يوم القيامة .



والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة . صفحة الأبرار . ورفعة مقامهم . والنعيم المقرر لهم .والمقطع الأخير يصف ما كان الأبرار يلاقونه في عالم الغرور الباطل من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب . ليضع في مقابله ما آل إليه أمر الأبرار وأمر الفجار في عالم الحقيقة الدائم الطويل .



والسورة في عمومها تمثل جانباً من بيئة الدعوة ، كما تمثل جانباً من أسلوب الدعوة في مواجهة واقع البيئة ، وواقع النفس البشرية .



المطففين:



تبدأ السورة بالحرب يعلنها الله على المطففين : ((وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ)) .. إن التصدي لهذا الأمر بذاته في هذه السورة المكية أمر يستحق الأنتباه .إنه يدل أولاً على أن الإسلام كان يواجه في البيئة المكية حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء ، فهم يكتالون على الناس . لا من الناس .. فكأن لهم سلطاناً على الناس بسبب من الأسباب ، يجعلهم يستوفون المكيال والميزان منهم استيفاء وقسراً وليس المقصود هو أنهم يستوفون حقاً . فإذا كالوا للناس أو وزنوا كان لهم من السلطان ما يجعلهم ينقصون حق الناس ، دون أن يستطيع هؤلاء منهم نصفة ولا استيفاء حق .. ويستوي أن يكون هذا بسلطان الرياسة والجاه القبلي . أو بسلطان المال وحاجة الناس لما في أيديهم منه ؛ واحتكارهم للجارة حتى يضطر الناس إلى قبول هذا الجور منهم ؛ كما يقع حتى الآن في الأسواق .. فقد كانت هناك حالة من التطفيف صارخة استحقت هذه اللفتة المبكرة .



كما أن هذه اللفته المبكرة في البيئة المكية تشي بطبيعة هذا الدين ؛ وشمول منهجه للحياة الواقعية وشؤونها العملية ؛ وإقامتها على الأساس الأخلاقي العميق الأصيل في طبيعة هذا المنهج الإلهي القويم . فقد كره هذه الحالة الصارخة من الظلم والانحراف الأخلاقي في التعامل . وهو لم يتسلم بعد زمام الحياة الاجتماعية ، لينظمها وفق شريعته بقوة القانون وسلطان الدولة . وأرسل هذه الصيحة المدوية بالحرب والويل على المطففين . وهم يومئذ سادة مكة ، أصحاب السلطان المهيمن (لاعلى أرواح الناس ومشاعرهم عن طريق العقيدة الوثنية فحسب ، بل كذلك على اقتصادياتهم وشؤون معاشهم . ورفع صوته عالياً في وجه الغبن والبخس الواقع على الناس وهم جمهرة الشعب المستغلين لكبرائه المتجرين بأرزاقه ، المرابين المحتكرين ، المسيطرين في الوقت ذاته على الجماهير بأوهام الدين . فكان الإسلام بهذه الصيحة المنبعثة من ذاته ومن منهجه السماوي موقظاً للجماهير المستغلة . ولم يكن قط مخدراً لها حتى وهو محاصر في مكة ، بسطوة المتجبرين ، المسيطرين على المجتمع بالمال والجاه والدين .



ومن ثم ندرك طرفاً من الأسباب الحقيقية التي جعلت كبراء قريش يقفون في وجه الدعوة الإسلامية هذه الوقفة العنيدة .



فهم كانوا يدركون أن هذا الأمر الجديد الذي جاءهم به محمد- صلى الله عليه وسلم- ليس مجرد عقيدة تكمن في الضمير ، ولا تتطلب منهم إلا شهادة منطوقة ، بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . وصلاة يقيمونها لله بلا أصنام ولا أوثان .. كلا . لقد كانوا يدركون أن هذه العقيدة تعني منهجاً يحطم كل أساس الجاهلية التي تقوم عليها أوضاعهم ومصالحهم ومراكزهم . وأن طبيعة هذا المنهج لا تقبل مثنوية ولا تلتئم مع عنصر أرضي غير منبثق من عنصرها السماوي ؛ وأنها تهدد كل المقومات الأرضية الهابطة التي تقوم عليها الجاهلية .



والذين يحاربون سيطرة المنهج الإسلامي على حياة البشر في كل جيل وفي كل أرض يدركون هذه الحقيقة . يدركونها جيداً .ويعلمون أن أوضاعهم الباطلة ، ومصالحهم المغتصبة ، وكيانهم الزائف .. وسلوكهم المنحرف .. هذه كلها هي التي يهددها المنهج الإسلامي القويم الكريم .



والطغاة الظلمة المطففون (في أي صورة من صور التطفيف في المال أو في سائر الحقوق والواجبات )هم الذين يشفقون أكثر من غيرهم من سيطرة ذلك المنهج العادل النظيف . الذي لا يقبل المساومة ، ولا المداهنة ، ولا أنصاف الحلول ؟



هذا الدين قائم كحد السيف للعدل والنصفة وإقامة حياة الناس على ذلك ، لا يقبل من طاغية طغياناً ، ولا من باغ بغياً ، ولا من متكبر كبراً . ولا يقبل للناس الغبن والخسف والاستغلال . ومن ثم يحاربه كل طاغ باغ متكبر مستغل ؛ ويقف لدعوته ولدعاته بالمرصاد .



مجال التنافس :



إن أولئك المطففين ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر ، ويكذبون بيوم الحساب والجزاء ، ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية .. إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد . يريد كل منهم أن يسبق إليه ، وأن يحصل على أكبر نصيب منه . ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل..



وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس .إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم : ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ )) .. فهو مطلب يستحق السباق ، وهو غاية تستحق الغلاب .



والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم ، إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب . والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة . ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه . فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة .. ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعاً . بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعاً . والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع . والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعاً وبيئاً تأكل فيه الديدان بعضها البعض . أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين .



والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خراباً بلقعاً كما قد يتصور بعض المنحرفين . إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة ، ويجعل القيام بخلاف الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق . على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله سبحانه وهو يقول : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) .



وإن قوله ((وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)) .. لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة ، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها . ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه .



إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود ، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله . وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود . ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر . وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود . فأين مجال من مجال ؟ وأين غاية من غاية ؟ حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب ؟ . ألا إن السباق إلى هناك .



ملاحظات مكية :



ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة ، وأذاهم البالغ ، وسخريتهم اللئيمة .. الجنة للمؤمنين ، والجحيم للكافرين . وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل .. وهذا كان وحده الذي وعد به النبي - صلى الله عليه وسلم- المبايعين له . وهم يبذلون الأموال والنفوس .



فأما النصر في الدنيا ، والغلب في الأرض ، فلم يكن أبداً في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت ..



لقد كان القرآن ينشئ قلوباً يعدها لحمل الأمانة . وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع (وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء ) إلى شيء في هذه الأرض . ولا تنتظر إلا الآخرة . ولا ترجوا إلا رضوان الله . قلوباً مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال ، بلا جزاء في هذه الأرض قريب . ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين .



حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل . وأن تنتظر الآخرة وحدها موعداً للجزاء . وموعداً كذلك للفصل بين الحق والباطل .. حتى إذا وجدت هذه القلوب ، وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت ، آتاها النصر في الأرض ، وائتمنها عليه . لا لنفسها . ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة ، مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ؛ ولم تتطلع غلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه وقد تجردت لله حقاً يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه . وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة . بعد ذلك . وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرر في صورة عملية محددة ، تراها الأجيال . فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام . إنما كان قدراً من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن .

كلسينا
02-22-2008, 04:11 PM
سورة الانشقاق



بسم الله الرحمن الرحيم



يبدأ السورة ببعض مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضت بتوسع في سورة التكوير ، ثم في سورة الانفطار . ومن قبل في سورة النبأ . ولكنها هنا ذات طابع خاص . طابع الاستسلام لله . استسلام السماء واستسلام الأرض ، في طواعية وخشوع ويسر : ((إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ . وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ )) ..



ذلك المطلع الخاشع الجليل تمهيد لخطاب الإنسان ، وإلقاء الخشوع في قلبه لربه وتذكيره بأمره ؛ وبمصيره الذي هو صائر إليه عنده . حين ينطبع في حسه ظل الطاعة والخشوع والاستسلام الذي تلقيه في حسه السماء والأرض في المشهد الهائل الجليل : ((يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ، وَيَصْلَى سَعِيرًا . إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا . إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ . بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا )) ..


والمقطع الثالث عرض لمشاهد كونية حاضرة ، مما يقع تحت حس الإنسان لها إيحاؤها ولها دلالتها على التدبير والتقدير ، مع التلويح بالقسم بها على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة ، لا مفر لهم من ركوبها ومعاناتها : ((فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ)) ..

ثم يجيء المقطع الأخير في السورة تعجيباً من حال الناس الذين لا يؤمنون ؛ وهذه هي حقيقة أمرهم ، كما عرضت في المقطعين السابقين . وتلك هي نهايتهم ونهاية عالمهم كما جاء في مطلع السورة : ((فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ؟ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ ؟ )) سجدة .. ثم بيان لعلم الله بما يضمون عليه جوانحهم وتهديد لهم بمصيرهم المحتوم : ((بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ . وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ . فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ )) ..

إنها سورة هادئة الإيقاع ، جليلة الإيحاء ، يغلب عليها هذا الطابع حتى في مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضتها سورة التكوير في جو عاصف . سورة فيها لهجة التبصير المشفق الرحيم ، خطوة خطوة . في راحة ويسر ، وفي إيحاء هادئ عميق . والخطاب فيها : ((يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ )) فيه تذكير واستجاشة للضمير .

وهي بترتيب مقاطعها على هذا النحو تطوف بالقلب البشري في مجالات كونية وإنسانية شتى ، متعاقبة تعاقباً مقصوداً .. فمن مشهد الاستسلام الكوني . إلى مشهد الحساب والجزاء . إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية . إلى لمسة للقلب البشري أخرى . إلى التعجيب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كله . إلى التهديد بالعذاب الأليم واستثناء المؤمنين بأجر غير ممنون ..

حقيقة الطريق :
((يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ )) .. يا أيها الإنسان الذي خلقه ربه بإحسان ؛ والذي ميزه بهذه الإنسانية التي تفرده في هذا الكون بخصائص كان من شأنها أن يكون أعرف بربه ، وأطوع لأمره من الأرض والسماء . وقد نفخ فيه من روحه ، وأودعه القدرة على الأتصال به ، وتلقي قبس من نوره ، والفرح بأستقبال فيوضاته ، والتطهر بها أو الارتفاع إلى غير حد ، حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه ، وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة .
يا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحاً ، تحمل عبئك ، وتجهد جهدك ، وتشق طريقك .. لتصل في النهاية إلى ربك . فإليه المرجع والمآب . بعد الكد والكدح والجهاد ..

يا أيها الإنسان .. إنك كادح حتى في متاعك .. فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد . إن لم يكن جهد بدن وكد وعمل ، فهو جهد تفكير وكد مشاعر . الواجد والمحروم سواء . إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء ، وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان .. ثم النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء .

يا أيها الإنسان .. إنك لا تجد الراحة في الأرض أبداً . إنما الراحة هناك . لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام .. التعب واحد في الأرض والكدح واحد ( وإن اختلف لونه وطعمه ) أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك .. فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض . وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكن كدح ولا كد ..

يا أيها الإنسان .. الذي امتاز بخصائص الإنسان .. ألا فاختر لنفسك ما يليق بهذا الامتياز الذي خصك به الله ، اختر لنفسك الراحة من الكدح عندما تلقاه .

نهاية الطريق :

ولأن هذه اللمسة الكامنة في هذا النداء ، فإنه يصل بها مصائر الكادحين عندما يصلون إلى نهاية الطريق ، ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء : ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ، وَيَصْلَى سَعِيرًا . إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا . إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ . بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا )) .. والذي يؤتى كتابه بيمينه هو المرضي السعيد ، والذي آمن وأحسن ، فرضي الله عنه وكتب له النجاة . وهو يحاسب حساباً يسيراً . فلا يناقش ولا يدقق معه في الحساب . والذي يصور ذلك هو الآثار الواردة عن الرسول (ص) وفيها غناء ..

عن عائشة -رضى الله عنها- قالت : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في بعض صلاته : (( اللهم حاسبني حساباً يسيراً )) .. فلما أنصرف قلت : يارسول الله ، ما الحساب اليسير ؟ قال : أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه . من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك )) ..
فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه من يؤتى كتابه بيمينه .. ثم ينجو((وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا)) .. من الناجين الذين سبقوه إلى الجنة .. وهو تعبير يفيد تجمع المتوافقين على الإيمان والصلاح من أهل الجنة . كل ومن أحب من أهله وصحبه .

وهو وضع يقابل وضع المعذب الهالك المأخوذ بعمله السيئ ، الذي يؤتى كتابه وهو كاره : ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ ، فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ، وَيَصْلَى سَعِيرًا)) .. ونحن لا ندري حقيقة الكتاب ولا كيفية إيتائه باليمين أو بالشمال أو من وراء الظهر . إنما تخلص لنا حقيقة النجاة من وراء التعبير الأول ؛ وحقيقة الهلاك من وراء التعبير الثاني . وهما الحقيقتان المقصود أن نستيقنهما . فهذا التعيس الذي قضى حياته في الأرض كدحاً (ولكن في المعصية والإثم والضلال) يعرف نهايته، ويواجه مصيره ، ويدرك أن العناء الطويل بلا توقف في هذه المرة ولا انتهاء . فيدعو، وحين يدعو الإنسان بالهلاك لينجو به يكون في الموقف الذي ليس بعده ما يتقيه . حتى ليصبح الهلاك أقصى أمانيه . وهذا هو المعنى الذي أراده المتنبي وهو يقول : كفى بك داء أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن ّ أمانيا


فإنما هي التعاسة التي ليس بعدها تعاسة . والشقاء الذي ليس بعده شقاء .. ((وَيَصْلَى سَعِيرًا)) .. وهذا هو الذي يدعو الهلاك لينقذه منه .. وهيهات هيهات .



عودة للغافلين في الأرض :

(( إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا . إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ)).. وذلك كان في الدنيا .. نعم كان .. فنحن الآن مع هذا القرآن في يوم الحساب والجزاء وقد خلفنا الأرض وراءنا بعيداً في الزمان والمكان .



إنه كان مسروراً غافلاً عما وراء اللحظة الحاضرة ؛ لاهياً عما ينتظره في الدار الآخرة ،لا يحسب لها حساباً ولا يقدم لها زاداً .. إنه ظن أنه لن يرجع إلى بارئه ، ولو ظن الرجعة في نهاية المطاف لاحتقب بعض الزاد ولادخر شيئاً للحساب .


((بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا )) .. إنه ظن أن لن يحور . ولكن الحقيقة أن ربه كان مطلعاً على أمره ، محيطاً بحقيقته ، عالماً بحركاته وخطواته ،عارفاً أنه صائر إليه ، وأنه مجازيه بما كان منه .. وكذلك كان ، حين أنتهى به المطاف إلى هذا المقدور في علم الله .والذي لم يكن بد أن يكون .

منال
03-19-2008, 05:58 PM
ألن ننتقل لسورة البروج؟

كلسينا
04-22-2008, 10:48 AM
مع الأعتذار على التأخير


سورة البروج

بسم الله الرحمن الرحيم


الموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود .. والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام (قيل أنهم من النصارى الموحدين ) ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة شريرين ، ارادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم ، فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم . فشق الطغاة لهم شقاً في الأرض ،وأوقدوا فيه النار ، وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقاً ، على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنة ((وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ )) ..

تبدأ السورة بقسم : ((وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ، قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ )) ..

فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة ، واليوم الموعود وأحداثه الضخام ، والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه .. تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة .

ثم يعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة . ومع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها ، وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها : ((النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ))..
بعد ذلك تجيء التعقيبات .إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكل ما يقع في السماوات والأرض : الله ((الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) .. وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة الفجرة ؛ وإلى نعيم الجنة ... ذلك الفوز الكبير .. الذي ينتظر الؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة ، وارتفعوا على فتنة النار والحريق : ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ . إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)).. وتلويح ببطش الله الشديد ، الذي يبدىء ويعيد : ((إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ . إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ)) .. وهي حقيقة تتصل اتصالاً مباشراً بالحياة التي أزهقت في الحادث ، وتلقي وراء الحادث إشاعات بعيدة ..
وبعد ذلك بعض صفات الله تعالى . وكل صفة منها تعني أمراً .. ((وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ)) الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع . الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء . والود هنا هو البلسم المريح لمثل تلك القروح .
((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ . فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)) .. وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة ، والقدرة المطلقة ، والإرادة المطلقة .. وكلها ذات اتصال بالحادث .. كما أنها تطلق وراءه إشاعات بعيدة الآماد . ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخذه للطغاة ، وهم مدججون بالسلاح .. ((هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ. فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ؟)) .. وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما . ووراءهما (مع حادث الأخدود ) إشاعات كثيرة . وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون : ((بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ . وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ )) .. ويقرر حقيقة القرآن ، وثبات أصله وحياطته : ((بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ، فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ)) ..مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير ، في كل الأمور .

نهاية الحادث :
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف . فالبقية آتية هناك . والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه ، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آت . وهو مقرر مؤكد ، وواقع كما يقول عنه الله : ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ))..ومضوا في ضلالتهم سادرين ، لم يندموا على ما فعلوا ((ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)) .. فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق )) .. وينص على الحريق وهو مفهوم من عذاب جهنم . ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلاً للحريق في الأخدود . وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث . ولكن أين حريق من حريق ؟ في شدته أو مدته . وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق . وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق . وحريق الدنيا لحظات وتنتهي ، وحريق الآخرة آباداً لا يعلمها إلا الله . ومع حريق الدنيا رضي الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم . ومع حريق الآخرة غضب الله ، والارتكاس الهابط الذميم .
ويتمثل رضى الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة : ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ))..وهذه هي النجاة الحقيقية (( ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ)).. والفوز : النجاة والنجاح . والنجاة من عذاب الآخرة فوز . فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار ؟
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه . وهي الخاتمة الحقيقية للموقف . فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفاً من أطرافه ، لا يتم به تمامه .. وهذه الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة ، وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون .
من صفات الله وأفعاله :
((إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)) .. وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مر في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيراً شديداً .فالبطش الشديد هو بطش الجبار . الذي له ملك السماوات والأرض . لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلطون على رقعة من الأرض محدودة ، في رقعة من الزمان محدودة ..
ويظهر التعبير العلاقة بين المخاطب (وهو الرسول) والقائل وهو الله عز وجل . وهو يقول له : ((إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ..)) ربك الذي تنتسب إلى ربوبيته ، وسندك الذي تركن إلى معونته .. ولهذه النسبة قيمتها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجار بالمؤمنين .
((إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ)) .. والبدء والاعادة وإن اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة .. إلا أنهما حدثان دائبان في كل لحظة من ليل أو نهار .وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة من البدء والإعادة يبدو حادث الأخدود ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير . فهو بدء لإعادة . أو إعادة لبدء في هذه الحركة الدائبة الدائرة ..
((وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ)).. والمغفرة تتصل بقوله من قبل : ((ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا)) .. فهي من الرحمة والفضل الفائض بلا حدود ولا قيود . وهي الباب المفتوح الذي لا يغلق في وجه عائد تائب . ولو عظم الذنب وكبرت المعصية .. أما الود .. فيتصل بموقف المؤمنين ، الذين اختاروا ربهم على كل شيء . وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم . حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة ، يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها .. مرتبة الصداقة .. الصداقة بين الرب والعبد .. ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين .. فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة ؟ وماذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت ؟ ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو؟ وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب ؟
((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)) العالي المهيمن الماجد الكريم ؟ ألا هانت الحياة . وهان الألم . وهان العذاب . وهان كل غال عزيز، في سبيل لمحة رضى يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد ..
((فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)) .. هذه صفته الكثيرة التحقق ، الدائبة العمل .. فعال لما يريد .. فهو مطلق الإرادة ، يختار ما يشاء ؛ ويفعل ما يريده ويختاره ، دائماً أبداً ، فتلك صفته سبحانه .
يريد مرة أن ينتصر المؤمن به في هذه الأرض لحكمة يريدها . ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها .. يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض . ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود .. لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك ، في قدره المرسوم ..
فهذا طرف من فعله لما يريد . يناسب الحادث ويناسب ما سيأتي من حديث فرعون وثمود . وتبقى حقيقة الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث ووراء الحياة والكون تفعل فعلها في الوجود .

أبو مُحمد
04-22-2008, 12:11 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
حمدا لله على عودتك أخي كلسينا.

وباذن الله سأتباع معكم في هذه الصفحة.
ولدي سؤال ليس في صميم الموضوع بل لغوي فلم افهم كلمة "اشاعات" هل يقصد منها اضاءات او ما شابه؟

وبارك الله فيك وفي جهودك.

كلسينا
04-22-2008, 12:51 PM
أخي الكريم على الأرجح هي كما قلت أضاءات على مستقبل غير معلوم وهو غيب ، والله من وراء قصد سيد قطب رحمه الله .

أبو مُحمد
04-22-2008, 01:05 PM
بارك الله فيك أخي.

كلسينا
04-25-2008, 01:49 PM
سورة الطارق

بسم الله الرحمن الرحيم


هذه السورة تمثل طرقات متوالية على الحس . طرقات عنيفة قوية عالية ، وصيحات بنوم غارقين في النوم .. تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات بإيقاع واحد ، ونذير واحد . ( اصحوا . تيقظو . انظروا . تلفتوا . تفكروا وتدبروا . إن هنالك إلهاً . وإن هنالك تقدير وتدبير . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حساباً وجزاء . وإن هنالك عذاباً شديداً ونعيماً كبيراً ..) .

وهي نموذج واضح لهذه الخصائص . ففي إيقاعاتها حدة يشارك فيها نوع المشاهد ، ونوع الإيقاع ، وإيحاء المعاني .

ومن مشاهدها : الطارق . الثاقب . والدافق . والرجع والصدع .

ومن معانيها : الرقابة على كل نفس : ((إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ )) .. ونفي القوة والناصر : ((يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ، فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ)) .. والجد الصارم : ((إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ))..

والوعيد فيها يحمل الطابع ذاته : ((إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ، وَأَكِيدُ كَيْدًا ، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)) ..


°°°°°°°°°


((وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ ؟ النَّجْمُ الثَّاقِبُ . إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ)) .. هذا القسم يتضمن مشهداً كونياً وحقيقة إيمانية .

آيات في الأنفس :

((فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ . خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ . يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ )) ..فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أي شيء صار . خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية .

حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان .

والمسافة الهائلة بين المنشأ والمصير .. بين الماء الدافق وبين الإنسان المدرك العاقل المعقد التركيب العضوي والعصبي والعقلي والنفسي .. هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق إلى الإنسان الناطق توحي بأن هنالك يداً خارج ذات الإنسان هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي لا قوام له ولا إرادة ولا قدرة ، في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة ، حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة . ووراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة ، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب في خصائص الأجهزة والأعضاء . تشهد كلها بالتقدير والتدبير . وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة . وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق . كما تمهد للحقيقة التالية . حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدقها المشركون .

نهاية الطريق :
((إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ)) .. إنه (الله الذي أنشأه ورعاه ) إنه لقادر على رجعه إلى الحياة بعد الموت ، وإلى التجدد بعد البلى ، تشهد النشأة الأولى بقدرته ، كما تشهد بتقديره وتدبيره .(( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)).. السرائر المكنونة ، المطوية على الأسرار المحجوبة .. يوم تبلى وتختبر ، وتتكتشف وتظهر كما ينفذ الطارق من خلال الظلم الساتر ؛ وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفعة بالسواتر . كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر : ((فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ)) .. ما له من قوة في ذاته ، وما له من ناصر خارج ذاته .. والتكشف من كل ستر ، مع التجرد من كل قوة ، يضاعف شدة الموقف ؛ ويلمس الحس لمسة عميقة التأثير . وهو ينتقل من الكون والنفس ، إلى نشأة الإنسان ورحلته العجيبة ، إلى المطاف هناك ، حيث يتكشف ستره ويكشف سره ، ويتجرد من القوة والنصير ..
ولعل طائفاً من شك ، أو بقية من ريب ، تكون باقية في النفس ، في أن هذا لا بد كائن .. فمن ثم يجزم جزماً بأن هذا القول هو القول الفصل ، ويربط بين هذا القول وبين مشاهد الكون ، كما صنع في مطلع السورة : ((وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ )) .. والرجع المطر ترجع به السماء مرة بعد مرة ، والصدع النبت يشق الأرض وينبثق .. وهما يمثلان مشهداً للحياة في صورة من صورها . حياة النبات ونشأته الأولى : ماء يتدفق من السماء ، ونبت ينبثق من الأرض .. أشبه شيء بالماء الدافق من الصلب والترائب ؛ والجنين المنبثق من ظلمات الرحم . الحياة هي الحياة . والمشهد هو المشهد . والحركة هي الحركة .. نظام ثابت ، وصنعة مُعلمة ، تدل على الصانع . الذي لا يشبهه أحد لا في حقيقة الصنعة ولا في شكلها الظاهر .
يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين : بأن هذا القول الذي يقرر الرجعة والابتلاء (أو بأن هذا القرآن عامة ) هو القول الفصل الذي لا يتلبس به الهزل . القول الفصل الذي ينهي كل قول وكل جدل وكل شك وكل ريب .
تثبيت وتطمين الرسول والمؤمنين :
((إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا ، وَأَكِيدُ كَيْدًا ، فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا )) .. إنهم (هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب ) بلا حول ولا قوة ولا قدرة ولا إرادة ، ولا معرفة ولا هداية . والذين تولتهم يد القدرة في رحلتهم الطويلة . والذين هم صائرون إلى رجعة تبلى فيها السرائر ، حيث لا قوة لهم ولا ناصر .. إنهم هؤلاء يكيدون كيداً ..
وأنا (المنشئ .الهادي .الحافظ .الموجه .المبتلي .القادر .القاهر .خالق السماء والطارق .وخالق الماء الدافق .والفعال لما أريد . لا راد لأمري ولا معقب لحكمي ) أنا الله رب كل شيء .. أكيد كيداً ..
فهذا كيد وهذا كيد . وهذه هي المعركة ... ذات طرف واحد في الحقيقة .. وإن صورت ذات طرفين لمجرد السخرية .
((فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ)) .. ((أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا )) .. لا تعجل ولا تستبطئ نهاية المعركة . وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها .. فإنما هي الحكمة وراء الإمهال . وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا . فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى ؟
ونلحظ في التعبير الإيناس الإلهي للرسول : ((فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا )) ..كأنه هو (ص) صاحب الأمر ، وصاحب الإذن ، وكأنه هو الذي يأذن بإمهالهم . أو يوافق عليه . وليس من هذا كله شيء للرسول (ص) إنما هو الإيناس والود في هذا الموضع الذي تنسم نسائم الرحمة على قلبه (ص) الإيناس الذي يخلط بين رغبة نفسه وإرادة ربه . ويشركه في الأمر كأن له فيه شيئاً . وكأنما يقول له ربه : إنك مأذون فيهم . ولكن أمهلهم رويداً .. فهو الود العطوف والإيناس اللطيف . يمسح على الكرب والشدة والعناء والكيد ، فتنمحي كلها وتذوب .. ويبقى العطف الودود ..

أبو مُحمد
04-25-2008, 03:04 PM
السلام عليك أخي وجزاك الله عنا خيرا.


وصيحات بنوم غارقين في النوم
لم يستقم معنى هذه الجملة عندي أخي والسبب كلمة "بنوم" فهل ن توضيح بارك الله فيك.



كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر : ((فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ)) .. ما له من قوة في ذاته ، وما له من ناصر خارج ذاته ..
نسأل الله السلامة ..

ولي ملاحظة أخي فلو أمكن مع جهدك هذا ان تجعل الصلاة على الرسول عليه الصلاة والسلام لفظا فهي خير من الاختصار وأفضل فتثاب على ذلك حفظك الله.

كلسينا
04-29-2008, 11:06 AM
خي الكريم كان يمكن أن تكون ( صيحات بآذان الغارقين بالنوم ) وتعطي نفس المعنى ولكنني نقلتها كما هي من كتاب الظلال وأعتمدت أن أختصر وأنقل وأن لا أعتمد على فهمي وتفسيري أو تبديل ماأراه مناسب
لكل لايدخل رأيي الشخصي بالموضوع .
أما بالنسبة للصلاة على النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام . فبارك الله فيك وشكراً للنصيحة ، وسنعمل بها بإذن الله .

أبو مُحمد
04-29-2008, 11:53 AM
بارك الله فيك أخي كلسينا وأثابك الله على جهدك هذا.
نفعنا الله بما علمنا.

كلسينا
04-29-2008, 01:50 PM
اللهم آمين آمين آمين

كلسينا
05-04-2008, 05:18 PM
سورة الأعلى


بسم الله الرحمن الرحيم



المقدمة:


في رواية للإمام أحمد عن الإمام على (كرم الله وجهه) أن رسول الله (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) كان يحب هذه السورة . وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى ، و(هل أتاك حديث الغاشية ) . وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما ..


وحق له (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) أن يحبها ، وهي تحمل له من البشريات أمراً عظيماً . ((سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى، إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ، وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى . فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى)) .. وفيها يتكفل له ربه بحفظ قلبه لهذا القرآن ، ورفع هذه الكلفة عن عاتقه . ويعده أن ييسره لليسرى في كل أمور هذه الدعوة . وهو أمر عظيم جداً . وهي تتضمن الثابت من قواعد التصور الإيماني : من توحيد الرب الخالق وإثبات الوحي الإلهي ، وتقرير الجزاء في الآخرة . وهي مقومات العقيدة الأولى . ثم تصل هذه العقيدة بأصولها البعيدة ، و جذورها الضاربة في شعاب الزمان : ((إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)) .. فوق ما تصوره من طبيعة هذه العقيدة ، وطبيعة الرسول الذي يبلغها والأمة التي تحملها .. طبيعة اليسر والسماحة ..



°°°°°°°°°



((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى . وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى . فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى )) .. إن هذا الأفتتاح ، بهذا المطلع الرخي المديد ، ليطلق في الجو ابتداء أصداء التسبيح ، إلى جانب معنى التسبيح .


والتسبيح هو التمجيد والتنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله ، والحياة بين اشعاعاتها وفيوضاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالثلب والشعور . وليست هي مجرد ترديد لفظ : سبحان الله ... و((سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)) .. تطلق في الوجدان معنى وحالة يصعب تحديدها باللفظ ، ولكنها تُتذوق بالوجدان . وتوحي بالحياة مع الإشراقات المنبثقة من استحضار معاني الصفات .


والصفة الأولى القريبة في هذا النص هي صفة الرب . وصفة الأعلى .. والرب : المربي والراعي ، وظلال هذه الصفة الحانية مما يتناسق مع جو السورة وبشرياتها وإيقاعاتها الرخية .. وصفة الأعلى تطلق التطلع إلى الآفاق التي لا تتناه؛ وتطلق الروح لتسبح وتسبح إلى غير مدى .. وتتناسق مع التمجيد والتنزيه ، وهو في صميمه الشعور بصفة الأغلى ..


وقد كان رسول الله (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) يقرأ هذا الأمر ، ثم يعقب عليه بالأستجابة المباشرة ، قبل أن يمضي في آيات السورة ، يقول : (سبحان ربي الأعلى ) .. فهو خطاب ورده . وأمر وطاعته . إنه في حضرة ربه ، يتلقى مباشرة ويستجيب . وحينما نزلت هذه الآية قال : ((أجعلوها في سجودكم )) .. وحينما نزلت قبلها : ((فسبح باسم ربك العظيم )) .. قال : اجعلوها في ركوعكم . فهذا التسبيح في الركوع والسجود كلمة حية ألحقت بالصلاة وهي دافئة بالحياة .


(( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )).. الذي خلق كل شيء فسواه ، فأكمل صنعته ، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه .. والذي قدر لكل مخلوق وظيفته وغايته فهداه إلى ما خلقه لأجله ، وألهمه غاية وجوده ؛ وقدر له ما يصلحه مدة بقائه ، وهداه إليه أيضاً .. وهذه الحقيقة الكبرى مائلة في كل شيء في هذا الوجود ، يشهد بها كل شيء في رحاب الوجود . من الكبير إلى الصغير . ومن الجليل إلى الحقير .. كل شيء مسوى في صنعته ، كامل في خلقته . معد لأداء وظيفته .مقدر له غاية وجوده ، وهو ميسر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق .. وجميع الأشياء مجتمعة كاملة التناسق ، ميسرة لكب تؤدي في تجمعها دورها الجماعي ؛ مثلما هي ميسرة فرادى لكي تؤدي دورها الفردي .


الذرة بمفردها كاملة التناسق بين كهاربها وبروتوناتها وإلكتروناتها ، شأنها شأن المجموعة الشمسية في تناسق شمسها وكواكبها وتوابعها .. وهي تعرف طريقها وتؤدي مثلها وظيفتها ..


والخلية الحبة المفردة كاملة الخلقة والأستعداد لأداء وظائفها كلها ، شأنها شأن أرقى الخلائق الحية المركبة المعقدة .


بعض التفصيلات :


((وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى ))..


والمرعى كل نبات . وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله . فهو هنا أشمل مما نعهده من مرعى أنعامنا . فالله خلق هذه الأرض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها ، أو يطير في جوها .


والمرعى يكون طعاماً وهو أخضر ، ويصلح أن يكون طعاماً وهو غثاء أحوى . وما بينهما فهو في كل حال صالح لأمر من أمور هذه الحياة ، بتقدير الذي خلق فسوى وقدر فهدى .


((وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى)) .. بشرى لشخص الرسول (ص) وبشرى لأمته من ورائه . وتقرير لطبيعة هذا الدين ، وحقيقة هذه الدعوة ، ودورها في حياة البشر ، وموضعها في نظام الوجود .. وإن هاتين الكلمتين : (ونيسرك لليسرى ) ، لتشملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة ، وحقائق هذا الوجود أيضاً . فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطبيعة هذا الوجود . الوجود الخارج من يد القدرة في يسر . السائر في طريقه بيسر . المتجه إلى غايته بيسر . فهي انطلاقة من نور ؛ تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود .. إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسراً . يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه .. إلى الله .. فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير ( وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير ) يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ومع الأحداث والأشياء والأشخاص ، ومع القدر الذي يصرف الأحداث . اليسر في يده . واليسر في لسانه . واليسر في خطوه . واليسر في عمله . واليسر في تصوره . واليسر في تفكيره . واليسر في أخذه للأمور . واليسر في علاجه للأمور . اليسر في نفسه واليسر مع غيره .


وهكذا كان رسول الله (ص) في كل أمره .. ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة (ر) وكما قالت عنه : ( كان رسول الله (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) إذا خلا في بيته ألين الناس ، بساماً ضحاكاً ) وفي صحيح البخاري : ( كانت الأمة تأخذ بيد الرسول (عليه وعلى آله الصلاة والسلام) فتنطلق به حيث شاءت ) .


وفي هديه (ص) في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكلف البتة .


((فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى)) .. لقد أقرأه فلا ينسى (إلا ما شاء الله ) ويسره لليسرى . لينهض بالأمانة الكبرى .. ليذكر فلهذا أعدّ، ولهذا بُشر .. فذكر حيثما وجدت فرصة للتذكير ، ومنفذاً للقلوب ، ووسيلة للبلاغ . ذكر ((إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى)) .. والذكرى تنفع دائماً ، ولن تعدم من ينتفع بها كثيراً كان أو قليلاً . ولن يخلو جيل ولن تخلو أرض ممن يستمع وينتفع ، مهما فسد الناس وقست القلوب وران عليها الحجاب ..


((سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى)) .. فذكر ... وسينتفع بالذكرى (من يخشى ) .. ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى ، فيخشى غضب الله وعذابه . والقلب الحي يتوجس ويخشى ، مذ يعلم أن للوجود إلهاً خلق فسوى ، وقدر فهدى ، فلن يترك الناس سدى ، ولن يدعهم هملاً ؛ وهو لا بد محاسبهم على الخير والشر ، ومجازيهم بالقسط والعدل . ومن ثم فهو يخشى . فإذا ذُكر ذكر ، وإذا بُصر أبصر ، وإذا وعظ اعتبر .


((وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى)) .. يتجنب الذكرى ، فلا يسمع لها ولا يفيد منها . وهو إذن ((الْأَشْقَى)) الأشقى إطلاقاً وإجمالاً . الأشقى الذي تتمثل فيه غاية الشقوة ومنتهاها . الأشقى في الدنيا بروحه الخاوية الميتة الكثيفة الصفيقة ، التي لا تحس حقائق الوجود ، ولا تسمع شهادتها الصادقة ، ولا تتأثر بموحياتها العميقة . والذي يعيش قلقاً متكالباً على ما في الأرض كادحاً لهذا الشأن الصغير ! والأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى : ((الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى . ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى)) .. والنار الكبرى هي نار جهنم . الكبرى بشدتها ، ومدتها ، وضخامتها .. حيث يمتد بقاؤه فيها ويطول . فلا هو يموت فيجد طعم الراحة ؛ ولا هو يحيا في أمن وراحة . إنما هو العذاب الخالد ، الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى الأمنية الكبرى !


وفي الصفحة المقابلة نجد النجاة والفلاح مع التطهر والتذكر : ((قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى . وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى )) .. والتزكي : التطهر من كل رجس ودنس ، والله سبحانه يقرر أن هذا الذي تطهر وذكر اسم ربه ، فاستحضر في قلبه جلاله : (( فصلى )) إما بمعنى خشع وقنت . وإما بمعنى الصلاة الاصطلاحي ، فكلاهما يمكن أن ينشأ من التذكر واستحضار جلال الله في القلب ، والشعور بمهابته في الضمير .. هذا الذي تتطهر وذكر وصلى (( قد أفلح )) يقيناً . أفلح في دنياه ، فعاش موصولاً ، حي القلب ، شاعراً بحلاوة الذكر وإيناسه . وأفلح في أخراه ، فنجا من النار الكبرى ، وفاز بالنعيم والرضى .. فأين عاقبة من عاقبة ؟ وأين مصير من مصير ؟


وفي ظل هذا المشهد . مشهد النار الكبرى للأشقى . والنجاة والفلاح لمن تزكى ، يعود بالمخاطبين إلى علة شقائهم ، ومنشأ غفلتهم ، وما يصرفهم عن التذكر والتطهر والنجاة والفلاح ، ويذهب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى : ((بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )) .. إن إثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى . فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى ؛ لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثرونها . وهم يريدون الدنيا ، ويؤثرونها ..وتسمية (الدنيا ) لا تجيء مصادفة . فهي الواطية الهابطة إلى جانب أنها الدانية : العاجلة : ((وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )) ..خير في نوعها ، وأبقى في أمدها .


وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير . لا يقدم عليهما عاقل بصير .


((إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى )) .. هذا الذي ورد في هذه السورة وهو يتضمن أصول العقيدة الكبرى . هذا الحق الأصيل العريق . هو الذي في الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى .


ووحدة الحق ، ووحدة العقيدة ، هي الأمر الذي تقتضيه وحدة الجهة التي صدر عنها ، ووحدة المشيئة التي اقتضت بعثة الرسل إلى البشر .. إنه حق واحد ، يرجع إلى أصل واحد . تختلف جزئياته وتفصيلاته باختلاف الحاجات المتجددة ، والأطوار المتعاقبة . ولكنها تلتقي عند ذلك الأصل الواحد . الصادر عن مصدر واحد .. من ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ..