أبو جهاد الشامي
10-22-2007, 03:48 PM
أول رحلة إلى بلاد الشام
-القسم الأول-
د. يوسف القرضاوي
في أوائل شهر أغسطس سنة 1952م، أي بعد حوالي مضي أسبوعين على قيام ثورة 23 يوليو جاءني أمر من الأستاذ الهضيبي المرشد العام أن أتهيأ لرحلة إلى بلاد الشام: لبنان وسوريا والأردن، أنا والأخ الفاضل الأستاذ محمد علي سليم من إخوان الشرقية، توثيقا للصلة بالإخوة هناك، وتعميقا للتربية عندهم.
وكانت هذه أول رحلة لي خارج مصر، وقد رحبت بها كل الترحيب، فالسفر نصف العلم، وفي أمثالنا قالوا: الذي يعيش يرى كثيرا، قيل: لكن الذي يسافر يرى أكثر، وقد حفظنا من شعر الإمام الشافعي:
مـا في المقام لذي عقل وذي iiأدب
إنـي رأيـت وقـوف الماء iiيفسده
والـتـبر كالتُرْب ملقى في iiأماكنه
فـإن تـغـرّب هـذا عـز iiمطلبه
مـن راحة، فدع الأوطان iiواغترب
إن سال طاب، وإن لم يجر لم يطب
والعود في أرضه نوع من iiالحطب
وإن تـغـرّب ذاك كان iiكـالذهب
لهذا استبشرت بهذه الرحلة لأرى فيها الدنيا والناس، وأتعلم من مدرسة الحياة لا من الكتب وحدها، وفيها كانت لي هناك أوليات شتى: فهي أول مرة أستخرج فيها جواز سفر، وأول مرة أركب فيها الباخرة إلى خارج مصر، فقد ركبت الباخرة (عايدة) إلى الطور، وأول مرة أركب فيها الطائرة عائدا إلى مصر من عمَّان، وأول مرة ألبس فيها قميصا وبنطلونا، وأول مرة أضطر للتعامل مع إخواني باسم غير اسمي، وأول مرة أحمل فيه نقدا غير العملة المصرية، وأتعامل به... إلى آخره.
كانت الثورة في أيامها الأولى، ولم يكن يُسمح لأحد بالسفر إلا بتصريح من رجال الثورة، ولا بد أن يكون التصريح مسببا، ولكن كانت العلاقة حسنة بين رجال الثورة والإخوان، فاستطاع الأستاذ منير دلَّة عضو مكتب الإرشاد أن يستخرج لي تصريحا بالسفر، مندوبا لشركة أدوات كهربائية يملكها أحد الإخوان.
وكان علينا أن نسافر بأرخص الوسائل حتى لا نكلف الجماعة الكثير، فكانت الباخرة هي الأرخص، وعلينا أن نختار أرخص الدرجات في الباخرة، وهي ما يسمونه (أون دك) أي على السطح، وكان الأخ سليم هو الذي يتولى الصرف.
ووصلنا إلى الإسكندرية، وألقيت محاضرة بدار الإخوان هناك، وبتُّ عندهم، لنسافر من الغد إلى بيروت.
وركبنا الباخرة (سيبيريا) على ما أذكر، وأخذنا موقعنا على سطحها، وقلنا: بسم الله مجراها ومرساها، وكان السطح جميلا جدا، وخصوصا بالليل، تطالعنا نجوم السماء، التي جعلها الله زينة ومصابيح للسماء "وزينها للناظرين"،وكان البحر الأبيض في غاية الروعة والجمال والجلال، والباخرة الكبيرة تشق عبابه في قوة وانسياب، وأتذكر قوله تعالى:
(ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) الشورى:32.
وفي اليوم التالي، وصلنا إلى بيروت، وهي مدينة هادئة جميلة، ومعظم شوارعها لا يتسم بالسعة، ولم يكن فيها في ذلك الوقت أي ازدحام في الشوارع أو في المواصلات، بل الحياة رحبة كنسيم البحر الذي يهب عليها، ولم يكن للإخوان وجود رسمي بها، ولكن كانت هناك جماعة (عباد الرحمن) التي أسسها الداعية والمربي الفاضل الأستاذ محمد عمر الداعوق، فتعرفنا على من لقيناه منهم، ولا أذكرهم الآن، ولم يكن الأستاذ الداعوق حاضرا ببيروت.
وكان في بيروت الأستاذ الفضيل الورتلاني أحد مشاهير علماء الجزائر الذين نفتهم فرنسا من الجزائر، لخطورتهم ونشاطهم، وقد بقي في القاهرة مدة من الزمن، وكان على صلة وثيقة مع الأستاذ البنا، وقد كلفه الأستاذ البنا بملف (اليمن) والاتصال بأحرارها ورجال الإصلاح فيها، وكان له دور معروف غير منكور في انقلاب اليمن على الإمام يحيى حميد الدين، وقد فشل الانقلاب الذي قام به ابن الوزير، وسيف الإسلام إبراهيم ابن الإمام يحيى، بعد أن نجح أول الأمر، ولكنه لم يستقر، وقد فر الأستاذ الورتلاني من اليمن، وحاول أن يجد بلدا يؤويه، فلم يجد، وظل على ظهر الباخرة شهرين، حتى استطاع بوسيلة وأخرى أن ينزل إلى بيروت، ويُعرف بين الناس باسم (أبو مصطفى) وكانت فرصة طيبة لي أن التقيت به وتحدثت طويلا إليه، واستمعت إلى أفكاره في الإصلاح، واقترحت عليه أن ينزل إلى مصر، بعد تغير الوضع
وزوال الملكية، ووافق على ذلك، على أن ينزل في صورة تليق بمكانته وتاريخه.
بقينا في بيروت نحو ثلاثة أيام، ثم عزمنا متوكلين على الله أن نتوجه إلى دمشق عن طريق البر طبعا، وكان الأخ محمد سليم قد اقترح علي أن أغير زيي الأزهري، لأنه يلفت النظر في سوريا، في حين نريد أن نقضي أيامنا في ربوعها بلا ضجيج ولا إعلان.
ولهذا اشتريت قميصا وبنطلونا، وخلعت الكاكولة والعمامة، ولبستهما لأول مرة، وكان هو الأليق بالحال في سوريا، فقد دخلت سوريا عصر الانقلابات العسكرية من حسني الزعيم إلى الحناوي إلى أديب الشيشكلي، الذي يحكم سوريا حاليا، وقد كانت قبضة الحكم العسكري قوية، ورجال المكتب الثاني يسيطرون على أزِمَّة الأمور.
لهذا لم يكن من الحكمة أن أتحرك بالزي الأزهري الذي يجعل الأصابع تشير إليّ حيثما ذهبت، بل اقترح علي الإخوة المسؤولون في دمشق، ومنهم الأخ كاظم نصري، والأخ علي الحسن المسؤول عن الأسر، أن أختار اسما آخر أتعامل به مع الإخوان، فاخترت اسم (عبد الله المصري) حتى لا يكون فيه كذب، فأنا عبد الله، ومصري.
وعرفني عامة الإخوان السوريين بهذا الاسم، إلا أخوين أو ثلاثة، ورتب لي الأخ علي الحسن لقاءات مع عدد من الأسر، ألتقي بهم في سرية وتكتم حتى لا نُكشف أمام جهات الأمن المفتحة الأعين
-القسم الأول-
د. يوسف القرضاوي
في أوائل شهر أغسطس سنة 1952م، أي بعد حوالي مضي أسبوعين على قيام ثورة 23 يوليو جاءني أمر من الأستاذ الهضيبي المرشد العام أن أتهيأ لرحلة إلى بلاد الشام: لبنان وسوريا والأردن، أنا والأخ الفاضل الأستاذ محمد علي سليم من إخوان الشرقية، توثيقا للصلة بالإخوة هناك، وتعميقا للتربية عندهم.
وكانت هذه أول رحلة لي خارج مصر، وقد رحبت بها كل الترحيب، فالسفر نصف العلم، وفي أمثالنا قالوا: الذي يعيش يرى كثيرا، قيل: لكن الذي يسافر يرى أكثر، وقد حفظنا من شعر الإمام الشافعي:
مـا في المقام لذي عقل وذي iiأدب
إنـي رأيـت وقـوف الماء iiيفسده
والـتـبر كالتُرْب ملقى في iiأماكنه
فـإن تـغـرّب هـذا عـز iiمطلبه
مـن راحة، فدع الأوطان iiواغترب
إن سال طاب، وإن لم يجر لم يطب
والعود في أرضه نوع من iiالحطب
وإن تـغـرّب ذاك كان iiكـالذهب
لهذا استبشرت بهذه الرحلة لأرى فيها الدنيا والناس، وأتعلم من مدرسة الحياة لا من الكتب وحدها، وفيها كانت لي هناك أوليات شتى: فهي أول مرة أستخرج فيها جواز سفر، وأول مرة أركب فيها الباخرة إلى خارج مصر، فقد ركبت الباخرة (عايدة) إلى الطور، وأول مرة أركب فيها الطائرة عائدا إلى مصر من عمَّان، وأول مرة ألبس فيها قميصا وبنطلونا، وأول مرة أضطر للتعامل مع إخواني باسم غير اسمي، وأول مرة أحمل فيه نقدا غير العملة المصرية، وأتعامل به... إلى آخره.
كانت الثورة في أيامها الأولى، ولم يكن يُسمح لأحد بالسفر إلا بتصريح من رجال الثورة، ولا بد أن يكون التصريح مسببا، ولكن كانت العلاقة حسنة بين رجال الثورة والإخوان، فاستطاع الأستاذ منير دلَّة عضو مكتب الإرشاد أن يستخرج لي تصريحا بالسفر، مندوبا لشركة أدوات كهربائية يملكها أحد الإخوان.
وكان علينا أن نسافر بأرخص الوسائل حتى لا نكلف الجماعة الكثير، فكانت الباخرة هي الأرخص، وعلينا أن نختار أرخص الدرجات في الباخرة، وهي ما يسمونه (أون دك) أي على السطح، وكان الأخ سليم هو الذي يتولى الصرف.
ووصلنا إلى الإسكندرية، وألقيت محاضرة بدار الإخوان هناك، وبتُّ عندهم، لنسافر من الغد إلى بيروت.
وركبنا الباخرة (سيبيريا) على ما أذكر، وأخذنا موقعنا على سطحها، وقلنا: بسم الله مجراها ومرساها، وكان السطح جميلا جدا، وخصوصا بالليل، تطالعنا نجوم السماء، التي جعلها الله زينة ومصابيح للسماء "وزينها للناظرين"،وكان البحر الأبيض في غاية الروعة والجمال والجلال، والباخرة الكبيرة تشق عبابه في قوة وانسياب، وأتذكر قوله تعالى:
(ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام) الشورى:32.
وفي اليوم التالي، وصلنا إلى بيروت، وهي مدينة هادئة جميلة، ومعظم شوارعها لا يتسم بالسعة، ولم يكن فيها في ذلك الوقت أي ازدحام في الشوارع أو في المواصلات، بل الحياة رحبة كنسيم البحر الذي يهب عليها، ولم يكن للإخوان وجود رسمي بها، ولكن كانت هناك جماعة (عباد الرحمن) التي أسسها الداعية والمربي الفاضل الأستاذ محمد عمر الداعوق، فتعرفنا على من لقيناه منهم، ولا أذكرهم الآن، ولم يكن الأستاذ الداعوق حاضرا ببيروت.
وكان في بيروت الأستاذ الفضيل الورتلاني أحد مشاهير علماء الجزائر الذين نفتهم فرنسا من الجزائر، لخطورتهم ونشاطهم، وقد بقي في القاهرة مدة من الزمن، وكان على صلة وثيقة مع الأستاذ البنا، وقد كلفه الأستاذ البنا بملف (اليمن) والاتصال بأحرارها ورجال الإصلاح فيها، وكان له دور معروف غير منكور في انقلاب اليمن على الإمام يحيى حميد الدين، وقد فشل الانقلاب الذي قام به ابن الوزير، وسيف الإسلام إبراهيم ابن الإمام يحيى، بعد أن نجح أول الأمر، ولكنه لم يستقر، وقد فر الأستاذ الورتلاني من اليمن، وحاول أن يجد بلدا يؤويه، فلم يجد، وظل على ظهر الباخرة شهرين، حتى استطاع بوسيلة وأخرى أن ينزل إلى بيروت، ويُعرف بين الناس باسم (أبو مصطفى) وكانت فرصة طيبة لي أن التقيت به وتحدثت طويلا إليه، واستمعت إلى أفكاره في الإصلاح، واقترحت عليه أن ينزل إلى مصر، بعد تغير الوضع
وزوال الملكية، ووافق على ذلك، على أن ينزل في صورة تليق بمكانته وتاريخه.
بقينا في بيروت نحو ثلاثة أيام، ثم عزمنا متوكلين على الله أن نتوجه إلى دمشق عن طريق البر طبعا، وكان الأخ محمد سليم قد اقترح علي أن أغير زيي الأزهري، لأنه يلفت النظر في سوريا، في حين نريد أن نقضي أيامنا في ربوعها بلا ضجيج ولا إعلان.
ولهذا اشتريت قميصا وبنطلونا، وخلعت الكاكولة والعمامة، ولبستهما لأول مرة، وكان هو الأليق بالحال في سوريا، فقد دخلت سوريا عصر الانقلابات العسكرية من حسني الزعيم إلى الحناوي إلى أديب الشيشكلي، الذي يحكم سوريا حاليا، وقد كانت قبضة الحكم العسكري قوية، ورجال المكتب الثاني يسيطرون على أزِمَّة الأمور.
لهذا لم يكن من الحكمة أن أتحرك بالزي الأزهري الذي يجعل الأصابع تشير إليّ حيثما ذهبت، بل اقترح علي الإخوة المسؤولون في دمشق، ومنهم الأخ كاظم نصري، والأخ علي الحسن المسؤول عن الأسر، أن أختار اسما آخر أتعامل به مع الإخوان، فاخترت اسم (عبد الله المصري) حتى لا يكون فيه كذب، فأنا عبد الله، ومصري.
وعرفني عامة الإخوان السوريين بهذا الاسم، إلا أخوين أو ثلاثة، ورتب لي الأخ علي الحسن لقاءات مع عدد من الأسر، ألتقي بهم في سرية وتكتم حتى لا نُكشف أمام جهات الأمن المفتحة الأعين