تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الطبقة السياسية اللبنانية وأساطير التفرد اللبناني



FreeMuslim
10-02-2007, 09:31 AM
الطبقة السياسية اللبنانية وأساطير التفرد اللبناني
27-9-2007
http://www.alasr.ws/images/asr-spacer.gif
بقلم د. بشير موسى نافع (http://www.alasr.ws/index.cfm?method=home.authors&authorsID=641)


الأسطورة جزء لا يتجزأ من شروط ولادة الدولة الحديثة. كل الدول الحديثة بنيت في سياق عملية توحيد عنيفة لكيانات صغيرة: إمارات أو دويلات أو دول أصغر، أو نتيجة انفجار وتشظي إمبراطوري متعدد القوميات والإثنيات والطوائف والأديان.

في سعيها لشطر دولتها الخاصة من الجسم الإمبراطوري الأوسع، أو إقامة كيان الدولة المنشودة ضمن فضاء أوسع من الكيانات الأصغر السابقة عليها، تقوم التيارات السياسية صاحبة مشروع الدولة الجديدة، بتوليف خطاب يرتكز إلي قدر كبير من الحقائق وقدر لا يقل عنها من الأساطير.

ويحفل التاريخ الحديث بأمثلة عديدة علي تشابه الخطاب المؤسس للدولة الحديثة، بغض النظر عن القاعدة الاجتماعية التي انطلق منها التيار القائد لعملية التأسيس: طبقة وسطي، أو أرستقراطية، أو نخبة عسكرية، أو انتلجنسيا عالمثالثية وحركة تحرر وطني.

في سياق عملية التأسيس، تواجه التيارات القائدة، ضرورة توكيد شرعية برنامجها، تسويغ الأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، وتوكيد تمثيلها للأغلبية العظمي من الشعب والتفاف القطاعات الشعبية حولها. وهنا تبدأ عملية إنشاء الأمة.

عندما يكون الإطار المرجعي لحركة إقامة الدولة، إطاراً قومياً، تجري عملية إنشاء للأمة بمعناها القومي، سواء بإعادة كتابة التاريخ، أو حتى بصناعة تاريخ جديد كلية لها. وعندما يكون المجال الحيوي هو الإطار المرجعي، تقام نظريات أمنية وتنشأ ضرورات بقاء حيوية، لتبرير التوسع الجغرافي لنطاق الدولة. وحتى الإطار الديني المرجعي، يستدعي هو الآخر إنشاء جديداً لتاريخ الجامع الديني وأصوله ومعناه.

في سياق بناء الولايات المتحدة الأمريكية، وظف قدر هائل من أساطير التفوق العرقي والحضاري، وتم تصور مجال حيوي للدولة الناشئة، برر لها التوسع المستمر من المحيط إلي المحيط.

وقد بررت روسيا القيصرية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حروبها ضد الدولة العثمانية وتوسعها الإمبريالي في شرق أوروبا ووسط آسيا، بخطاب بالغ التركيب من أساطير الجامعة السلافية والروابط المسيحية الأرثوذكسية، واعتبارات الأمن الاستراتيجي والمجال الحيوي.

القومية التركية في صورتها الأتاتوركية، أنشأت تاريخاً كاملاً للشعب التركي، تاريخاً من القيم الفريدة والانتصارات والفتوح والانتشار القاري. وكذلك هي فكرة الدولة العربية الواحدة، سيما في صورتها المتأخرة المتأثرة بالفكر القومي الأوروبي، التي بنيت علي تصورات وهمية من النقاء العربي العرقي. شرعية الدول لا تقوم على الحقائق الموضوعية للتاريخ، بل على صورة مجردة لهذا التاريخ، صورة سهلة، بسيطة، استيعابية، ومحملة بقوى الحشد والانتماء.

مشكلة الدولة الحديثة ليست في لحظة التأسيس، التي هي في أغلبها لحظة غير عقلانية بالضرورة. المشكلة هي في استمرار استدعاء الأسطورة لتبرير استمرار وجود الدولة، بدلاً من العمل علي أساس حقائق الواقع وتجلياته، ومحاولة التفاوض مع هذا الواقع لتحقيق الرفاه والاستقرار.

عندما تتجاوز دولة لحظة التأسيس إلي زمن النضج والكهولة وهي تعيش علي أساطير التفرد، والحق التاريخي أو الإلهي في القيادة والتوسع، فسرعان ما تصطدم بتعقيدات الواقع، بموازين قوي غير مواتية، بجوار معاد، أو بانفضاض الشعب عن الطموحات الوهمية، وتغرق بالتالي في الهزيمة، أو الفوضى، أو التكاليف الباهظة لمشاريع تستند إلي طموحات وهمية أو مستحيلة التحقق. ولبنان الحالي يعيش مثل هذا الوضع.

في لحظة قيامه، بل وقبل ذلك، واجه لبنان أسئلة كبري حول وجوده وهويته، لم تواجهها بالضرورة دول عربية أخري. الدول المشرقية كلها بالطبع نتاج انفراط العقد العثماني في سنوات الحرب العالمية الأولي، وما صاحبه من اتفاقات إمبريالية حول اقتسام النفوذ. ولكن أغلب هذه الدولة قامت حول مركز تاريخي، أصبح واسطة عقد الدولة القطرية ومصدر خطاب شرعيتها. لبنان (كما الأردن، وإن في شكل مختلف)، لم يضم مركزاً تاريخياً، تستند إليه شرعية الدولة؛ فبيروت ليست دمشق ولا بغداد، ولا هي القدس.

وقد علمت السلطات الفرنسية، وقطاع من النخبة اللبنانية المسيحية، على إسناد الكيان اللبناني بخطاب من نوع مختلف، خطاب يتعلق بفرادة الطائفة المارونية، بتاريخ أسطوري لها ولجبل لبنان، وضع الطائفة فوق الفكرة القومية (وبالتالي فوق العرب، الذين ينحدر منهم أغلب اللبنانيين المارون)، وفوق الواقع، وفوق الجغرافيا. لم يقبل اللبنانيون الآخرون، في أغلبيتهم، أسطورة التفرد اللبناني، متصورين مستقبل لبنان في الانتماء إلي المحيط العربي، أو في الوحدة مع سورية. في النهاية، عند لحظة الاستقلال بكل تعقيداتها، وجدت الطبقة السياسية اللبنانية نوعاً من التوافق بين أسطورة التفرد الماروني ومشاعر الانتماء العربي، سمح باستقلال لبنان وعضوية الجامعة العربية، وببناء نظام سياسي لبناني طائفي.

مرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ استقلال لبنان، ولكن خطاب التفرد الأسطوري لم يتراجع. والمدهش، أن هذا الخطاب أصبح أكثر انتشاراً في أوساط الطبقة السياسية اللبنانية، وخاصة أكثر في فترات الأزمات، وهي فترات طويلة بحق. وليس من غير المعتاد، لاسيما منذ اندلعت الأزمة اللبنانية الأخيرة، أن يخرج سياسي لبناني ما على اللبنانيين من أنصاره وخصومه، وعلي العرب جميعاً، ليؤكد أن لبنان، بخلاف جواره، كان ديمقراطياً وسيبقي ديمقراطياً، وإن ازدهار لبنان جلب عليه لعنة جيرانه ورغبتهم في تدميره، وإن لبنان كان حارساً وسيبقي لقيم الحرية والاستقلال.

بل ويستبطن خطاب عدد من السياسيين اللبنانيين موقفاً عنصرياً من الجوار العربي، يوحي بأن لبنان أقرب في ثقافته ورؤيته الجمعية للعالم إلي المتوسط الأوروبي منه إلي القبلية العربية ، وقوي التعصب والتخلف والصراع المحيطة به. هذا كله، بالطبع، جزء من أساطير لبنانية لا تريد أن تخلي مكانها لرؤية واقعية للتاريخ والجوار، وليس ثمة شك أنها عاشت أكثر بكثير مما ينبغي، وأنها تؤثر تأثيراً سلبياً علي إمكانية تحقيق استقرار طويل المدى للبنان وشعبه.

الديمقراطية اللبنانية هي واحدة من أكبر أوهام المشرق العربي الحديث. ثمة أحزاب وانتخابات وبرلمان في لبنان، وقد استند الحكم اللبناني منذ الاستقلال إلي هذه التعددية السياسية الانتخابية، بلا شك. ولكن خلف هذه الصورة ثمة صورة أخري.

كل قيادات الأحزاب اللبنانية الرئيسية تقريباً، وأغلب الطبقة السياسية، تقوم على التوريث من الأب للابن أو من الشقيق للشقيق، وفي بعض الحالات من الزوج للزوجة. الأحزاب اللبنانية في أغلبها ولدت أصلاً في حضن أسر معينة، ويصعب في أغلب الأحيان اكتشاف الحد الفاصل بين الولاء الحزبي والولاء العائلي. والنظام اللبناني هو نظام طائفي محكم، سواء علي المستوي السياسي للحكم أو المستوي البيروقراطي؛ وقد احتاج إحداث تغيير هامشي في النظام الطائفي سنوات طوال من الحرب الأهلية؛ أما الإخلال البسيط بالقواعد الطائفية، فمدعاة لسقوط الحكومات، أو إدخال الدولة والبلاد في أجواء ثقيلة من التأزم.

وفي الانتخابات اللبنانية، لا يلعب البرنامج السياسي أو رؤية وميراث الحكم الرشيد دوراً رئيسياً، لأن الأصوات تذهب لاعتبارات ولاء وعصبيات أخري، أو حتى تشتري بالمال صراحة. ولأن الطبقة السياسية هي طبقة توارثية متجذرة، فإن حسابات الثروة لدي أعضاء وأسر هذه الطبقة تعلو علي الكثير من الحسابات الأخرى، وهو ما جعل الحكم والسلطة واحدة من أهم وسائل تكديس الثروة، وجعل الثروة شرطاً ضرورياً للقيادة السياسية.

أما خطاب الاستقلال والحرية فلا يقل أسطورية. حافظ لبنان منذ نهاية السيطرة الفرنسية المباشرة علي قدر متفاوت من حرية القرار، ولكن سقف الاستقلال اللبناني كان دائماً أكثر انخفاضاً بكثير من سقف استقلال معظم الدول العربية الأخرى. فرنسا، مثلاً، دولة الانتداب السابقة التي تعتقد بوجود علاقة لبنانية خاصة بها، مارست وتمارس نفوذاً هاماً في لبنان.

ومنذ انطلاق الحرب الباردة، ودخول الولايات المتحدة إلي الساحة الدولية، وواشنطن تشارك مشاركة مباشرة في الشأن اللبناني، بما في ذلك إرسال قوات أمريكية إلى لبنان، بهذا الغطاء من الشرعية الدولية أو ذاك. ولأن لبنان كان دائماً منقسماً علي نفسه، فقد وجد الاتحاد السوفييتي هو الآخر حلفاء له في الساحة اللبنانية. أما علي المستوي العربي الإقليمي، فقد كان لبنان إما تابعاً للمحور العربي الأكبر والأكثر تأثيراً، أو موزعا الولاء بين المحاور العربية.

وليس ثمة دولة في العالم أظهرت في مراحل متكررة من تاريخ استقلالها، اعتماد استقرارها وسلمها الداخليين اعتماداً مباشراً على التوافق والتفاهم الدولي والإقليمي، مثل لبنان. تصاعد الصراع بين واشنطن وموسكو في سنوات الحرب الباردة، كان يجد صداه في أحياء بيروت وقرى الجبل؛ وتعقيدات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط تنعكس خوفاً وعواصف تطيح بأمن لبنان الداخلي؛ والخلاف العراقي ـ السوري، المصري ـ السعودي، أو، كما هو الحال الآن، السوري ـ السعودي، يدخل لبنان في أزمات مستحكمة.

تعرف الطبقة اللبنانية السياسية أن من المستحيل ادعاء حجم وثقل كبيرين للبنان؛ ولذا فإن الخطاب الأسطوري اللبناني يلجأ إلى مقولة أخرى، أصبح من المعتاد تكرارها مؤخراً، حول الأهمية الاستثنائية للبنان. بمعني أن العرب والجوار الإقليمي يحتاجان استقرار لبنان لتأثيره البالغ والواسع علي الجوار العربي. وهذا أيضاً هو نوع من الوهم. فأهمية لبنان الإستراتيجية تتعلق بمستقبل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، تماماً كما هو وضع كل الدول العربية المحاذية لفلسطين المحتلة.

بغير ذلك، فقد كان لبنان، وما يزال، ربما، مرآة لتوازنات القوي العربية وسياسة المحاور، أكثر منه صاحب دور في صناعة هذه التوازنات والمحاور، وحتى على الصعيد الثقافي، فمنذ نهاية السبعينات، تراجع دور لبنان الثقافي إلى حد كبير لصالح مدن عربية أخرى، بحيث بات من الصعب الحديث عن مركز عربي ثقافي رئيس.

أكتب هذا المقال بين وقوع حادثة الاغتيال السياسي الأخيرة في لبنان وقبل انعقاد (أو فشل انعقاد) المجلس النيابي اللبناني لانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية. وليس المقصود بهذا المقال الاستهانة بلبنان، علي أي نحو من الأنحاء، وهو الذي أسهم مساهمة ملموسة، وعلي طريقته، في رسم ملامح تاريخ العرب الحديث. ولكنه دعوة إلى تجريد سياسات الدول عن أساطير التأسيس التي علقت بها طويلاً.
من دون ذلك، سيظل لبنان عاجزاً عن تحديد دوره وموقعه الصحيحين، وعن بناء علاقات صحية وواقعية بجواره العربي. وسيظل لبنان يخرج من أزمة ليدخل أخرى.

ما رأيكم طال عمركم ؟؟؟؟