تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مذكرات لبناني في سجون سوريا



ابن خلدون
08-07-2007, 08:55 PM
لبناني بلا جنسية يروي فصولاً من حياته وآلامه في سوريا البعث ( 4 )

الفصل الرابع من رواية سجين عائد الى بيروت من السجون السورية التي يختفي فيها كلما ذهب الى دمشق آملا في الحصول على اخراج قيد او جواز سفر. فالراوي مولود في بيروت سنة 1960، من ام لبنانية وأب سوري، وعبثا حاول الحصول على الجنسية اللبنانية، بعدما كان تلميذا في مدارس بيروت، وطالباً متفوقا في كلية الهندسة في جامعة دمشق، وذهب في بعثة للدراسات العليا في الهندسة الزراعية في اسبانيا.

بين بيروت وطرابلس

مطلع سنة 1991، وبعد نحو 4 سنوات في عشرة سجون في الديار السورية، عدت الى بيروت. كنت محطما، وكان عليّ، حسب تعميم امني اصدرته المخابرات السورية، ان ازور فرعاً من فروعها كل 15 يوما، للتحقيق معي وتقديم تقرير عما فعلت. بعد مضي نحو شهرين على عودتي، طُرق في السادسة صباحا، باب بيت امي التي أقمت عندها في محلة برج ابو حيدر. ما ان فتحت الباب حتى اعتقلني 4 رجال من المخابرات السورية واقتادوني في سيارتهم الى مركزهم في منطقة الكولا.
جامع جامع، المسؤول عن المركز، كان في اجازة، ويحل محله ضابط مخابرات صغير برتبة ملازم من ضواحي حلب، اسمه محمود اسطنبولي، فأبلغني بوجوب ذهابي كل 15 يوماً الى دمشق للتحقيق معي وتقديم التقارير في فرع المخابرات، لأنني سجين سياسي سابق، ثم قال انه، خدمة لي، سينقل ملفي الى مركز سرية بيروت الاقليمية للمخابرات السورية في محلة الكولا. هكذا جعلت ازور هذا المركز مرة في الاسبوع، فيما راح صغار عناصر المخابرات يأتون الى منزل امي في برج ابو حيدر، كلما طاب لهم ذلك، فيتغدون ويطلبون مني ان اقاسمهم ما يتوافر لديّ من مال قليل. ارهقتني زياراتهم وزياراتي مركز مخابرات الكولا، فاقترحت على امي الطرابلسية الاصل، ان نرحل عن بيروت للاقامة في منزل اهلها في طرابلس، فاستجابت طلبي.
امضينا 3 سنوات في طرابلس، اخبرني في بداياتها جيران بيتنا المقفل والمهجور في بيروت ان رجال المخابرات السورية طرقوا بابه اكثر من 40 مرة، قبل ان ينقطعوا عن المجيء اليه والسؤال عني، من دون ان يخبرهم اي من الجيران عن مكان اقامتنا الجديد.
في دكان احد اقارب امي عملت في طرابلس واستطعت ان احصّل معيشتي، وساعدتني امي في الزواج من فتاة طرابلسية انجبت منها ولدين ذكرين. وحين علمت ان جامع جامع انتقل الى قيادة فرع المخابرات في شارع الحمراء، قلت ان ملفي العتيق في مركز مخابرات الكولا، قد نُسي في غمرة السنوات الثلاث التي مضت، فقررت العودة الى بيت امي في بيروت للاقامة فيه والبحث عن عمل مناسب يعيل زوجتي وطفليّ. والحق انني عشت مرتاح البال قليلا في بيروت، وحصّلت من مواظبتي على العمل في التدريس وفي ما يتوافر من اعمال، ما مكنني من شراء شقة سكنية بالتقسيط في عرمون. وحين بدأ في لبنان تقديم طلبات التجنيس، رحت احضّر المستندات المطلوبة لحيازة الجنسية اللبنانية. كان ينقصني اخراج قيد مصدّق من دائرة النفوس في حلب، فذهبت الى هناك للحصول عليه، وكانت زوجتي حاملا في شهرها الخامس.



عودة الى السجون السورية

في حلب حصلت على اخراج القيد وذهبت الى دمشق للمصادقة عليه من وزارة الخارجية السورية التي طلبت بدورها مصادقة جهازي امن الدولة والامن السياسي الذي ما ان وصلت الى احد مكاتبه، وأخرج رجل الامن ملفي، حتى نظر مباشرة في عيني قائلا: اهلا وسهلا، اين كنت؟ اننا ننتظر قدومك منذ 5 سنوات، اهلا وسهلا شرّفت، يا عميل الاستعمار والصهيونية. الارجح انك كنت هاربا ومختفيا في تل ابيب، ثم صفعني فتغيّبت عن الحياة سنتين وثلاثة اشهر في سجون سوريا، بعد هذه الصفعة، بعدما كنت قد تغيبت فيها نحو 4 سنوات، وليصير عدد السجون التي زرتها 15 سجنا، لا لزوم لأروي هنا وقائع عذاباتي فيها، لأنها مماثلة تماما لتلك التي رويتها عن السنوات الاربع قبل 5 سنوات.
لكن المفجع ان اخي الاصغر الذي كان موشكا على انهاء دراسة الصيدلة في جامعة بيروت العربية، ذهب الى دمشق باحثا عني، فاختفى ولم نسمع عنه خبرا منذ ذلك الوقت، مما عجل في موت امي بعد سنوات قليلة، بعدما تمكنت من اخراجي من السجن. لقد باعت الشقة السكنية التي اشتريتها في عرمون بـ26 الف دولار اميركي ودفعتها لضابط كبير في الامن العام اللبناني لقاء سعيه لدى ضباط مخابرات سوريين للافراج عني، شرط الا تذكر لأحد اسم الضابط اللبناني الذي قبض منها المال بعد وصولي الى بيروت، وكانت زوجتي قد اسقطت حملها بجنينين ومكثت شهورا في المستشفى، بعدما تضاءل وزنها الى 25 كلغ.
نهار اخرجوني من سجن امن الدولة في دمشق، كانت سيارة مرسيدس سوداء تابعة لهذا الجهاز، تنتظرني عند بوابة السجن، فأدخلوني اليها وتوجهت بي فورا الى بيروت، من دون ان تتوقف على الحدود اللبنانية – السورية، وكان يقودها شخص لبناني، ومعه الى جانبي شخصان آخران لبنانيان ايضا، اظن انهما من رجال جهاز الامن العام اللبناني، فيما كانت صور حافظ الاسد تزين زجاج السيارة الخلفي.
بعد خروجي الثاني من السجن سنة 1997، اقمت في بيروت على سعي متصل لمعرفة خبر ما عن اخي الذي اختفى، فلم اعثر له على اثر يذكر. ما ان بلغت الخامسة والاربعين، وهو العمر الذي يخولني الحصول على جواز سفر سوري، بحسب قرار محكمة امن الدولة السورية، ذهبت الى دمشق سنة 2006 لاستصدار الجواز الذي وحده يمكّنني من الفرار من حياتي في هذين البلدين الشقيقين، لبنان الذي ولدت فيه من ام لبنانية وحرمت من الحصول على جنسيته لأنني سوري الاب، وسوريا التي دمر نظامها البعثي شبابي وحياتي لأنني اقترفت ذنب التفوق في دراستي، ولم يساعدني مزاجي في ان اكون بعثيا صالحا، اي منحطا وسافلا ومنحلاً وواشياً، ليجعل من هذه كلها وسيلته الوحيدة، ليحيا متطفلاً ومارقاً ومتسلطاً على الناس.
بدل ان اتمكن من الحصول على جواز سفر سوري في رحلتي ما قبل الاخيرة الى دمشق سنة 2006، اعتقلت هناك اسبوعا اضفته الى مأساتي وخبرتي الطويلتين في السجون السورية. في 26 ايار 2007 - بعد اشهر على روايتي هذه المأساة التي لم اعثر على مخرج لي منها بغير مغادرة هذه البلاد - ذهبت ايضا الى دمشق علّ مصادفة ما تمكّنني من الحصول على جواز سفر، فاعتقلت اسبوعا جديدا.
حين اعتقلوني للمرة الاخيرة هذه، في مركز المخابرات العسكرية في دمشق، ربطوني بسلاسل معدنية، يدا الى رجل، وجروني من رقبتي ككلب، فرحت ادبّ على الاربع، وصولا الى السيارة التي نقلتني الى مركز آخر للتحقيق. مقيداً بالسلاسل نفسها اجلسوني على كرسي قبالة المحقق الذي، فيما هو ينظر في ملف، قال لي: ماضيك حافل... شو بدك تصير رئيس جمهورية؟! تذكيرا منه بالاستفتاء الذي كان جاريا في سوريا لتثبيت بشار الاسد في رئاسة الجمهورية. ثم راح المحقق يسألني: شو عامل ولاه، شو سارق، اكيد سارق سلاح من الدولة؟! انت مجرم، اكيد مجرم، سارق مصاري وسلاح، وبدك تعمل رئيس جمهورية؟! طوال ساعة من التحقيق كان الرجل يتكلم مهلوساً، هكذا، كأنه تناول نوعا من المخدرات.
مكثت اسبوعا واحدا في السجن اطلقوا بعده سراحي، فعدت الى بيروت خائبا وبلا امل.



الموت او الاختفاء او اسبانيا

امس قال لي ابني البكر ان حذاءه تهرّأ، حتى ان باطني قدميه يدوسان الارض عاريين، فيما هو يمشي في الشارع، فبكيت خفية عنه لأنني لا املك ثمن حذاء جديد يذهب به الى مركز الامتحانات الرسمية لشهادة البكالوريا. الادوية التي احتاج الى تناولها على نحو دائم لأتمكن من تحمل مأساتي، لا احصل عليها الا حين اعثر على شخص يشفق بي - كناظر المدرسة الرسمية التي يتعلم فيها ابني – ويساعدني في الحصول عليها من جمعيات طبية خيرية.
في صباحات صيف بيروت القائظة هذه، اخرج الى الشوارع ضائعا هائماً على وجهي. تارة اتذكر اصدقاء لي من ايام الدراسة في اسبانيا، لا زالوا يراسلونني حتى اليوم ويقولون لي ان اهاجر الى هناك حيث يتدبرون لي عملا في سهولة، فأقول متمتما: اين انت يا اسبانيا، اين انت يا برشلونة؟! أمشي في شوارع بيروت دائخاً بعض الشيء، والألم يتزايد في ظهري وساقيّ ويدي اليمنى شبه المشلولة من اثر ما تعرضت له في السجون السورية. امشي مترنحاً من عرج فيّ بدأ يتزايد في رجلي اليسرى. فجأة تخطر في رأسي فكرة الموت. الموت السهل والمفاجئ، هكذا في ضربة شمس تسقطني فوراً في الشارع.
أدمنت هذا المشي في شوارع بيروت. أمس، فيما كنت أمشي مستدعياً فكرة موتي، عبرت في ذاكرتي صور كثيرة لا حصر لها لوجوه سجناء صادفتهم في السجون السورية، واختفوا، أو سمعت أخبار إختفائهم من اهلهم الذين قالوا إنهم ذهبوا لزيارتهم، كالعادة، في السجن، فلم يعثروا على أي أثر لهم، سوى خبر اختفائهم من نزلاء السجن. هل أخي من هؤلاء المختفين موتاً مفاجئاً أو بطيئاً أو قتلاً أو انتحاراً في تلك السجون؟! وأنا، حين أفكر في الموت، ألست منهم ومثلهم؟! وابني البكر الذي نجح في امتحانات البكالوريا اللبنانية، مثلي قبل نحو ثلاثين سنة، هل يرثني في لبنانيته الضائعة أو المستحيلة، وفي سوريته هذه التي دمرت جسمي وحياتي؟! أي قدر هذا الذي يكرر مصائر البشر في هذه البلاد، ليرث الإبن مأساة أبيه وأمه كاملة؟!

(الاحد المقبل حلقة خامسة وأخيرة عن الموت والاختفاء في السجون السورية)


كتابة محمد أبي سمرا

من هناك
08-07-2007, 10:16 PM
شكراً لك على هذه المقالة وهذا النظام ليس بحاجة إلى ادلة كثيرة للدلالة على إجرامه القليل النظير.