تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أنا يوسف اللاجئ يا أبي... ولقد أذاقني إخوة لي في لبنان ألوان التعذيب



من هناك
07-04-2007, 03:56 AM
أنا يوسف اللاجئ يا أبي... ولقد أذاقني إخوة لي في لبنان ألوان التعذيب
جهينة خالدية
ترتخي العصبة السوداء عن العينين. ربما ليست سوداء، لكن المؤكد انها تنسدل قليلاً. «يجاهد» ليفتح جفنيه المطبقين منذ ساعات. ينجح، ويتمنى لو لم يفعل. ما رآه أمامه كان مشهداً قاسياً جداً... ومحزناً. عشرات الشبان معصوبي العينين. رؤوسهم مغطاة بأكياس من «الخيش» وأيديهم موثقة خلف ظهورهم بأشرطة من البلاستيك المقوى. كانت أصواتهم التي تئن وتسأل وتتكلم توحي له أن عددهم كبير، ولكن بقي مشهدهم في أحد المراكز الأمنية اللبنانية في جبل لبنان غير متوقع. على الأقل، بالنسبة إليه.

هذا فصل من قصة استجواب وتعذيب وإهانة تعرض لها الشاب الفلسطيني يوسف الذي وافق على التحدث شرط تجنب ذكر التفاصيل الصغيرة التي قد تؤدي الى اعتقاله مجدداً، فيما آثر زملاؤه في المعانة الابتعاد عن الاعلام كلياً خوفاً من أن «يشم خبرنا أحد ونحن مش ناقصين».

هذه قصة يوسف التي تنشر بعد نحو شهر على اجراء المقابلة معه، وذلك بناء على طلبه، إذ كان ينتظر تقديم امتحاناته النهائية بسلام.

يوسف لم يكن وحيداً. تقاسم المعاناة مع عدد كبير من «الزملاء» الذين عايشوا، عن قرب، ما كانوا يسمعون عنه حول انتهاك حقوق الانسان. جمعتهم رواية واحدة وكانوا كلهم أبطالها... سعت «السفير» إلى الحصول على شهادات عدد منهم. وافق بعضهم في البداية، ثم تراجع لاحقاً، خوفاً من الاعتقال والملاحقة من جديد. قسم آخر من رفاق يوسف رفض منذ البداية التحدث، ولو باسم مستعار. وهؤلاء على حد تعبير يوسف: «رفضوا التحدث إلى مندوبي منظمة حقوق الإنسان، لأنهم اشترطوا عليهم ذكر أسمائهم في تقريرهم».

محاولة اقناعهم بأهمية نشر رواياتهم كمحاولة لمنع تكرارها مع آخرين، لا تغريهم... يريدون «حفظ خط الرجعة والنجاة من تجربة أخرى».

تبقى لدينا التفاصيل العامة حولهم، تفاصيل تقول إنهم احتجزوا بعد خروجهم من نهر البارد، خلال الهدنة. غُطيت رؤوسهم بأكياس، ضربت بالحائط، وخضعوا لاستجواب مفصل وطويل، شمل أسئلة من نوع: «هل أنت مع فتح الإسلام؟ والى أي منظمة تنتمي؟ وأبوك مع مين كان؟».


ربما وجد مذنبون، من بين الذين رآهم يوسف في المركز الأمني... ربما... لكنه يثق بأنه هو بريء، ولقد تعرض للضرب المبرح والتعذيب. هذا ما يقوله، ويسعى لإثباته برفع كميّ قميصه عن معصمين متورمين، تظهر عليهما آثار جروح وبشرة متقشرة ومتقرحة وجافة. تحوّل لون بشرته الأبيض إلى أحمر غامق هنا وبنفسجي هناك، ألوان خلّفها الوثاق المحكم الذي استمر منذ الثامنة والنصف صباحاً (لحظة اعتقاله) حتى الواحدة والنصف من فجر اليوم التالي (لحظة إطلاق سراحه).

تكلم يوسف لأنه «لا شيء عندي كي أخسره». نروي القصة، لا انتصاراً لفريق دون آخر، ولا مهاجمة للقوى الأمنية اللبنانية. هدفنا الوحيد هو أن نقول إنها معاناة حصلت، آملين عدم تكرارها، لا سيما أن بعض الذين تعرضوا للتعذيب اعتبروا أن «المسألة ليست نهج الدولة أو القوى الامنية أو تنفيذاً لقرار عام، بل هي تجاوزات فردية أتى عليها بعض العناصر كفشّة خلق».




موت فوق الأرض وتحتها

ما لم يروِه يوسف روته شفتان تحاولان الابتسام فيزيد تشققهما وتفشل العينان بإكمال الابتسامة، ما يبقيهما كئيبتين... غارقتين في تلون عميق. عاش يوسف الألم والصمت لساعات... وعاشها مجدداً عندما روى قصته خلال مقابلة شبه سرية قرر ألا تجري بعيداً عن جامعته. فهو لا يتنقل أبداً منذ يوم الاعتقال. من جامعته إلى بيته والعكس... فقط. حتى أنه لم يزر أهله في طرابلس إلا مرة واحدة خلال الأربعين يوماً الماضية.

يدخل إلى المقهى المجاور، يستأذن لدقائق ليودع هاتفه الخلوي مع صديقه: «لا بد أن يكون الهاتف مراقباً حتى ولو كان مغلقا».

نبدأ من يوم الاعتقال. يوم نهض على صوت رفيقه بالسكن يوقظه عند السادسة والنصف صباحاً. للوهلة الأولى، ظن أنه تأخر على دوام الجامعة، بعد سهرة دراسة طويلة. تنبه إلى أن اليوم هو الأحد، ولا جامعة، لكن جاءه صوت رفيقه سريعاً: «علقانة بمخيمنا، قوم لنطلّع أهلنا». استقل هو ورفاق له «فان» إلى «نهر البارد»، الذي لم يصلوه طبعاً. أوقف حاجز أمني الفان الذي يقل 12 شاباً ثم احتجزهم وبشّرهم خيراً بأن: «كلها ساعة زمن وبتضهروا».

«الساعة تحوّلت إلى أكثر من ثلاث ساعات انتظرنا خلالها تحت أشعة الشمس، ثم غطيت وجوهنا بأكياس جنفيص سميكة، وكبلت أيدينا لننقل بعدها إلى مركز تحقيق. وبعد حصولهم على كثير من المعلومات الشخصية، تم نقلنا بسياراتهم الخاصة إلى مركز آخر».

يقول يوسف إنه عندها: «أضيف نكهة جديدة للتحقيق، فضربنا ونحن ننزل من السيارات، وضربت رؤوسنا بالجدران». ونال هو شخصياً وصفة خاصة تتضمن: «إمساكي بأنفي ورفعي الى الأعلى».

أحياناً، لا يصدق يوسف كل ما جرى له، لكن صراخه الداخلي الدائم يُصعّب عليه مهمة النسيان. لم يخرج أنينه إلى العلن: «إيش كنت بدي أسوي؟ بدي أصرخ... لا ما قدرت أصرخ... ما كان بدي». في المركز الثاني، خضع يوسف لجلستي تحقيق: «بعد انتهائهما، أمرونا بأن نصعد أدراجاً ثم نعود وننزلها ووجوهنا مغطاة وعيوننا معصوبة ومكبلين، ثم رشونا بالمياه وهددونا بالكهرباء».

عندما حصل هذا كله، لم يكن يوسف يعرف أي شيء عن طرفي الاشتباك. يوضح أنه لم يكن يدري إن كان بين الفصائل أو بينها وبين الجيش.
في روايته، يفضل أن يتغاضى عن كثير من تفاصيل التعذيب والاعتقال وعن تسمية المراكز التي أودعوا فيها: «لا أريد أن أُعرف فأعيش التجربة مجدداً».

يشير إلى أنه عند الواحدة والنصف من صباح اليوم التالي أطلق سراحهم وطلب منهم العودة الى بيروت لا الى الشمال... فعادوا. كانوا خمسة شبان رفاق. خمسة أطلق سراحهم، بحسب يوسف، من أصل عشرات رآهم هناك وسمع أحد العناصر يتحدث مع زميل له حولهم قائلاً: «صاروا أكثر من 150 اعتقلناهم!».

عاد في اليوم التالي الى جامعته وهو يعرج وبالكاد يستطيع السير. كرر هذا الوصف وأكّده أغلب أصدقاء يوسف. لا يفهم حتى اللحظة لماذا حصل ما حصل ولا يتوقع أن تحمل الأيام المقبلة إليه أية إجابة. يعرف أنه لم يسرق بحياته، لم ينضوِ تحت لواء أي تنظيم أو حزب، ولم يعمل ضد الدولة، أي دولة... «الأمن هدول إخواتنا وهمِ بيحمونا».

سيصمد يوسف مزيداً من الوقت في سجنه الكبير، لحين صدور تنائج الامتحانات وتخرجه. وسيصبر حتى انتهاء علاج الأعصاب الذي يخضع له، بعدما تعطّل عمل عدد من الأوتار العصبية في يده نتيجة حفلة التعذيب. حتى ذلك الحين، سيصبر يوسف...


«لن يأتي الأسوأ... أنا مش خايف، ما إحنا فوق الأرض ميتين، وتحتها ميتين كتير».