تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : التجديد والانتقاء



سهيل الحلبي
05-08-2007, 01:42 AM
التجديد والانتقاء
"الرجل المريض" تلك هي التسمية التي أطلقتها القوى الاستعمارية الكبرى على العالم الإسلامي، وهي تستعد للانقضاض على الفريسة واقتسامها غداة مؤتمر فرساي، وهي في الواقع وصف دقيق للحالة التي كانت تعيشها الدولة العثمانية من اضطراب وتفكك على كل المستويات.
ولقد تعين على البلدان الإسلامية أن تثابر طويلاً حتى تصل إلى مرحلة الثورة على الاستعمار، ولكن الشعوب لا تكتب تاريخها بالرعد والصواعق فقط ، لقد جاءت مرحلة البناء عقب الاستقلال لتبرز الحقيقة الناصعة.
والحضارة ليست شكلاً من أشكال تنظيم الحياة فحسب، ولكنها قدرة المجتمع الخلاقة التي تمكنه من التغلب على جميع التحديات والصعاب، بحيث يتسنى لهذا المجتمع أن يمنح جميع أفراده الضمانات الأساسية التي لا تستقيم حياتهم بدونها من حق في التعليم والصحة والعمل والمواصلات واحترام شخصية الفرد وكرامته (انظر سلسلة مشكلات الحضارة لمالك بن نبي).
وعليه فإن السؤال الذي ينبغي طرحه للعثور على موضع الداء هو: أين يكمن الخلل في ثقافتنا باعتبار أن "الثقافة هي الرحم أو البيئة التي يتشكل فيها سلوك الفرد ثم المجتمع، فالسلبية التي يعاني منها الفرد المسلم أو اللافعالية إنما تعود أساساً إلى البيئة التي تشكل كيانه النفسي بداخلها". (القضايا الكبرى لمالك بن نبي 78-80).
وهنا يتعين علينا في كل حالة أن نتذكر أن ما وصلنا إليه تناقض صارخ بين ما نؤمن به من عقيدة إسلامية، تقوم مقاصدها الكبرى على حفظ النفس والعقل والمال والنسل، وبين ما نعيشه من تخلف يتعذر معه إيجاد دوافع وضمانات الحياة الكريمة، إنما هو بسبب عدم تفعيل مبادئ الإسلام في واقع حياتنا الاجتماعية.
ولا نضيف جديداً إذا قلنا إن الأنانية والروح الانعزالية باتتا اليوم من أكثر العيوب التي تطبع أشكال تصرفاتنا، وهما اللتان تقفان عازلا دون انخراط الفرد في عمل جماعي مشترك.
هذه اللحمة التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "الجسد الواحد" و"البنيان المرصوص" هي أكبر معلم من معالم المجتمع المتحضر، إذ لا يتصور البناء بدون مساهمة الجميع عن إخلاص ومثابرة، وفق نسق واحد .......
وهذا ما يدعونا أيضا إلى الإضافة بأن الإرادة النابعة من داخل المجتمع الواحد هي ما يصنع حضارته، لذلك فإننا نخطئ في حق أنفسنا عندما نعتقد أنه بإمكاننا محاربة التخلف باستيراد التكنولوجيا، كما نخطئ تماما إذا اعتقدنا أن الحضارة ليست إلا بعداً اقتصاديا.
وهنا يكون من الملائم أن نتوقف عند حمى الاستهلاك التي تجتاح مجتمعاتنا بقوة، فنحن نحرص على اقتناء أفخم سيارة وأحدث جهاز كمبيوتر أو هاتف نقال، ولكننا لا نجد أدنى الحماس للاطلاع على كنه وأسرار الآلات التي نستعملها بكل ارتياح بين أيدينا وكأنها من نتاجنا.
إن مشاكلنا ستبقى عالقة ما لم نهتد إلى ضبط الأمور من أساسها وما دمنا نكتفي بتحليل ظواهرها.
ونحن إذ نلقي بكامل اللوم على الاستعمار الذي يعود من جديد تحت رداء الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، ليزيد من تفكيك أوصال مجتمعاتنا، نكون –والحالة هذه– غير شاعرين بمدى مسؤوليتنا عمّا آل إليه حالنا.
ولنتأمل في قول النبي صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، فالحديث يدلنا اليوم على سبب محنتنا، وهو تخلي الفرد المسلم عن مسؤوليته على كافة المستويات.
ذلك أن كل عمل لا بد أن يكون له تعليله وباعثه الأخلاقي والاجتماعي، وباعث المسلم على العمل عقيدته، والفراغ الذي نجم عن انحسار القيم الإسلامية في ممارساتنا اليومية، ملأته أفكار وتصورات غريبة عنا.
قد يطرح البعض هنا قضية إعادة بناء الماضي وتجديده، ويقرر آخرون حرفيّة الاستناد إليه، لكننا نعلم يقينا أن الإنسان ابن عصره، وأن لا مكان لنا في عالم يطلق عليه "عالم غزو الفضاء"، إن لم نستطع الإلمام بعلوم العصر، وتوظيفها في خدمة مجتمعاتنا والإنسانية جمعاء.
ولكن عملية التجديد والانتقاء من الماضي هي وظيفة "المجتهد"، وشروط الاجتهاد كما هي مقررة في كتب "أصول الفقه الإسلامي"، تقتضي زيادة على الإلمام بعلوم الاختصاص (وهي العلوم المساعدة على فهم النصوص من القرآن والسنة)، العلم بموضع الاجتهاد، أي بالوقائع والمسائل الطارئة والمستجدة.
وشعور البعض بالهوان لانتصار الثقافة الغربية عليه، يؤدي به أحياناً إلى التسلي بذكريات عذبة من أمجاد الماضي...
ونوع آخر هو في الحقيقة شاذ بمنهجه هذا فهو يسعى للارتماء في أحضان أعداء أمته والذين كان لهم الدور الأكبر في وصولها لما وصلت إليه ... وهم مازالوا يحاربوا أي محاولة للصحوة والنهوض فلم يكتفوا بحشد الجيوش واكتساح الأرض وزلزلة أمتنا، بل في إيهامنا بأن مفتاح الحل في يدهم وعبر أفكارهم التي يريدون إلزامنا بها إلزاماً .