تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الفقيه الأميرال



ابو شجاع
04-17-2007, 02:14 PM
بسم الله الرّحمن الرّحيم


الفقيه الأميرال

نحن اليوم في تونس الخضراء قبل ألف ومائتي سنة بالضبط. نحن في يوم من أيام سنة 162 للهجرة، في يوم مشهود، يوم سفر طالب من طلبة العلم إلى المشرق للدرس والتحصيل.
ونحن نرى الطلاب إذا أرادوا التحصيل يذهبون في أيامنا إلى الغرب؛ لأن الغرب أرقى. أما يومئذ فكانوا يأتون من الغرب إلى الشرق؛ لأن الشرق كان أرقى رقيًا وأعظم حضارة.
هذا الشاب الذي اجتمع أهل تونس لوداعه، عمره ثلاثون سنة، غريب عن تونس، أصله من نيسابور، وولد في ديار بكر، وذهب أبوه إلى المغرب في الحملة التي جردها المنصور للقضاء على ثورة البرابرة، فنشأ في تونس وأخذ العلم عن علمائها، حتى إذا استوفى ما عندهم، عزم على الرحلة.
وهكذا رحل هذا الشاب: أسد بن الفرات، فارق تونس سنة 172هـ وتنقل في البلدان، وجاب صحاري، وركب بحارًا، حتى وصل المدينة، وكان للعلم مركزان، جامعتان كبيرتان: جامعة محافظة – إن صح التعبير – تعنى بالنقل وبدراسة النصوص، مقرها المدينة وأستاذها الأكبر مالك، وجامعة مجددة تميل إلى النظر العقلي، والبحث الحقوقي، ومقرها العراق، وأستاذها الأكبر أبو حنيفة. فقصد جامعة المدينة ولزم الإمام مالكًا رحمه الله.
وكانت لمالك هيبة في الصدور، فلا يجرؤ أحد عليه، وكانت طريقة تلاميذه معه الاستماع، والإقلال من المناقشات، فلا يفرضون الفروض، ولا يقدرون الوقائع التي لم تقع، ويضعون لها الأحكام، كما يصنع علماء العراق، بل يسألون عمَّا وقع من الأحداث، ولا يلحون في السؤال، ولم تعجب هذه الطريقة الشاب التونسي، فجعل يفرِّع من كل مسألة مسألة، ويلح في طرح الأسئلة عليه، ورأى منه تلاميذ مالك هذه الجرأة، فكانوا يحملونه أسئلتهم أيضًا ليلقيها على الإمام مالك.
صحب ابن الفرات مالكًا سنتين، ثم أزمع الانتقال إلى الجامعة الأخرى، جامعة العراق، فدخل على الإمام مودعًا شاكرًا وسأله أن يوصيه. فقال له: "أوصيك بتقوى الله، والقرآن، والنصيحة للناس".. ثلاث كلمات جمعت الفضائل كلها.

عراق محمد بن الحسن

ورحل إلى العراق وكان الإمام أبو حنيفة قد مضى إلى رحمة الله، وولى أستاذية مدرسته تلاميذه يقدمهم أبو يوسف ومحمد. وكان الإمام أبو يوسف قد شغل القضاء. وأما الإمام محمد فقد تصدر للتدريس وللبحث، وانتهت إليه رياسة العلماء، فلزمه هذا الشاب المغربي، فكان يحضر دروسه العامة، ثم أحب أن يكون له درس خاص، يغرف فيه ما استطاع من علم الإمام محمد ليحمله إلى بلاده، فطلب ذلك من شيخه..
وبمنتهى التواضع وكرم العلماء وتفرسهم في النجباء ورغم انشغال الشيخ وازدحام الوقت إلا إنه أخذ الشاب المغربي إلى بيته، وأعطاه غرفة بجنب غرفته، وكان يسهر معه الليل، يضع أمام التلميذ قدح ماء، فإذا نعس نضح وجهه ليصحو.
ما طلب منه أجرًا، ولا سأله مالاً، بل كان هو الذي يطعمه ويسقيه؛ ذلك لأن العلم كان في رأي أسلافنا الأولين عبادة، وكان قربة إلى الله، فالطالب يطلب العلم لله، لا للشهادة ولا للدنيا، والأستاذ يعلم العلم لله، لا للمرتب ولا للمنصب.
ولبث أسد بن الفرات أمدًا مع الإمام محمد. وكان أسد أول من نعرفه ـ مع الشافعي ـ جمع بين مذهب مالك ومذهب أبي حنيفة، وبين مدرسة المدينة النقلية، ومدرسة العراق العقلية.
ثم أزمع الرحلة إلى مصر.. وكان يتصدر التدريس في مصر عالمان من تلاميذ الإمام مالك، أشهب وابن القاسم، ولم يكن قد ظهر نجم الشافعي ثم، وكان كلاهما مجتهدًا يخالف إمامه في بعض المسائل، ولكن أشهب فيه حدَّة وفي ابن القاسم أناة ولين.
لزم أشهب حتى سمعه يومًا يرد في مسألة على أبي حنيفة ومالك، بلفظة خشنة، فغضب أسد وكان كما عهدناه صريحًا جريئًا. فصرخ به على ملأ من الناس وقال له قولاً فظيعًا. وفارقه إلى ابن القاسم فلزمه مدة. وجمع ما أخذه من ابن القاسم من مسائل، وأفاض عليها من ذهنه الذي اختمرت فيه علوم تونس والمدينة والعراق، وجعلها في رسالة (مدوَّنة) سماها الأسدية.

دعوى طريفة

وأراد الطلاب نسخها فأبى، وقال: عملتها لنفسي. فرفعوا عليه دعوى، دعوى طريفة جدًا، حار فيها القاضي، ثم حكم بأن الكتاب يجمع مسائل ابن القاسم، وابن القاسم حي يستطيع المدّعون أن يأخذوا منه مثل ما أخذ أسد. وحكم برد الدعوى.
رد الدعوى قضاء؛ لأنه لم يجد نصًا ملزمًا، ولكنه توسط شخصيًا. فرجا أسدًا أن يعطيهم الكتاب، ففعل وتناقلوه عنه. وقدر الله لهذا الكتاب أن يكون أساس الفقه المالكي كله.
ورجع إلى القيروان عاصمة المغرب بعد غيبة امتدت نحوًا من عشرين سنة صرم نهاراتها، وأحيا لياليها، بالعلم والدرس، ولم يضع فيها لحظة في راحة ولا لعب. ولم يصحب فيها إلا الأئمة والعلماء. ما صحب ذا لهو، ولا ذات جمال.
وكان عمره قد قارب الخمسين، فجلس للتدريس والإقراء يوفي دينه. يعطي التلاميذ مثل ما أعطاه الأساتذة: لله لا لأجر أو منصب، وصارت مدونته الكتاب الرسمي لكل مدرسة مالكية، وأخذها عنه سحنون، ومضى سحنون في رحلة إلى المشرق فقرأها على ابن القاسم نفسه. وكان رأي ابن القاسم قد تبدل في بعض المسائل، فكتب إلى أسد ليعدل المدونة فأبى، فأخذ الناس (مدونة) سحنون، وصارت مرجع المذهب المالكي، وبنيت عليها الشروح والحواشي كلها، واشتهرت باسم مدونة سحنون، وإن كان أصلها لأسد.أمضى أسد بن الفرات عشرين سنة في العلم ثم جاءه المنصب، فقلد القضاء مع أبي محرز.
هذا خبر أسد طالب العلم وأسد الفقيه، وأسد القاضي، فما هو ياترى خبر أسد القائد الأميرال؟!.

أسد القائد الأميرال

حكم المسلمون أطراف البحر المتوسط من نصف الساحل الشرقي إلى نصف الساحل الغربي. وكان الساحل الجنوبي كله لهم، والشمالي تحت حمايتهم، وفي ظلال رايتهم، تربطهم عهود بإيطاليا وصقلية، فجاء زعيم صقلية لاجئًا إلى أمير المغرب الأمير زيادة الله، وخبره أن حكومة صقلية نقضت العهد، وحبست أسرى المسلمين، وأساءت إلى الجالية الإسلامية.
وتردد الحاكم في قبول الخبر، وأحب أن يقف على حكم الشرع فيه.. ودعا القاضيين (أبا محرز وأسد بن الفرات) يستفتيهما، أما أبو محرز فلم ير هذا الإخبار كافيًا، وأما أسد فقال: إن المعاهدة إنما أبرمت على أيدي الرسل، وإخبار الرسل كافٍ لنقضها. فلما أفتاه أسد شرع يجهز الأسطول.
وطلب القاضي أسد بن الفرات أن يكون مع المجاهدين، فأبى الأمير خوفًا عليه وضنًّا به، فألح وألح، وقال: "وجدتم من يسير لكم المراكب من النوتية، وما أحوجكم إلى من يسيرها لكم بالكتاب والسنة".
فلما رأى منه الجِدّ، ولاه إمارة الحملة. وكان يريد أن يكون جنديًا متطوعًا، لا يريد الإمارة. فلما أعطيها تألم وقال للأمير: أبعد القضاء والنظر في الحلال والحرام، تعزلني وتوليني الإمارة؟، ذلك لأن القضاء كان في عرفهم فوق الإمارة،. فقال: ما عزلتك عن القضاء، ولكن أضفت إليك الإمارة، فأنت قاض وأمير. وكان أول من جُمع له المنصبان.
جهز الأسطول وكان مؤلفًا من ثمان وتسعين قطعة حربية، فيه جيش من عشرة آلاف راجل وتسعمائة فارس. وخرج الناس للوداع في ميناء سوسة، وكان يومًا لم ير المغرب مثله، وتكلم الحاكم والخطباء، وقام القاضي الأمير ليتكلم. أحزروا ماذا قال؟
لا، لم يَزْهُ ولم يتكبر، ولم يملأ الجو تهديدًا للعدو، وإبراقًا وإرعادًا فخرًا عارمًا، ولكن جعل من هذا الموقف مدرسة، وعاد مدرسًا. فقال: "والله يا معشر الناس ما ولي لي أب ولا جد ولاية قط. وما رأى أحد من أسلافي مثل هذا قط، وما بلغته إلا بالعلم، فعليكم بالعلم، أتعبوا فيه أذهانكم، وكدوا به أجسادكم، تبلغوا به الدنيا والآخرة".

إمام في الفقه والحرب

كأنكم تتساءلون، وماذا يصنع هذا الشيخ بقيادة الأسطول؟ ومن أين له العلم بالحرب والبحر وما درس في مدينة بحرية، ولا مارس أمور الحرب والقتال؟
لقد نجح يا سادة ونجاحًا منقطع النظير، وهاكم قصة تدلكم على شدة مراسه وقوة بأسه، وأنه كاسمه أسدُ غابٍ.
لما طالت أيام المعركة، وقلت الأقوات، تململ بعض الجند، وتحركت عناصر الشغب والفساد، وأحكموا أمرهم، وعزموا على العصيان، وحفوا بالقاضي الأمير أسد بن الفرات، وأقبل زعيمهم أسد بن قادم، يعلن رغبة الجند في العودة إلى ديارهم. وهي رغبة ظاهرها الطاعة، وباطنها الثورة، فقابلها أسد بالحكمة أولاً وراح يبين لهم قرب النصر، وعظم الأجر، فما ازدادوا إلا عتوًّا. وتقابل الأسدان، وتجرأ الثائر فقال: على أقل من هذا قتل الخليفة عثمان بن عفان!
ومعنى هذا إعلان الثورة فماذا يصنع الفقيه القاضي؟
أيستخذي ويخضع؟ ويضيع المعركة، ويخسر النصر المرتقب، من أجل ثورة عاصفة، يقوم بها جند مشاغبون؟ أم يشتد ويحزم؟ وماذا يصنع إذا هو اختار الشدة والحزم؟

لقد صنع أيها السادة ما لا يصنع مثله أبطال الروايات الخيالية: تناول السوط من يد أحد الحرس، وانتصب أمام الثائر وضربه على وجهه أولاً وثانيًا. ولبسته قوة سماوية خارقة هي قوة الإيمان، صرخ بالجند: إلى الأمام. وتقدمهم، وكان الظفر، وكان الفتح، وكان ابتداء الدولة الإسلامية في صقلية التي امتدت قرونًا، ولكن الثمن كان غاليًا. لقد استشهد القائد البطل الفقيه القاضي أسد ابن الفرات! هوى وهو يحمل راية النصر، ولم يعرف له قبر.



هوى طاهر الأثواب لم تبق روضة ... غادة ثوى إلا اشتهت أنها قبر


عليك سلام الله وقفًا فإنني ... رأيت الكريم الحر ليس له قبر







مجلة الزيتونة

http://www.azeytouna.net/Tarih/Tarih006.htm (http://www.azeytouna.net/Tarih/Tarih006.htm)