تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : المعتدلون للفراش، وللديمقراطية الحجر



مقاوم
02-09-2007, 01:56 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


الزاوية: صناعـة الحيـاة


الموضوع: المعتدلون للفراش، وللديمقراطية الحجر.
بقلم: د. باسم عبد الله عالِم
محامِ ومستشار قانوني

كنت أستمع قبل زمن ليس بالبعيد إلى الكثير من الناشطين السياسيين في العالمين العربي والإسلامي، وكنت أجد في نبرات صوتهم ثقة غير معهودة وأرى على محياهم نشوة أشبه بنشوة الإنتصار. وكان الأثير يحمل الكثير من الأمل عبر القنوات والإذاعات العالمية، كيف لا وسيدة الدنيا قد قررت أن الوقت قد حان ليتحول الجميع نحو الليبرالية الإجتماعية والديمقراطية السياسية. وكنت أراقب عن كثب وأقارن بين ما يقال على لسان أساطين الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية والتطبيق الفعلي لهذه السياسات على أرض الواقع، فأرى مفارقة عجيبة بين الأولى والأخيرة. وكنت أرى كيف تغض أمريكا الطرف عما يصيب دعاة الديمقراطية الرافضين لسياساتها من جهة وكيف كانت تهب لنصرة أفراخها من دعاة الغربنة العمياء من جهة أخرى. وفي خضم كل ما كان يقال كنت ولا زلت أؤمن بضرورة أن يكون المنبع صاف والمطلب خال من شوائب الغرض الأمريكي السياسي وإلا زال الحق بزوال الراعي. والحق أعظم وأكبر من أن يناط بمخلوق أو أن يحمله غير أصحابه المؤمنين بما يقولون ويفعلون.


وبمرور الزمن وتباعد المدد، سارعت الكثير من الدول مهرولة نحو الرضى والحبور الأمريكي بإستحداث واجهات مدنية مفرغة من محتواها. ولسان الحال كان الرهان على قصور نظرة السياسة الأمريكية وفتور عزيمتها كما عهد عنها دوما، وقد كان. وقد أسهمت بعض الدول في تساارع عملية الفتور أو تغيير النهج السياسي الأمريكي من خلال اللعب بورقة الأصولية الإسلامية وبأن هذه الأصولية مؤداها تقويض السياسات والمصالح الأمريكية فيس المنطقة والتي لا يحسن الحفاظ عليها إلا هذه الأنظمة القلقة مما كان من توجه أمريكي نحو الديمقراطية.
والمراقب للسياسات الأمريكية بوجه عام يدرك هشاشة مصداقية هذه السياسات لإرتباطها بأمرين لا ثالث لهما. الأول: هو الصراعات السياسية الداخلية التي تنعكس بشكل مباشر على القرارات المصيرية المتعلقة بشعوب وأقاليم في العالم. ولا أكون مبالغا إن قلت بأن تفاوضا على بند من الميزانية الأمريكية، قد يؤدي بالرئيس من جهة أو الحزب المعارض من جهة أخرى، أن يتخلى أحدهما عن وعود ويلغي مخصصات وينكص عن وعود من شأنها أن تهز دولا وأقاليم إتخذت مواقف جذرية تبعا لهذه الوعود التي ذهبت أدراج الرياح على مائدة مفاوضات حول بند من بنود الميزانية الأمريكية. الأمر الثاني هو: المصالح التي تصب في تعزيز الهيمنة السياسية والإقتصادية الأمريكية. وقد يقول القائل بأن من المستحيل تسطيح المسألة إلى هذا الحد، والجواب يكمن في ما نرى اليوم من مواقف السياسة الأمريكية تجاه الدول بحسب مواقف هذه الدول من المصالح ال\امريكية الداخلية والخارجية. ولعل فنزويلا أو غيرها من دول أمريكا اللاتينية التي قررت إتخاذ مسارا مستقلا عن مسار الإنقياد الأعمى للسياسة الأمريكية قد عانت الأمرين من المؤارات الأمريكية التي بلغت حد التشجيع والتمويل (بطرق غير مباشرة) للقيام بإنقلاب على الحكم في هذه الدول كما كان من أمر الإنقلاب الفاشل على الرئيس المنتخب ديمقراطيا في فنزويلا. وهذه الديمقراطية قد أسفرت عن فوز حزب إسلامي في فلسطين، فأبرت لها أمريكا تحشد العالم ضد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

وقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية قبيل السنتين بإطلاق حملة دعائية واسعة بغرض التحول الديمقراطي في المنطقة وبذلك تنصب نفسها قائدا وملهما للمنطقة لسنوات قادمة. وقد كان منها ومن أساطين حكمها وزبانيتهم نشاط غير محدود في التبشير بعصر الديمقراطية والحريات حتى فاق النائمون ودغدغت عواطف الباحثين عن ركن شديد يؤون إليه غير ركن الله سبحانه وتعالى فخرج الناس من مخابئهم كأنهم بعض قوم نوح وقد ظنوا أن زمن الطوفان المغرق لن يصل إليهم وهم في كنف جبل عظيم إسمه أمريكا، ولم يدروا أن جبلهم نفسه سوف يزلزل أقدامهم بعد ان يمل حملهم ويلقي بهم إلى الطوفان غير مأسوفا عليهم. وأذكر جولة السيدة المصون وزيرة الخارجية الأمريكية (كوندوليسا رايس) وهي تجوب أقطار العالم العربي تبشر بالديمقراطية وتعلن بأن عهدا جديدا قد أطل وبأن السياسة الأمريكية سوف ترتبط إرتباطا مباشرا بالديمقراطية وحقوق الإنسان وحق الإختيار. وأمتلأت مدرجات ومسارح الجامعات التي زارتها وقض مضجع الطغاة خوفا من أن تصدق في قولها وتتبعه الفعل فتسارع الجميع بخطى متفاوتة إلى عتبات كوندي لعلها ترضى. عندما سئمت كوندي وسادتها من هذا المشروع الذي لم ينبت غير الإسلاميين والإصلاحيين الذين رفضوا أن يلبسوا نظارات أمريكية وأرتأوا أن الطريق الديمقراطي الحق إنما هو ذلك الذي يقودهم إلى الله سبحانه وتعالى من خلال المفاهيم والقيم الإسلامية العليا التي تقدس الحرية والعقل والإستقلال والنأي عن المؤامرات و الترفع عن الخبث. وهذا لعمري لم يرق لأمريكا فترددت ثم تقاعست ثم تراجعت ثم نكصت على عقبيها. ورجعت كما يرجع المراهق الكهل إلى (الحبيب الأول) بعد أن تغويه مفاتن لم يحسب للإنجراف نحوها حساب. وما الحبيب الاأول إلا زبانيتها التاة الأولين الذين أهلكوا الحرث والنشسل وكلوا العباد سوء العذاب وساموهم أنواع الذلة والإستعباد.

واليوم بعد أن عادت أمريكا إلى رشدها قررت أن الديمقراطية والدعوة لها خطيئة تابت منها وأنابت. وأصبح الأمر منوط بضرورة إعادة ترميم الجسور ليعدوا حكام الزمان الأول عليه عائدين إلى أحضان أمريكا بعض جفوة قصيرة وكأني أسمع كلمات الشاعر كامل الشناوي رحمه الله وهي تغنى (آه ، ما أحلى الرجوع إليه). ولكنه الرجوع من خلال بوابة لها مسمى جديد أصبح إسمه الإعتدال والمعتدلين. والإعتدال ليس يفيد هنا معناه ولكنه إسم لغير المسمى، فالإعتدل يعني الإنصياع الكامل لأمريكا وسياساتها والعداء الأصيل لحرية تقرير المصير إذا كانت هذه الحرية تؤدي إلى الله سبحانه وتعالى. والنسب الشرعي للإعتدال في ما هو الإعتدال ومن هو المعتدل فإن أمريكا هي التي تقرره ، وأما الديمقراطية الأمريكية فقد أكتشفت أنها عاهرة ليس لها اليوم إلا الحجر.

إن الدعوة إلى التغيير والإصلاح لم ولن تنجح أبدا عندما تجيء على جناح الطائر الميمون الأتي من الخارج الإيدولوجي، ولكنها تترسخ وتصبح إستحقاقا عندما يكون ذاتي المنشأ يسقى من عين الدين والمعتقد والمبادئ الحقة.
والله ومن وراء القصد....،

نشرت بالعدد (15997) من جريدة المدينة، يوم الجمعة،21 محرم 1428ﻫالموافق 09 فبراير 2007م، بصفحة الرأي.