علي عقيل الحمروني
02-03-2007, 09:43 PM
ليس بالمنكر ، ولا الجديد أن نقرر بأن البيئة العربية منذ مدة طويلة ، لم تكن إلا بيئة قاسية قاحلة ، جامدة على الصعيدين الجغرافي ، والثقافي مع استثناءات صغيرة ، وبسيطة ، ومتباعدة بالقدر الذي لا يجعلها ذات تأثير عميق ، و متجذر في أعماق الإنسان العربي.والإنسان العربي في حقيقته النهائية ، هو وليد هذه البيئة باقتدار !!
ورغم كل التعرجات التاريخية التي مر بها في عمره الطويل ، فإن عقله الجمعي لازال أسيراً ، ورهيناً لهذا الحلف الثالوثي الرهيب !
فهذا الإنسان كسمة عامة - عدا استثناءات بسيطة- يتعايش مع واقعه التاريخي ، والجغرافي ، والثقافي...الخ كحالة مفروضة ينبغي له أن يتأقلم معها ، ويكيف نفسه لمسايرتها، فهو دائم الشعور بالخوف ، والإحباط ، والعجز أمام غوائل الطبيعة ، دائم الترقب ، والقلق على مكانته الاجتماعية ، والعشائرية ، وقيمها المفروضة، دائم الهلع ، والتوجس من الآخر المغاير للأنا ، دائم التسليم، والتعلق بالمنقذ ، أو الحامي "الزعيم ..الشيخ ..المفكر..المخلِّص.." ، وهو دائم الاستسلام لهذا الواقع لا يغيره ، ولا يتدخل فيه لأجل تطويره ، وعلاجه. ومع ذلك كله فإنه لم ينتهض في هذه البيئة أي رأي عام ثقافي ، بمقدوره أن يخلق إمكانات تنويرية ، صالحة للتفاعل الواعي معها ، كما لم يمتلك أي إمكانات لتفكيك الواقع ، وفهمه فهماً علمياً موضوعياً !
وحتى الخطاب الشعري ، والأدبي الذي يفترض فيه أن يكون متفلتاً بصورة كبيرة من المشروطيات المجهضة للخلق ، والإبداع ، لم يكن إلا تسجيلاً وثائقياً لمحايثات النواة التاريخية بكل إنكساراتها ، وإحباطاتها البليدة .
فهذا الخطاب على تنوعه ، و غناه ، و جماله الفني لم يجعل من مهامه إلهام الإنسان العربي وتفعيله للقبض على ممكنات التاريخ البديل، بل جعل من مهامه الحارة ، اجترار الواقع ، وإعادة إنتاجه في قالب آخر محسن ، وحتى ما نراه من حمّى متصاعدة لجلد الذات في شريحة كبيرة من العمل الشعري ، فإنما هي مجرد طريقة دفاعية تحاول التماهي مع الرفض الفاعل المجاوز.
ولسنا نشك بأن بداية عصر التدوين ، وإنتاج العلوم ، ومناهج البحث المتقدمة في ذاك العصر قد صاحبته ممكنات قابلة للتطوير ، والنماء لكنها أجهضت بفعل عوامل سياسية واجتماعية مضادة، ليستمر ذاك الفراغ السديمي الهائل الذي لا تتخلله إلا بوارق صغيرة لمجهودات فردية ، متناثرة ، ومنعزلة عن بعضها زمنياً ، ومكانياً ، ومنهجياً لتذكرنا بين الفينة والأخرى بهذا الواجب الغائب المغيب.
وعود على بدء، نقول:
إن البيئة العربية قد صبغت العقل العربي بعدة خصائص جوهرية ، حتى صارت جزءاً من بنيته القارّة التي تشكل خريطته الجينية ، وما يهمنا منها هنا هو ما يتعلق بموضوعنا ونقصد تحديداً " ذُهان التبسيط " كحالة معرفية ، وعقلية على وجه الخصوص.
فهذه السمة التي عنونّا بها المقدمة ، والتي يمكن اعتبارها كحالة مضادة للمعرفة الموضوعية، فإنها لاتعد كذلك بالفعل ، إلا لكونها تنحو إلى إضفاء سهولة موهومة ، ومضللة على مواضيع بالغة الصعوبة ، والتعقيد، فالذهنية التبسيطية كحالة معرفية، تروم أخذ الأمور على علاتها كما هي على هيئتها المصمتة الخام بلا تفكيك ، أو تحليل حقيقي ، أو تجزئة فعلية لبنيتها الداخلية، فهي ذهنية جامدة "إستاتيكية" بطبعها، تختزل القضايا الكبرى إلى أحكام بسيطة ، وجاهزة ، ومكيفة لامتصاص أية إشكالات تبزغ من هنا ، أو هناك، ومحصنة أمام كل الأطروحات المضادّة!!
وهذه الآثار ، ولاشك ستكون محبطة ، ومدمرة على صعيد الوعي بالواقع ، أو امتلاك القدرة على تحليله ، أو علاجه.
والحركات الإسلامية المعاصرة، وهي وليدة شرعية للعقل العربي، لم تقم بأي مجهود يذكر على هذا الصعيد،أي صعيد الخروج من أسر الذهنية التبسيطية، بل أفرزت بدورها خطاباً إعلامياً يعتمد على مسلمات مفتقرة إلى النظر ، والتأمل ، والتحليل مستخدمة في ذلك ألفاظاً فضفاضة ، وعبارات رنانة تخاطب الشعور الجمعي ، وتدغدغ الذاكرة التاريخية العطشى بفيض زلال، وباستخدام براهين مفصلة على مقاس عقول الدهماء ، والعامة، دونما دلالة حقيقية لهذه البراهين على هاتيك الحقائق ، التي جاءت لإثباتها، فالذهنية التبسيطية غير قادرة بطبيعة تكوينها على فهم الإشكاليات المركبة ، عاجزة عن محاورة أبعادها المختلفة ناهيك عن تقديم الحلول لها ، أو معالجتها ، واتخاذ مواقف موضوعية بشأنها ، وذلك لافتقار هذه الذهنية إلى القدرة الجدلية ، وغياب إمكانات التحليل ، والكشف ، والاستقراء التي تعتبر الأساس في محاورة هذه القضايا المعقدة المركبة ، وذلك نظراً لأنها قد تظافرت جميع عناصرها ، وتبلورت على هيئة واحدة ، مكثفة لا تبدو للناظر إلا بصورتها البسيطة الخادعة والمضللة جداً، رغم أنها مزيج مركب من العناصر والأبعاد !!
ولهذا فإنها ستكون مستعصية على التعري ، أو السفور عن حقيقتها الجوهرية بشكل كامل بدون معالجة معملية صارمة ،ومضنية ، وباستخدام مناهج البحث ، والتحليل المتطورة التي أنتجها العقل العلمي عبر تطوره التاريخي الطويل !!
وهذا مالم تمتلكه "القيادات الأصولية" وما لم تساهم في امتلاكه ، ولهذا فقد أخفقت إخفاقاً مخيفاً في تفهم إشكالات الأمة الحقيقية.. كما أخفقت في أن ترتقي بنفسها ، وبخطابها إلى مستوى العصر ، أو تساهم في بذر الوعي بهذا الإشكال الخطير، وبدلاً من ذلك انصرم جماع همها لتنمية المعارف الكمية ، وتكثيفها إما اعتقاداً منها بأنها الوسيلة الناجعة للخروج من ربقة الذهنية التبسيطية من خلال حشو العقل ، ورصفه بهذه المعارف التي يمكن أن تمكنه من تحسين مستواه المعرفي ، وتطوير قدراته الذهنية، وإما أنها قد استثقلت على نفسها هذه المهمة إذا افترضنا عدم جهلها بهذه الحقيقة الكبرى، وفي كل الأحوال فإن محصلة هذه المحاولات ، والمجهودات جميعاً هو المزيد من التعتيم ، والتغييب ، والمزيد من الستر، والتغطية !!
فالمعارف الكمية مهما عظمت ، وتضخمت فإن طبيعتها التكوينية لا تسمح بامتلاك "معيارية موضوعية" يمكنها أن تقي الباحث من التلاعب الذهني بواقع الخطاب ، باقتطاعات غير ممنهجة لشرائحه ، وأنسجته بخلق نوع من الروابط الوهمية بين محدداتها ، بالقدر الذي يحقق الاتساق الذاتي مع المحددات الأولية الخام للموضوع المعالج ، وبالتالي خلق الحصانة الكافية من أيّة مقاومة ذهنية ، مضادة بشكل جدي، وعملي.
إن المزيد من الاعتماد على الألمعية ، والذكاء الشخصي ، وتركيم المعارف الكمية قد أضحى أسلوباً متخلفاً لا علمياً في عالم اليوم ، بعد هذه القفزات الهائلة في مناهج العلوم ، وطرق البحث ، وصياغة الخطاب العلمي ، حيث أصبح في مقدور طلبة المدارس المتوسطة أن يقوموا بتحليل ، ودراسة قضايا مركبة بدون أغلاط تذكر، وباستخدام خطوات عملية منضبطة بقدر انضباط قوانين الغاز ، وتمدد السوائل ، ولم يعد الإنسان في حاجة إلى أن يفني عمره في تحصيل المعارف الكمية ليفوز بمرتبة المحلل ، أو المعالج ، أو الخبير ، أو ما هو في معناها !!
إن إنسان اليوم قد اختصر على نفسه هذا الإهدار اللامبرر للوقت والجهد، بعد أن أصبح بإمكان أن يتوصل إلى نتائج كبيرة ، وعظيمة في وقت قياسي في الوقت الذي يمكن أن تكلفه السنين الطوال فيما مضى ، وذلك من أهم إنجازات العقل العلمي الذي لم يعرفه العقل الأصولي ، أو يتجاهل معرفته إلى اليوم.
وقد كان على الحركات الأصولية المعنية بهذه الشؤون ، والتي طرحت نفسها كطليعة لهذه الأمة أن تختار أحد اتجاهين للقيام بوظيفتها التاريخية التي تدعيها لنفسها وهما:
الاتجاه الأول:
ويمكن بلورته في جملة من النقاط كالتالي :
"1" محاربة القمع الفكري ، والثقافي ، والعقائدي نظرياً ، وعملياً ، والتأكيد على حرية التفكير ، والتعبير بلا أية مشروطيات اجتماعية ، أو سياسية ، أو عقائدية…الخ ، وبطريقة جدية.
"2" الابتعاد عن روح التعصب ، والاستعلاء العقائدي ، والفكري ، ومحاربة روح الاستئصال ، والإقصاء.
"3" رفع الوصاية البابوية عن الأفكار ، والمعتقدات ، وتجذير الإيمان بحرية الإنسان ، واحترام اختياراته الفكرية ، والعقائدية ، والتعامل الحضاري مع الخلاف.
"4" تنمية الوعي الحواري ، وتحريك الهمم للمشاركة في إنتاج المعرفة ،وكسركهنوتها ، وهيبتها الزائفة.
"5" تجذير الحقيقة القاضية بنسبية إدراك الحقيقة ، وأنه لا يحق لأحد إدعاء امتلاكها كاملة.
"6" التأكيد على أن العامل الحاسم في تقرير الحقائق هو البرهان ، والبرهان ، وحده.. دون النظر إلى الأسماء ، أو الألقاب ، واللافتات ، والعناوين ، أو...الأعمار؟
"7" تنمية روح الاستيعاب ، والعذر ، والتسامح ، ومحبة الحق ، والإخلاص في طلبه ، وبذل الوسع لامتلاكه ، وامتلاك ، وسائله.
وهذه الأفكار الآنفة كان ينبغي على الحركات الأصولية طرحها ، و تجديرها بشكل جدي، وعملي ، والسعي الحثيث ، والصارم لإيجاد رأي عام ثقافي لها في هذه الأمة عوضا عن أنصارها ..حتى يمكن لبيئتها أن تتطور بشكل طبيعي ، وتفرز مبدعيها ن وتحسن ذهنيتها بشكل تلقائي ، وبدون ولادة قيصرية.
الاتجاه الثاني:
أن يتجه مسعاها لامتلاك طرق ، ومناهج البحث ، وطرق التفكير، والاستدلال…العصرية التي أنجزها العقل العلمي في أرقى تجلياته ، وأعظمها جدية.. حتى يمكن أن ترتقي بعقول منظريها ، وأتباعها إلى مستوى العصر ، لمحاولة تقديم الحلول، والمعالجات للخروج بالأمة من هذا المخنق التاريخي الذي وقعت بين فكيه منذ أمد بعيد، ولكنها أخفقت في كل ذلك إخفاقاً ذريعاً، وعلى كلا الاتجاهين، وبالتالي فقد ارتدّ هذا الإخفاق على دورها التاريخي الذي يجب أن تعترف بأنها لم تكن في مستواه قلباً ، وقالباً، وتوجَّب عليها أن تلقي هذه الأمانة التاريخية عن كاهلها لمن يستحقها ثم تحرق نفسها كما يفعل طائر الفينيق الأسطوري…ولكن...لا لتعود!
ورغم كل التعرجات التاريخية التي مر بها في عمره الطويل ، فإن عقله الجمعي لازال أسيراً ، ورهيناً لهذا الحلف الثالوثي الرهيب !
فهذا الإنسان كسمة عامة - عدا استثناءات بسيطة- يتعايش مع واقعه التاريخي ، والجغرافي ، والثقافي...الخ كحالة مفروضة ينبغي له أن يتأقلم معها ، ويكيف نفسه لمسايرتها، فهو دائم الشعور بالخوف ، والإحباط ، والعجز أمام غوائل الطبيعة ، دائم الترقب ، والقلق على مكانته الاجتماعية ، والعشائرية ، وقيمها المفروضة، دائم الهلع ، والتوجس من الآخر المغاير للأنا ، دائم التسليم، والتعلق بالمنقذ ، أو الحامي "الزعيم ..الشيخ ..المفكر..المخلِّص.." ، وهو دائم الاستسلام لهذا الواقع لا يغيره ، ولا يتدخل فيه لأجل تطويره ، وعلاجه. ومع ذلك كله فإنه لم ينتهض في هذه البيئة أي رأي عام ثقافي ، بمقدوره أن يخلق إمكانات تنويرية ، صالحة للتفاعل الواعي معها ، كما لم يمتلك أي إمكانات لتفكيك الواقع ، وفهمه فهماً علمياً موضوعياً !
وحتى الخطاب الشعري ، والأدبي الذي يفترض فيه أن يكون متفلتاً بصورة كبيرة من المشروطيات المجهضة للخلق ، والإبداع ، لم يكن إلا تسجيلاً وثائقياً لمحايثات النواة التاريخية بكل إنكساراتها ، وإحباطاتها البليدة .
فهذا الخطاب على تنوعه ، و غناه ، و جماله الفني لم يجعل من مهامه إلهام الإنسان العربي وتفعيله للقبض على ممكنات التاريخ البديل، بل جعل من مهامه الحارة ، اجترار الواقع ، وإعادة إنتاجه في قالب آخر محسن ، وحتى ما نراه من حمّى متصاعدة لجلد الذات في شريحة كبيرة من العمل الشعري ، فإنما هي مجرد طريقة دفاعية تحاول التماهي مع الرفض الفاعل المجاوز.
ولسنا نشك بأن بداية عصر التدوين ، وإنتاج العلوم ، ومناهج البحث المتقدمة في ذاك العصر قد صاحبته ممكنات قابلة للتطوير ، والنماء لكنها أجهضت بفعل عوامل سياسية واجتماعية مضادة، ليستمر ذاك الفراغ السديمي الهائل الذي لا تتخلله إلا بوارق صغيرة لمجهودات فردية ، متناثرة ، ومنعزلة عن بعضها زمنياً ، ومكانياً ، ومنهجياً لتذكرنا بين الفينة والأخرى بهذا الواجب الغائب المغيب.
وعود على بدء، نقول:
إن البيئة العربية قد صبغت العقل العربي بعدة خصائص جوهرية ، حتى صارت جزءاً من بنيته القارّة التي تشكل خريطته الجينية ، وما يهمنا منها هنا هو ما يتعلق بموضوعنا ونقصد تحديداً " ذُهان التبسيط " كحالة معرفية ، وعقلية على وجه الخصوص.
فهذه السمة التي عنونّا بها المقدمة ، والتي يمكن اعتبارها كحالة مضادة للمعرفة الموضوعية، فإنها لاتعد كذلك بالفعل ، إلا لكونها تنحو إلى إضفاء سهولة موهومة ، ومضللة على مواضيع بالغة الصعوبة ، والتعقيد، فالذهنية التبسيطية كحالة معرفية، تروم أخذ الأمور على علاتها كما هي على هيئتها المصمتة الخام بلا تفكيك ، أو تحليل حقيقي ، أو تجزئة فعلية لبنيتها الداخلية، فهي ذهنية جامدة "إستاتيكية" بطبعها، تختزل القضايا الكبرى إلى أحكام بسيطة ، وجاهزة ، ومكيفة لامتصاص أية إشكالات تبزغ من هنا ، أو هناك، ومحصنة أمام كل الأطروحات المضادّة!!
وهذه الآثار ، ولاشك ستكون محبطة ، ومدمرة على صعيد الوعي بالواقع ، أو امتلاك القدرة على تحليله ، أو علاجه.
والحركات الإسلامية المعاصرة، وهي وليدة شرعية للعقل العربي، لم تقم بأي مجهود يذكر على هذا الصعيد،أي صعيد الخروج من أسر الذهنية التبسيطية، بل أفرزت بدورها خطاباً إعلامياً يعتمد على مسلمات مفتقرة إلى النظر ، والتأمل ، والتحليل مستخدمة في ذلك ألفاظاً فضفاضة ، وعبارات رنانة تخاطب الشعور الجمعي ، وتدغدغ الذاكرة التاريخية العطشى بفيض زلال، وباستخدام براهين مفصلة على مقاس عقول الدهماء ، والعامة، دونما دلالة حقيقية لهذه البراهين على هاتيك الحقائق ، التي جاءت لإثباتها، فالذهنية التبسيطية غير قادرة بطبيعة تكوينها على فهم الإشكاليات المركبة ، عاجزة عن محاورة أبعادها المختلفة ناهيك عن تقديم الحلول لها ، أو معالجتها ، واتخاذ مواقف موضوعية بشأنها ، وذلك لافتقار هذه الذهنية إلى القدرة الجدلية ، وغياب إمكانات التحليل ، والكشف ، والاستقراء التي تعتبر الأساس في محاورة هذه القضايا المعقدة المركبة ، وذلك نظراً لأنها قد تظافرت جميع عناصرها ، وتبلورت على هيئة واحدة ، مكثفة لا تبدو للناظر إلا بصورتها البسيطة الخادعة والمضللة جداً، رغم أنها مزيج مركب من العناصر والأبعاد !!
ولهذا فإنها ستكون مستعصية على التعري ، أو السفور عن حقيقتها الجوهرية بشكل كامل بدون معالجة معملية صارمة ،ومضنية ، وباستخدام مناهج البحث ، والتحليل المتطورة التي أنتجها العقل العلمي عبر تطوره التاريخي الطويل !!
وهذا مالم تمتلكه "القيادات الأصولية" وما لم تساهم في امتلاكه ، ولهذا فقد أخفقت إخفاقاً مخيفاً في تفهم إشكالات الأمة الحقيقية.. كما أخفقت في أن ترتقي بنفسها ، وبخطابها إلى مستوى العصر ، أو تساهم في بذر الوعي بهذا الإشكال الخطير، وبدلاً من ذلك انصرم جماع همها لتنمية المعارف الكمية ، وتكثيفها إما اعتقاداً منها بأنها الوسيلة الناجعة للخروج من ربقة الذهنية التبسيطية من خلال حشو العقل ، ورصفه بهذه المعارف التي يمكن أن تمكنه من تحسين مستواه المعرفي ، وتطوير قدراته الذهنية، وإما أنها قد استثقلت على نفسها هذه المهمة إذا افترضنا عدم جهلها بهذه الحقيقة الكبرى، وفي كل الأحوال فإن محصلة هذه المحاولات ، والمجهودات جميعاً هو المزيد من التعتيم ، والتغييب ، والمزيد من الستر، والتغطية !!
فالمعارف الكمية مهما عظمت ، وتضخمت فإن طبيعتها التكوينية لا تسمح بامتلاك "معيارية موضوعية" يمكنها أن تقي الباحث من التلاعب الذهني بواقع الخطاب ، باقتطاعات غير ممنهجة لشرائحه ، وأنسجته بخلق نوع من الروابط الوهمية بين محدداتها ، بالقدر الذي يحقق الاتساق الذاتي مع المحددات الأولية الخام للموضوع المعالج ، وبالتالي خلق الحصانة الكافية من أيّة مقاومة ذهنية ، مضادة بشكل جدي، وعملي.
إن المزيد من الاعتماد على الألمعية ، والذكاء الشخصي ، وتركيم المعارف الكمية قد أضحى أسلوباً متخلفاً لا علمياً في عالم اليوم ، بعد هذه القفزات الهائلة في مناهج العلوم ، وطرق البحث ، وصياغة الخطاب العلمي ، حيث أصبح في مقدور طلبة المدارس المتوسطة أن يقوموا بتحليل ، ودراسة قضايا مركبة بدون أغلاط تذكر، وباستخدام خطوات عملية منضبطة بقدر انضباط قوانين الغاز ، وتمدد السوائل ، ولم يعد الإنسان في حاجة إلى أن يفني عمره في تحصيل المعارف الكمية ليفوز بمرتبة المحلل ، أو المعالج ، أو الخبير ، أو ما هو في معناها !!
إن إنسان اليوم قد اختصر على نفسه هذا الإهدار اللامبرر للوقت والجهد، بعد أن أصبح بإمكان أن يتوصل إلى نتائج كبيرة ، وعظيمة في وقت قياسي في الوقت الذي يمكن أن تكلفه السنين الطوال فيما مضى ، وذلك من أهم إنجازات العقل العلمي الذي لم يعرفه العقل الأصولي ، أو يتجاهل معرفته إلى اليوم.
وقد كان على الحركات الأصولية المعنية بهذه الشؤون ، والتي طرحت نفسها كطليعة لهذه الأمة أن تختار أحد اتجاهين للقيام بوظيفتها التاريخية التي تدعيها لنفسها وهما:
الاتجاه الأول:
ويمكن بلورته في جملة من النقاط كالتالي :
"1" محاربة القمع الفكري ، والثقافي ، والعقائدي نظرياً ، وعملياً ، والتأكيد على حرية التفكير ، والتعبير بلا أية مشروطيات اجتماعية ، أو سياسية ، أو عقائدية…الخ ، وبطريقة جدية.
"2" الابتعاد عن روح التعصب ، والاستعلاء العقائدي ، والفكري ، ومحاربة روح الاستئصال ، والإقصاء.
"3" رفع الوصاية البابوية عن الأفكار ، والمعتقدات ، وتجذير الإيمان بحرية الإنسان ، واحترام اختياراته الفكرية ، والعقائدية ، والتعامل الحضاري مع الخلاف.
"4" تنمية الوعي الحواري ، وتحريك الهمم للمشاركة في إنتاج المعرفة ،وكسركهنوتها ، وهيبتها الزائفة.
"5" تجذير الحقيقة القاضية بنسبية إدراك الحقيقة ، وأنه لا يحق لأحد إدعاء امتلاكها كاملة.
"6" التأكيد على أن العامل الحاسم في تقرير الحقائق هو البرهان ، والبرهان ، وحده.. دون النظر إلى الأسماء ، أو الألقاب ، واللافتات ، والعناوين ، أو...الأعمار؟
"7" تنمية روح الاستيعاب ، والعذر ، والتسامح ، ومحبة الحق ، والإخلاص في طلبه ، وبذل الوسع لامتلاكه ، وامتلاك ، وسائله.
وهذه الأفكار الآنفة كان ينبغي على الحركات الأصولية طرحها ، و تجديرها بشكل جدي، وعملي ، والسعي الحثيث ، والصارم لإيجاد رأي عام ثقافي لها في هذه الأمة عوضا عن أنصارها ..حتى يمكن لبيئتها أن تتطور بشكل طبيعي ، وتفرز مبدعيها ن وتحسن ذهنيتها بشكل تلقائي ، وبدون ولادة قيصرية.
الاتجاه الثاني:
أن يتجه مسعاها لامتلاك طرق ، ومناهج البحث ، وطرق التفكير، والاستدلال…العصرية التي أنجزها العقل العلمي في أرقى تجلياته ، وأعظمها جدية.. حتى يمكن أن ترتقي بعقول منظريها ، وأتباعها إلى مستوى العصر ، لمحاولة تقديم الحلول، والمعالجات للخروج بالأمة من هذا المخنق التاريخي الذي وقعت بين فكيه منذ أمد بعيد، ولكنها أخفقت في كل ذلك إخفاقاً ذريعاً، وعلى كلا الاتجاهين، وبالتالي فقد ارتدّ هذا الإخفاق على دورها التاريخي الذي يجب أن تعترف بأنها لم تكن في مستواه قلباً ، وقالباً، وتوجَّب عليها أن تلقي هذه الأمانة التاريخية عن كاهلها لمن يستحقها ثم تحرق نفسها كما يفعل طائر الفينيق الأسطوري…ولكن...لا لتعود!