تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : فلسفة المقاومة بين خيار السلاح ومشروع الإصلاح



الحسني
12-02-2006, 11:21 AM
[u:9c850ce37b][color=darkblue:9c850ce37b][size=24:9c850ce37b][align=center:9c850ce37b]فلسفة المقاومة بين خيار السلاح ومشروع الإصلاح[/align:9c850ce37b][/size:9c850ce37b][/color:9c850ce37b][/u:9c850ce37b]

تُعدّ مقاومة المحتل المغتصب في كل الشرائع والملل عملاً بطولياً مشرّفاً مهما كانت طبيعة الغاصب المعتدي من حيث الفكر والجنس، ومهما كان هذا المقاوم من حيث الهدف والتوجّه. وكل الشعوب البشرية تفاخر بشهدائها، وتقدّس دماءهم الزكية اللاهبة بالنصب التذكارية والأعياد السنوية كطبيعةٍ لفطرة الإنسان وميوله نحو الحرية والعدالة ومقاومة الاستبداد.

والفلسفة الإسلامية للمقاومة ورد العدوان يُصطلح عليها بـ"الجهاد" كمفهوم له دلالاته المستوحاة من معناه اللغوي، فمعطياته اللغوية واستعمالاته الشرعية تعود في مجموعها إلى بذل الجهد والاجتهاد في التبليغ والدعوة والقتال، والجهاد لم يُشرع إلا كوسيلة لحفظ الدين ونشره والدفاع عن دعاته ومبلغيه، وحماية لبيضة المسلمين، ومواجهة كل المعتدين و المحتلين لأراضي الأمة و مكتسباتها؛ ولا شك أن هذا يقتضي بذل الغاية من الجد والاجتهاد، والقائد المسلم حامل لواء العمل بالجهاد سواء كان قتاله للطلب والدعوة، أو للدفع والمقاومة، عليه مسؤولية كبرى في حماية هذا المسلك الخطير من النزوات النفسية والمطامع الدنيوية؛ حتى لا يكون جهاده تنفيساً للغرور بالقوة أو العلو في الأرض، والقادة والجنود في حالة المقاومة أو النصرة عليهم واجب المراعاة التامة لمقاصد الجهاد في حفظ الدين وليس تضييعه، وحقن الدماء، وليس سكبها رخيصة في كل وادٍ يمرون فيه، وأن الأرواح التي تُزهق بسببهم هي في ذمتهم أحياءً وأمواتاً، وقطرات الدم التي تُراق بغير وجه حق هي أعز عند الله تعالى من الكعبة ولو نُقضت حجراً حجراً ..

والتاريخ الإسلامي -في بعض مراحله- لم يسلم من تلك الخروقات المشينة لمحاسن ذلك التشريع، وحسبنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه الراشدين أنموذجاً يُقتدى به في حماية الجهاد من التضييع لمقاصده أو الإخلال بمعانيه.

وبما أن الجهاد لم يكن -في نفسه- هدفاً أو غاية بل كان وسيلة لتحقيق مقاصد الدعوة والإصلاح؛ فإنه لم يُشرع إلاّ في حالة استنفاد المسلمين خيار السلم والمحاورة بالتي هي أحسن، ثم بعد استنفاد خيار الجزية بحماية الآخر مقابل مال عادل يُؤخذ من أقويائهم ويُردّ في حماية أوطانهم؛ مع فتح الحدود لتبادل العلاقات ونشر الدين من غير إكراه أو إجبار .. وحتى لو انقضت تلك الخيارات فإن المسلمين لا يقدمون على القتال، ومازالت هناك مجالات أخرى يحسن فيه تبليغ الدين من غير المواجهات أو القوة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم". وهذا يدل على عموم مفهوم الجهاد لكل وسائل الدعوة والتبليغ، سواء كانت بالوسائل السلمية الفكرية و الإعلامية و المدنية، أو من خلال الأدوات القتالية التي جعلها القرآن آخر الدواء وأضعف المحاولات وأكرهها على النفس؛ كما ورد في القرآن: (كُتِب عليكم القتالُ وهو كُرهٌ لكم). وقال تعالى :(وتودّون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، وغيرها من النصوص.

هذه الفلسفة الجهادية لو تأمّلناها من خلال كل النصوص من غير تجزيء لمفرداتها، وأعملنا القواعد الكلية والمقاصد المرعية؛ فإن الجهاد يأتي حينئذ كلبنة في مشروع بناء مجتمع أمثل يعمه الأمن والاستقرار، ولا يأتي القتال إلا كحالة استثنائية لها شروطها الصارمة، وليس باباً نحو الفتن والشرور وانتهاك الحرمات، لذا فهو جزء من معركة الإصلاح التي يدعو إليها الإسلام في معركته مع الأهواء المضلة والنفوس الظالمة والعادات الباطلة، هذه الفلسفة الجهادية كانت واضحة في الوعي الديني لدى جيل التأسيس من الصحابة -رضي الله عنهم- عبّر عنها ربعي بن عامر لما سأله رستم عن هذه الفلسفة ومبادئ مشروعهم التوسعي فقال له: "الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جوْر الأديان إلى عدل الإسلام". هذه القيم هي أبجديات الإصلاح المنشود من وراء أي مواجهة للمسلمين مع غيرهم، سواء كانت حرباً مادية أو صراعاً حضارياً أنتجته العولمة المعاصرة، وفقدان الفرد المسلم لهذه المعاني يحرمه من القوة المعنوية التي تمنحه الصمود والقيام بدوره في الشهود الحضاري.

والأمة الإسلامية وهي تمر بمحنة الاعتداء اللطيف في بعض دويلاتها؛ حيث تُحتلّ العراق وأفغانستان وفلسطين بذرائع ماكرة: كتحرير الإنسان من الظلم، أو نشر الديمقراطية الغربية، أو استعمار تلك الدول والنهوض بها، كل تلك الشعارات قد احترقت وتلاشت مع البوارج المدمرة والطائرات المحرقة والتفجيرات الانتحارية. فالوضع الراهن بوضوحه للرأي والسامع شجّع على إحياء الدعوة للقتال من أجل رفع العدوان، ولا أستنكر هذا الخيار الذي دفعهم إليه وسوّغه لهم الاستكبار الغربي والعنجهية الامبريالية المعاصرة، ولكن قبل هذا العلاج هناك شروط مهمة وسنن ضرورية في جعل القتال مشروعاً إصلاحياً، وليس وسيلة نحو المناكفة المهزوزة أو ردة الفعل السريعة الخاطئة.

إن تحرير الأوطان هو من أجلّ الأعمال؛ فهو إحقاق للعدل، ورفع للظلم، وبناء للمجتمع، وحماية للإنسان، فإذا كان تحريرها على أيدي أبطال معركة السلاح من غير عدة متكاملة لمشروع الإصلاح الواعي؛ فإن مصيرهم الإخفاق في التحرير والاستقلال، والثورات العربية في منتصف القرن الماضي وقعت في هذا الخلل الذي جعل شعوبهم يحنّون إلى عصور الاستعمار الأجنبي، ولو كان بغياً وعدواناً! فالمقاتلون الذي لا ينتظرون سوى دحر العدو فقط قد يقعون في عداوة أنفسهم إن لم يهذبوها من الأطماع والمصالح الفردية، وهذا ما جعل الجهاد الأفغاني الذي سرت في وديانه الكثير من الدماء الزكية والتضحيات الغالية، وهُزِمت على جباله جيوش السوفيت القمعية أخفقت في أول اختبار حقيقي مع النفوس التي لم تتحرر من أهوائها وحظوظها، وأرجعت كل الإنجازات الماضية إلى ليل بهيم من الدمار والتشتت والخراب المجتمعي.

لا أظن أن هناك مراجعة حقيقية للتجارب الجهادية المعاصرة، بل أرى أن الأخطاء تتكرر في كل ميدان ينقلب فيها الجهاد المشروع إلى معول للإرهاب والقتل الممنوع، وتُستغلّ مشاعر الشعوب المقهورة بعنتريات مفضوحة يتكرر فيها أكل الثور الأبيض أمام مرأى نفس المشاهدين الصامتين.


(منقوووول)