تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ديمقراطية المعيز...



فـاروق
10-12-2006, 09:47 AM
بثينة الناصري-العراق

منذ ان عرفت ان جيش الاحتلال يوزع كرات قدم على العراقيين وانا احاول مستميتة ان اتصل بابني (..) في بغداد . كنت اخشى ان يفوت على نفسه – بتكاسله المعهود- هذه الفرصة للحاق بملعب الديمقراطية.


وارجو ان تكونوا قد رأيتم في الفضائيات العربية مارأيته من كرات تتقاذف هنا وهناك وعراقيين تبدو عليهم اقصى آيات السعادة وهم يتسلمون حلم حياتهم الذي انتظروه طوال 12 سنة من الحصار والحرمان . . كرات قدم من جنود مدججين بالسلاح وتلتقط الكاميرات الوجوه المبتسمة والايدي المتصافحة ثم يفتتح الجندي الامريكي اللعب بركلة قوية بحذائه العسكري الذي كان قد رفعه لتوه عن رقبة كهل عراقي مبطوح علىالارض. فإذا اعتذر البعض منكم من انه لم ير هذه المشاهد المدهشة الدالة على ان عملية اعادة البناء حقيقية رغم كيد الاعادي والفلول، لأنه لايملك حتى الان ستيلايت. . فكيف بالله عليكم يكون مثل هذا جديرا بالانتماء الى العالم الثالث وكيف سيتمكن من التفرج على الديمقراطية وهي تنهمر من السماء بوزن 500 طن على رؤوس جيرانه ؟


عندما كنا صغارا ولانفهم شيئا، كانوا يقولون لنا في الكتب ان الديمقراطية كلمة لاتينية من مقطعين وانها تعني حكم الشعب نفسه بنفسه. والان نعرف انهم كذبوا علينا، و ان الديمقراطية كما نراها الان شيء آخر. فالديمقراطية الان تعني لكل ذي عينين : حكم امريكا الشعوب الاخرى بنفسها، ورغما عنها.


ومن جانب آخر وفي محاولة تبسيط مفهوم الديمقراطية يذكر موقع رسمي للحكومة الامريكية على الانترنيت ان الديمقراطية لايمكن اطلاقا ان تعني حكم الشعب بنفسه لأن من شأن ذلك ان يخلق فوضى. ويأتون بأمثلة لنستطيع نحن الجهلاء ان ندرك معانيها : تصور انك تملك معزة وجارك يملك معزة وكلا منكما يحاول ان يقرر كيف يتم بيع اللبن. . هذا سينتج فوضى ولن يمكنكما الوصول الى قرار، وهذه اسمها (ديمقراطية حقيقية) ولا احد يطبقها لأنها كما قلنا غير عملية ، والحل ان تنتخبا ممثلا عنكما هو الذي يقرر نيابة عنكما كيف يبيع اللبن على ان يضع في جيبه نصف العائدات (وهذه اسمها ديمقراطية تمثيلية)، وهي التي يجري تطبيقها فعلا في دول كثيرة من العالم، اما الديمقراطية على الطريقة الامريكية فهي ان تعدك الحكومة بأن تفوز بمعزتين اذا صوت لصالح نهج معين. بعد الانتخابات يتهم الرئيس بالمقامرة بمستقبل المعيز وتسمي الصحف هذه القضية (فضيحة المعيز) وتفرض عليك ضرائب تكسر ظهرك للمكاسب التي يفترض انك حققتها من المعزتين اللتين وعدت بهما ولم تحصل عليهما ، وعندما تعجز عن دفع الضرائب، تصادر الحكومة ممتلكاتك وتعطيك اعانة شهرية، وهكذا تتسلم معزتك في النهاية.
وهذه اسمها (ديمقراطية المعيز)!

ولكن والحق يقال ان الديمقراطية ليست ماعزا ولبنا وضرائب فقط وانما هي ايضا ملاعب وكرات قدم وترفيه لاينتهي. وكل الشواهد في العراق الان تؤكد انه من المؤمل ان يتحول العراق الجديد من (البوابة الشرقية للامة العربية) الى (البوابة الشرقية لملعب الامبراطورية) حيث المظاهرات الوحيدة التي سيسمح بها في اجواء الديمقراطية هي لتأييد هذا الفريق او ذاك، والانتخابات الحرة والنزيهة الوحيدة التي سيسمح باجرائها هي انتخاب رئيس هذا النادي الرياضي او ذاك ، والقنابل الوحيدة المسموح بتفجيرها ستكون في ملعب الفريق الخصم، والصور الوحيدة التي سيسمح بتعليقها في الاماكن العامة (الى جانب صور بول بريمر وهو واقف وهو جالس وهو يخطب وهو يتأمل الفضاء) هي صور نجوم الرياضة اللامعين . . أي بمعنى آخر : تحويل مركز الثقل للانسان العراقي من الرأس الى القدمين.




ستزدهر ساحات اللعب في طول البلاد وعرضها، و تنتشر معسكرات التدريب ، والحمد لله لن يفتقر العراق الى تنوع مدهش للفرق الرياضية . . خذ عندك: منتخب الحوزة العلمية ، فريق المثلث الذهبي، منتخب السليمانية الفيدرالي، فريق اربيل الفيدرالي، فريق الاتحاد التركماني، منتخب الصليب المقدس، اتحاد النجمة السداسية، ومئات الفرق الاخرى. . سينهمك الشعب كله بركل الكرة، خاصة مع تسريح الجيش العراقي والغاء الخدمة العسكرية وانتشار البطالة فإن افضل مايفعله جميع هؤلاء لقضاء اوقات طيبة وهدر طاقاتهم هو ان يتحولوا الى عضلات في خدمة الامبراطورية. ستسألون كيف تخدم الرياضة اغراض الامبراطورية؟ اولا سينشغل الشباب برمي الكرة بدلا من رمي القنابل اليدوية، ثانيا انها تلهي صغار الناس عما يفعله كبارهم.


ففي حين يلعب الشعب ، سينهمك الامريكان في الاعمال المرهقة: مد الانابيب ونقل النفط الى خارج البلاد.
وهذا يتطلب جهدا كبيرا أعان الله اصدقاءنا الامريكان عليه. ولكن هذا قدرهم : ان ينشروا الديمقراطية مهما كلفهم الامر من جهد ومال ودماء. فالديمقراطية على الطريقة الامريكية ليست نظاما سياسيا (لأن نظامهم السياسي هو الفاشية كما سنبينه في مقالة قادمة ) وانما نظاما اقتصاديا: فالديمقراطية تعني حرية السوق . والامر على هذه الصورة: الديمقراطية تؤكد على الفردية التي يدخل في اطارها (احترام حقوق الفرد وحريته في التملك وانهاء سيطرة الدولة على الموارد والخدمات الاساسية وتمكين الافراد من التحكم فيها ) ولهذا تشجع الديمقراطية مسألة خصخصة ممتلكات الدولة وبيعها الى الافراد (بضمنهم الافراد الاجانب والغرباء عن البلاد) . هل رأيتم ؟ هنا مربط الفرس. لاشيء تكرهه امريكا في الانظمة الشمولية او الاشتراكية وما الى ذلك من انظمة تسيطر فيها الدولة على الخدمات الاساسية للشعب سوى هذه الحقيقة. في انظمة السوق الحرة تستطيع الشركات الامريكية ان تتدخل وتشتري مايباع من ممتلكات عامة وهكذا تضع قدمها على رقاب اقتصاد تلك الدول.




انظروا ماذا فعلوا في العراق الذي انهارت دولته انهيارا تاما مما أفسح المجال امام الادارة الامريكية لتبيع وتشتري فيه بأقصى سرعة وبدون أي عائق او تردد كما قد يحدث مع وجود حكومة وطنية قد تستمهل اوتسوف اوتماطل في بيع ممتلكاتها.
ماأن وضعت الشركات الامريكية يديها علىالنفط بعقود وهبت لها بدون منافسة، حتى اصدر الرئيس الامريكي امرا رئاسيا بحصانتها من اية ملاحقة قانونية حاضرا او لاحقا. واذا عرفنا ان كل الشركات التي تكالبت على وليمة العراق هي (بدون استثناء) شركات معروفة بانتهاكها لحقوق البشر والطبيعة في كل مكان عملت فيه ، وملاحقة بقضايا نصب وتزوير حتى داخل المجتمع الامريكي (يعني لا تتردد في سرقة شعبها ذاته) ، لأدركنا لماذا شرع السيد بوش هذا القانون ولأمكننا ان نتنبأ بحجم الجرائم التي سترتكب بحق العراقيين دون ان يستطيعوا ان يرفعوا اصبعا بوجهها.
ثم اسرع السيد بول بريمر حاكم العراق المبجل باتخاذ قرارات حماية واستثناء من الضرائب للشركات الامريكية المصدرة للعراق والشركات العاملة في العراق ولكل المتعاقدين مع هذه الشركات ولكل العاملين فيها او من طرفها او من جيرانها ولكل الاجانب في العراق وكذلك اعضاء سلطة التحالف واهاليهم واعضاء مجلس الحكم وعماتهم وخالاتهم والوزراء (باختصار كل العملاء). اما من سيدفع الضرائب فهم التجار العراقيون او أي من اهل العراق خارج نطاق الاستثناءات اعلاه.. هل يمكن ان تتنبأ بالنتيجة؟ منافسة غير عادلة لن يستطع ان يصمد بوجه ضراوتها التاجر العراقي.
ثم هل تعلم انه من اجل ان تشتغل شركات المافيا الامريكية هذه في العراق فسوف يقترضون لها باسم العراق من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (اللذين وراء خراب كل شعوب العالم الثالث المقترضة منهما) والبنك الامريكي للتصدير والاستيراد قروضا ضخمة يظل الشعب العراقي يسددها جيلا بعد جيل.


وقبل ان تنتهي مباراة كرة القدم ويخرج الشعب من الملعب، اسرعوا بعرض كل ممتلكات الشعب العراقي للبيع. كل ماهو ضروري لإدامة حياته وبناء مستقبله. ودعوا كل الشركات القادرة على الشراء الى مزاد القرن هذا. وصدر قانون بالسماح للاجانب بالتملك وانشاء الشركات (بشريك عراقي او بدونه).. ليأتي كل من هب ودب . لنفتتح المزاد: متر الوطن . . بكام ؟ كما تساءل الشاعر المصري سمير عبد الباقي في قصيدة له.




هل تعتقدون ان حركة (اجتثاث البعثيين) كانت بدوافع سياسية؟ لا اعتقد، فمازال العديد منهم يحتل اماكنهم المعهودة في الوزارات وغيرها. في رأيي انها كانت مقدمة للخصخصة. فعندما يتم بيع مؤسسة حكومية يقوم المشتري الاجنبي عادة بتسريح ثلاثة ارباع العاملين فيها لاسباب مالية منها توفير اجورهم او اعادة بعضهم فيما بعد بشروط مجحفة وبأجور اقل فلا يستطيعون الاعتراض، كما قد يفكر في جلب عمال اجانب ارخص واكثر امانا بالنسبة له. وتصوروا ماذا كانت ستكون ردة الفعل لو لم تتم هذه الحركة الذكية (الاجتثاث) وكان على مشتري مؤسسة ما ان يطرد العاملين فيها بنفسه؟ طبعا ستتحول غضبة الشعب الى الشركات الامريكية. وربما تتدخل منظمات حقوق الانسان في الموضوع او ربما حتى الامم المتحدة.
لقد حرثوا الارض مسبقا لابقارهم المقدسة.
والان دعونا نتخيل صورة العراق الجديد . . صورة مثالية . . كما في جمهورية افلاطون: سوف يقسم الشعب الى طبقات كما يلي:

1-طبقة الحكام الاجانب : سياسيين وعسكريين وشركات لهم كل الامتيازات وهم طبقة ارقى من البشر العراقيين ،وهم العقل المفكر والمدبر. وفي ذيل هذه الطبقة وبامتيازات اقل: العملاء بكل اشكالهم والوانهم ، ليس لهم صفة ولا رأي ولا عمل حقيقي لهم غير ان يكونوا مخلب القط احيانا.
2-طبقة الرياضيين ذوي العضلات الذين سيحققون المجد الرياضي الذي سيؤرخ به تاريخ العراق الجديد ، وهم طبقة الجسد بدون عقل، وهم كل الشباب في سن التجنيد في جيش لم يعد له وجود او فائدة.
3-طبقة النساء وهي نصف المجتمع، وربما تتساءلون لماذا يصر بوش على مسألة (تحرير المرأة ) في غزواته وفتوحاته، حتى ان سلطة الاحتلال كانت على وشك تخصيص وزارة للنساء (كما فعلوا في افغانستان) قبل ان يفطنوا ان المرأة في العراق لن تحتاج الى (تحرير) فقد كانت تعمل وتحمل السلاح جنبا الى جنب الرجل . ان والدتي التي تجاوزت الثمانين عاما بقليل كانت قد انهت تعليمها العالي وتركت العباءة منذ 60 عاما (ربما قبل ان يولد بوش الصغير) وقادت سيارة خاصة بها منذ 50 عاما. فأي تحرير يقصدون؟ طبعا المقصود ان تتحرر المرأة من اعباء عقلها وتنهمك في جسدها وجمالها بحيث يكون ذلك معيار تفوقها في المجتمع وتتحول الى سلعة تجارية لتنشيط المبيعات وهذا ماتنشده ديمقراطية المعيز ، أي تتحول المرأة ايضا – وهي نصف المجتمع- الى جسد بدون عقل.
4-طبقة العمال والشغيلة وهؤلاء ستنهب الديمقراطية عرقهم لصالح الاغنياء (في كل الديمقراطيات الغربية تتسع الفجوة فيزداد الاغنياء ثراء ويزداد الفقراء فقرا) فهم الذين يدفعون الضرائب وهم الذين يدفعون غاليا مقابل انتفاعهم بالخدمات الاساسية مثل الماء والكهرباء والوقود . هذه الاولويات التي كانت برخص التراب في (العهد الشمولي). سيفقدون دعم الدولة للتعليم والرعاية الصحية والتموين. سيدفعون الان دم القلب من اجل الحصول على حقوقهم الانسانية البسيطة، سيعملون في نظام السوق الحرة ليل نهار كالعبيد مقابل شروط أمان مفقودة واجور زهيدة وليس امامهم مفرا في ظل المنافسة الشرسة لعمال النخاسة القادمين من جنوب شرق اسيا وافريقيا. وسوف يظهر الفقهاء الذين يعلمون العامل ان السبب في سوء اوضاعه هو كسله وتقاعسه عن اللحاق بالاخرين وليس بسبب قهره وسرقة جهوده، سيتحول الى جسد يكد ويعرق وينام آخر الليل مهدودا، جسد بلا عقل ايضا. وربما تكون تسليته الوحيدة الجنس والمخدرات (التي تباع على نواصي الشوارع العراقية الان).
5-طبقة قاع المجتمع: وهم المشردون والعاطلون والشحاذون والمجانين بسبب الاوضاع اعلاه والذين تحول الكثير منهم الى الجريمة من اجل الحصول على لقمة العيش( أي جسد وغريزة بدون عقل ايضا) وهؤلاء علاجهم في ظل الديمقراطية : شرطة وحشية وسجون مظلمة على الطراز الامريكي، ففي الولايات المتحدة اكبر عدد من السجون واكبر عدد من المعتقلين في العالم . وعندما احتلوا العراق كان اول عقد منحوه لشركة كيلوغ وبراون وروت هو بناء معتقلات واول مبنى تم اصلاحه كان سجن ابو غريب واول اثر زاره رامسفيلد في العراق هوغرفة الاعدام في احد السجون. فالديمقراطية لاتزدهر الا في وجود السجون. هذه ليست طرفة!! ولكنها حقيقة.
هذا حل ، والحل الثاني ان يحول المنتمين الى هذه الطبقة اجرامهم غير الشرعي الى اجرام شرعي وذلك بالانخراط في الجيش الامريكي او فرعه العميل في العراق، وعند ذلك يستطيع الواحد منهم ان يسرق ويقتل بالحصانة الامبراطورية.
6-طبقة الاصابع (او الآلات): وهؤلاء هم جيوش الامبراطورية الذين
يحولهم التدريب الى آلات قتل صماء لاتفرق بين عدو وصديق ، بين كبير وصغير، بين عسكري ومدني، بين مجرم وبريء ، واكثر من ذلك بين مواطنيهم والغرباء، فالبشر جميعا يصبحون هدفا للقتل ، ومعظم المجرمين الامريكان الذين ارتكبوا جرائم مرعبة في بشاعتها في الولايات المتحدة (كان اشهرهم مكفاي الذي فجر مبنى باوكلاهوما وآخرهم القناص الذي قتل عددا كبيرا من مواطنيه بدون تمييز وكلاهما اشتركا في حرب الخليج) كانوا خريجي مدارس حروب فيتنام او افغانستان او العراق. وهؤلاء لاعقل ولا جسد . . مجرد اصابع على زناد. . محض آلات.
ستلاحظون بطبيعة الحال انه ليس هناك في التقسيم اعلاه طبقة للمفكرين ، لأنه ببساطة لن يسمح بوجود (عقل) في هذه البلاد سوى طبقة الحكام. فهم الرأس والبقية جسد وأطراف. العقل هو الذي يحرك الجميع.
اما الذي يتكفل بقتل عقل الشعب وتحويله الى جسد فهو التعليم اولا والاعلام ثانيا.
سيتكفل التعليم في نشر البلادة و انتاج شباب لايعرف شيئا خارج وجهة نظر المحتلين. انهم يعيدون كتابة التاريخ ففي الكتب الجديدة التي طرحت في هذا الموسم الدراسي تم حذف فصول كاملة من تاريخ العراق. تصوروا حذفوا العدوان على العراق في 1991 والحرب العراقية الايرانية وكل ذكر للاسرائيليين والامريكان.
ويقول فؤاد حسين المسؤول عن المناهج الدراسية في وزارة التربية العراقية والمعين من قبل البنتاغون (لا ادري ماعلاقة البنتاغون بتغيير مناهج الدراسة) : "اعتبرنا كل ماهو ضد امريكا كنوع من البروباجندا وحذفناه حتى اننا حذفنا فصولا كاملة"
ويوضح جريج سوليفان المتحدث باسم مكتب شؤون الشرق الادنى بالخارجية الامريكية : سوف نشجع بقوة مفاهيم التسامح وسوف نرفض أي شيء معاد للسامية او للغرب".
تسعى الولايات المتحدة الى حذف كل مايتعلق بالوعي القومي للعراقيين لأنها تعتبر ان الانتماء الى امة واحدة يعطل التأكيد على الفردية وهي جوهر موضوع السوق الحرة، كما اسلفنا، وبالتالي يعوق عمليات سلب ثروات البلاد. كما يسعى التعليم الى فك الارتباط بالاسلام فهو ايضا هوية وانتماء وبهذا يكون – في عرفهم – معوقا للديمقراطية حيث ترفض تعاليمه تحويل الانسان الى سلعة خاضعة للعرض والطلب حسب قانون السوق الحرة.
اما الاعلام فقد قيل فيه الكثير ولن ازيد سوى اننا اذا تأملنا حال الانسان الامريكي العادي المطلوب تعميم نموذجه سنجده جاهلا بأمور مايدور حوله ضليعا بأمور نجوم الفن والرياضة وذلك لأن الاعلام عندهم ينصب 85% من اجمالي الارسال على الاغاني والمسلسلات التافهة والمسابقات والاستعراضات الفكاهية ومباريات الكرة و15% هي اخبار منتقاة تخدم السياسة الامريكية .(انظر تحليل برامج اذاعة (سوا) الامريكية الموجهة للعرب في موقع اسلام اون لاين) وهذه الاخبار المنتقاة بعناية تكون احيانا كاذبة او ملفقة واذا كانت صادقة فهي دائما نصف الحقيقة وتخضع الاخبار الى الرقابة والحذف والاخفاء والتعتيم. وكذلك مع الرأي الاخر فلا تجد صوتا للمعارضين للسياسات الامريكية. ولعل أبلغ مثال على مقدار الحرية التي تسمح بها ديمقراطية الامريكان ما اذاعته وكالة رويتر من ان جنودا هجموا على عراقي فقيدوه ووضعوا شريطا لاصقا على فمه. عندما سأل مراسل رويتر ضابطا امريكيا في المكان عن سبب اعتقال الرجل ونقله الى مركبة في ساحة التحرير(التي يقوم فيها نصب الحرية) اجاب الضابط : "اعتقل هذا الرجل بسبب تصريحاته المناهضة لقوات الاحتلال".
كم اتمنى ان يضع احد شريطا لاصقا على فم بوش اذا فتحه مرة اخرى بالحديث عن (حرية العراقيين).
اذن ، بعد كل عمليات الغسيل والتجفيف والكي التي يقوم بها التعليم والاعلام الامريكين يصبح المواطن جاهزا لممارسة اعظم ادوات الديمقراطية: الانتخابات . ولابد ان ندرك انه في الدول الديمقراطية لايجري ابدا تزوير الانتخابات . . هذه ميزة حكومات العالم الثالث التي تلجأ الى اساليب بدائية لتضمن النجاح في الانتخابات مثل تغيير الصناديق او استئجار هيئة قضائية فاسدة لفتح الصناديق او اغراء الناخبين بهبات نقود (تناسب مقاماتهم) فأحيانا تكون مجرد ساندويتش كفتة وكباب!
اما الدول الديمقراطية العريقة فهي تكتفي بتزوير وعي الناخب. فطوال الموسم الانتخابي يجتهد رئيس الدولة وبطانته لوضع المواطن في الصورة التي يريدونها له : اذا كان المطلوب اظهار رئيس الدولة بأنه شجاع ومقدام : لابأس من حرب او حربين على شعوب اخرى (والافضل ان تكون ضعيفة وعزلاء غير قادرة على الدفاع عن نفسها لضمان نصر سريع) ولامانع من ابادة شعب هنا اوشعب هناك ، لاشعار المواطن ان رئيسه المحبوب ينقذه من الاشرار القاطنين على بعد الاف الاميال والذين يتربصون به ولاضير من القليل او الكثير من الاكاذيب والتضليل طوال السنة لقولبة عقل المواطن الذي صيغ بالدق عليه كل يوم بمطرقة ثقيلة: هذا شرير وهذا طيب، هذا اسود وهذا ابيض ولمن يحاول ان يرى غير ذلك، تم تشريع قانون مفصل عليه لاتهامه بخيانة الوطن.
وبسبب تشابك العقلية الهوليوودية مع السياسات العامة للادارة الامريكية صار المواطن لايستطيع ان يفصل بين الواقع والخيال او الطبيعي والمصنوع فهو يعيش احداث فيلم امريكي مليء بالحركة والاثارة والفانتازيا ، ولهذا لم يستطع مواطنو كاليفورنيا عندما انتخبوا ارنولد شوارتزنجر حاكما ان يدركوا ان انتصاراته في افلامه مصنوعة وانه في الحقيقة غير قادر على تحويل احلامهم الى واقع وانما قد يستطيع ان يحولها الى افلام، ولهذا لم يكن غريبا ان تسأله الصحافة بعد الفوز عن برنامجه الانتخابي فيكتفي بالقول : "اكشن . . أكشن . . أكشن" ولكن عليه طبعا ان ينتظر النص وتوجيه المخرج وتعليمات صانع الحيل السينمائية في حين ينهمك هو بتربية عضلاته الجوفاء.
في ورطة امريكا في العراق هناك مشكلة كبيرة لم يناقشها احد بشكل مستفيض: الانتخابات.
كان الوعد (حسب الاصول الديمقراطية) باجراء انتخابات لانتخاب حكومة وطنية دائمة ثم تحول هذا الوعد الى شيء عائم وغير مفهوم مثل ان يقوم اعضاء مجلس الحكم باختيار مرشحين ويقوم رؤساء المدن او المحافظين المعينين من قبل ادارة الاحتلال بانتخابهم. شيء من هذا القبيل لم افهمه وربما نقلته خطأ . مازال الامر غامضا بالنسبة لي.
وكل ذلك لأنهم لايستطيعون اجراء انتخاب في الامد القريب. وهذه هي الاسباب:
1-ليس هناك وقت لتزييف عقل المواطن الذي له حق الانتخاب. صحيح ان سباقا محموما يجري لتغيير التعليم وتوجيه الاعلام ولكن هذا لن يجدي كثيرا مع الراشدين الصالحين للانتخاب اذا اريد للانتخابات ان تتم بوقت قريب ، ونتيجة انتخاب بهذه الشروط ستكون رفض الاغلبية للاحتلال ورموزه واعوانه.
2-ليس من الحكمة تزييف صناديق الاقتراع لان انظار العالم ستتجه الى مثل هذا الحدث في العراق وليس بعيدا ان يحضر العملية مراقبون من الامم المتحدة.
3-لايستطيع أي من المرشحين – حتى لو ارادوا- تقديم اية وعود انتخابية لضمان الاصوات ، فالمشاكل كثيرة ورقعة الثوب متسعة لايمكن رتقها ، كما ان ارادتهم ليست ملكهم وجميع الناخبين يعرفون ذلك .
اذن ، لن يكون الحل سوى بتزييف الناخبين انفسهم.. اواعادة تسجيل وتعريف العراقيين .
والاستعداد لهذه العملية يجري منذ اول ايام الاحتلال وكما يلي:
1-احراق مبنى السجل المدني بوثائقه.
2-عودة اليهود وعمليات شراء الاراضي والبيوت
3-منع عودة العراقيين في الخارج بشكل مكثف ( وربما سيكون علينا على مدى السنوات الخمسين القادمة ان نطالب بحق العودة، اسوة بالفلسطينيين)
4-اصدار تعديل قانون الجنسية بمنح الجنسية لمن عمره 18 عاما وكان قد ولد في العراق . لماذا كانت هذه السرعة في اصدار هذا القانون اذا كانوا يمنعون عودة العراقيين في الخارج؟
اقول لكم سترون في اية انتخابات قادمة اصطفاف سحنات غريبة وملامح ليس فيها من طيبة العراقيين شيء. في حين ستحرم قطاعات كبيرة من الشعب من حق الانتخاب ، بحجة انهم (بقايا النظام البائد).
ولن يكون عسيرا عليهم اصدار قوانين تحرم العراقيين في الخارج من حق الانتخاب لأنهم مثلا ( لم يتواجدوا في العراق منذ 9 نيسان/ابريل 2003).
المؤامرة كبيرة ومخطط لها ومن الظلم للعقل الشرير ان نتحدث عن تخبطه وجهله بادارة شؤون الاحتلال. كل شيء يسير حسب الخطة.
وانا اكتب هذه المقالة ، جاءت لحظة تركت فيها القلم جانبا لاتصفح جريدة (الاهرام)القاهرية الصادرة لهذا اليوم 22/11/2003 وقبل ان اضعها جانبا وقعت عيناي على سطور في منتصف العمود الذي يكتبه انيس منصور وشعرت انه يكتب شيئا مهما هذه المرة. اليكم هذه السطور:
(. . والدول القوية التي عانت المر والهوان اشكالا والوانا قامت وتقدمت وتعملقت: المانيا واليابان ، فألمانيا ضربها الحلفاء حتى جعلوها ترابا وهبابا على سطح الارض وحتى دفنت الشعب الالماني تحت الارض في الكهوف. ولكن ماذا حدث؟ قامت المانيا بسواعد وعقول ابنائها حتى اصبحت اقوى الدول الاوربية واغناها ، حتى اقرضت امريكا الدولة الغازية المدمرة.
واليابان ضربتها امريكا بالقنابل الذرية فأبادت مئات الالوف في لحظة واحدة ، واصابت الملايين بالجروح والتشوهات، حتى الارض لم تعد صالحة للزراعة، فماذا حدث لليابان؟ قامت بمنتهى القوة والعظمة والابهة وهي اكبر واخطر منافس لامريكا في كوكب الارض.
ونحن نسينا ماجرى لنا وعلينا، لقد انهزمنا في سنة 1967 وتحطمت معنوياتنا وصرنا اضحوكة الشعوب العربية وغيرها ولكن استطعنا ان نبلع الهزيمة وان ننتصر . . )
آسفة لاشغال مساحة كبيرة باعادة نشر كلمات انيس منصور ولكنكم لابد تشعرون – كما شعرت- ان هذه الكلمات بالذات لاغبارعليها وجديرة بأن تقرأ ، وقد تتصورون – كما تصورت- انه يشد من عزيمة وازر العراقيين (تبادر العراق الى ذهني حالما قرأت سطوره) ولكن انتظروا. .
انتظروا السطر الاخير الذي توج به هذه الامثلة العظيمة من نهضة الشعوب من كبوتها واعادة بناء دولها بعد دمارها والنصر بعد هزيمتها فهو ينهي كلماته بحكمة (لعل الرياضيين ان يتعلموا !)
اقول لكم : فزعت! كانت ضربة حرة مباشرة . .
وذهبت الى اول العمود . . فإذا به يتحدث عن هزيمة فريق كرة قدم مصري امام خصمه المحلي! واذا به يهون عليهم الكارثة ( حتى اذا انهزمنا " فالمصريون أهمة" قادرون على ان يمضوا ويتعثروا هذه المرة ويكسبوا المرة الاخرى!)
هل ترون ماأعني؟ لقد اوجز الكاتب بحكمته المعهودة وبايجاز ماأردت ان اقوله على طول وعرض مقالتي هذه. الرياضة في العهد الامبراطوري السعيد . . هي المجد! وكل شيء يسير حسب الخطة!
وفي الواقع ان كلمات الكاتب ذكرتني بمحاولاتي للاتصال بابني (..) في بغداد والتي بدأتها من اول المقالة قبل ان يأخذني الاستطراد ، ولهذا انكببت على الهاتف حتى استطعت اخيرا والحمد لله ان التقط صوت ابني وبحرص الأم قاطعته بحزم :
-اسكت يا(..) ليس هذا وقت سلامات. اسمعني جيدا: هل حصلت على كرتك؟
-ماذا؟ اية كرة؟
-ماذا حدث لك ؟ كرة القدم التي يوزعها الاحتلال.
-انا لااخرج من البيت ياأمي. ولكن مع هذا اطمئني حصلت على الكرة من جاري.
- ولماذا يخرج جارك وانت لا؟
-ياأمي . افهميني . . جاري ايضا لايخرج ولكنهم جاءوا اليه. .
وقاطعته وقد بلغ مني القلق مبلغه:
-ولماذا يزورونه وانت لا؟! هل يظنونك من الفلول؟
-انت لاتعرفين شيئا . . جاءوا اليه واخذوه وبعد شهر اطلقوا سراحه اعتذروا بأنهم اخطأوا الاسم واعطوه الكرة هدية.
-حسنا اذا كان الامر كذلك . ولكن يا(..) . . لماذا اعطاك الكرة؟ ألا يحب لعبة كرة القدم؟
-أي لعبة؟ أي كرة؟ يا أمي . . الرجل عمره ثمانين سنة ويمكن اكثر!
**

* لم استخدم اسم ابني لأني لا اعرفه بعد ان اخبرني انه في سبيل تغييره بعد ان لم يعد الاسم الذي اختاره له والداه ، صالحا في دولة ديمقراطية المعيز ، حيث لايسمح للانسان العراقي (اومابقي منه ) ان يسمي ابناءه على مزاجه .