تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ما بعد التنمية



من هناك
09-27-2006, 04:13 PM
كستافو إستيفا

المنعطف، العدد 23-24، 2004، ص ص159-170.

في هذا المقال يحكي الكاتب تطور المجتمعات المكسيكية التي خضعت لسطوة التنمية، ولكنها استطاعت اليوم أن تعيد تنظيم نفسها لتتلاءم من جديد مع نمط عيشها وتقاليدها الخاصة، إنها رسالة الأمل!
في المكسيك، ما زال بعض الأشخاص يعيشون حياة متجذرة في عالم يشبه إلى حد بعيد عالم طفولتي رغم التغيرات الجذرية التي خضع لها العالم من حولنا. لم أعثر على هؤلاء في سوق (أوكزاكا) القديم حيث تنتصب منضدات البضائع المعروضة على الأزقة، حول تلك البنايات الجميلة القديمة المنهدة. بعد سنوات خلت، تم ترميم البناية المركزية التي لم تعد تأوي سوى التجار الأكثر رفاهية، في حين تم إجلاء الباقين إلى "تجمع اقتصادي" مبني من الإسمنت، ومزود بالإنارة. لم يعد ثمة تاجر يأبه بتلك الجدة العجوز التي كانت مولعة بنقل تقاليدها لأطفال المدينة الصغار. ومع ذلك، ما زلت أجد هنا وهناك في تلك القرى النائية التي زرتها أناسا لايزالون مشدودين إلى ذلك العالم الذي تفلت من أيديهم حيث لا شيء لديهم يقوم شاهدا على الماضي سوى ذلك الحنين الذي توحي به نظراته


الأموات الأحياء، ضحايا التنمية
لقد كنت أكتشف باستمرار وبأسى ضحايا التنمية، إنهم أولئك القرويون الذين كانوا قد اقتلعوا من أراضيهم، وظلوا يجترون معهم بؤسهم الكئيب في حي هامشي من أحياء ميكسيكو، إنهم الأهالي المفعمون بحكمتهم المتوارثة، أولئك الذين لم يجرأوا على توريث خبرتهم ومعرفتهم التي بدت لهم غير ذات قيمة فقط "لأنهم لم يذهبوا إلى المدرسة". ومن ضحايا عصر التنمية أيضا أولئك النساء اللواتي كن يسخرن نفوذهن وشهرتهن في سبيل مجتمعهن يوم كن قابلات يولدن النساء، وأصبحن اليوم يواجهن بمنع السلطات فقط لأنهن لا يتوفرن على شهادة رسمية. ومن هؤلاء الضحايا أيضا، أولئك الشيوخ العجزة الذين أغمتهم نظرات الاحتقار والازدراء التي تصدر عن أبنائهم الجامعيين، هكذا تكون حال الأم وهي تجلس أمام مدفأتها وحال الأب المزارع في حقله، وهما معا يرددان طقوس القرية.
يفعل الأبناء هذا مع أنهم يشعرون فعلا أنهم أكثر حرمانا من آبائهم عندما يكتشفون عجزهم عن إيجاد المنصب الذي كانوا يظنونه ملكا لهم.
إنني ما زلت ألتقي بشيوخ المدينة، أولئك الذين كانوا يعرفون أحياءهم في أدق زواياها، ولكنهم اليوم خائفون من اجتياز الشارع المزدحم بالسيارات، وما زلت ألتقي ببعض الإسكافيين الذين عرفتهم في طفولتي، والذين لم يعد لهم زبناء، وما عادوا يجلسون على عتبات الأبواب أو في إسكافية الزاوية التي كانت يوما ما مأوى حقيقيا لكرم الضيافة. وحيث ما التفت، كنت ألتقي "بأموات أحياء"، أناس لم يكونوا من هنا ولا من هناك، ولم تتح لهم فرصة اكتساب العادات والتقاليد، لأنهم منذ نعومة أظافرهم تم حبسهم في مؤسسات اختلستهم من عالمهم المباشر، وعودتهم على الخضوع والاحتياج إلى شروط حياتية لا قبل لهم بها. هكذا كنت ألتقي بأزواج شباب يعاينون موت أطفالهم بين ذراعيهم، في عجز تام بعد أن حرموا من وسطهم المجتمعي الذي كان يمكنه مساعدتهم في مقارعة الخطوب الخارجية، وتمكينهم من تحمل المعاناة المرتبطة بظروف الحياة الإنسانية. لم يكن لهؤلاء الحق في الخدمات الصحية المعاصرة، ولا في الاستفادة من الخبراء الذين يتوقفون عليهم من الآن فصاعدا، سواء على المستوى المادي أم المعنوي. كنت أكتشف أشخاصا كانوا مجبرين على مغادرة المدرسة في

مرحلة متقدمة إلى حد ما ليصبحوا محرومين من المؤهلات وشبكات تضامن المحيط الذي ولدوا فيه.
وهؤلاء- رغم مستواهم التعليمي- لم يكن بإمكانهم استعمال تلك المهارات التي تعلموها بمدينتهم، فهم محرومون بسبب عجزهم عن الوصول إلى نهاية المرحلة التعليمية. لقد كنت ألتقي بشباب في سن العشرين والثلاثين من عمرهم لا يعرفون كيف يملأون الفراغ المعتاد في حياتهم. لقد تحول العالم في حسهم إلى مشهد ساحر، ولكنهم لا يعرفون طريقهم إلى ولوجه.
في كل خطوة أخطوها، كنت أصطدم بأولئك الذين تم اجتثاثهم بقوة من عالمهم التقليدي، أولئك المحرومين الذين ليس لهم أي مكان محدد في هذا العالم الذي حشروا فيه، وأحيانا منذ ولادتهم، ولا في تلك المواقف المتنكرة لأولئك الذين لما يوجدوا بعد ويأملون في الوجود.
وإلى جانب هؤلاء الساخطين، الذين تجدهم ينوحون أحيانا على قدرهم وأفقهم المسدود، إلى جانب هؤلاء، كنت أجد آخرين راضين عن وضعهم. لقد كانوا قليلين بالتأكيد، إنهم أولئك الذين يعيشون في فضاءات الحداثة المتطرفة، والذين يُشهرون افتخارا قوميا مبالغا فيه، من موقع أنهم يجدون في مدينتهم ميكسيكو، وفي المراكز التجارية والأحياء السكنية الجديدة، أو في الحياة الليلية تماثلا كاملا مع شروط الحياة التي اعتادوا عليها في فترة دراستهم التخصصية بالخارج. وكأي سائح أجنبي، تجد هؤلاء ينظرون إلى التخلف الذي يحيط بهم نظرة اشمئزاز أو نظرة فلكلورية، ويشعرون وكأنهم غرباء أجانب عن محيطهم ذاك. وبعض هؤلاء ينصبون أنفسهم مؤسسين متحمسين لنمط الحياة الخاص بهم، ويتمنون بإخلاص أن لا يتأخر هذا النمط في الامتداد إلى كل مواطنيهم، تعبيرا عن شعور الشفقة الذي ينتابهم تجاههم، وهم يفكرون في حظهم البئيس، وينتقدونهم بقسوة، متهمين إياهم بالكسل والفساد. وعندما يأنسون من أنفسهم القدرة، تجدهم يشجعون بعض مستخدميهم الذين سحرهم هذا النمط من الحياة والذين ما فتئوا يكافحون في سبيل أن يجدوا لهم مكانا فيه. والغريب أنك تجد بعض هؤلاء الوصوليين عاجزين حتى عن إصلاح بعض ما تهدم من سقوف بيوتهم أو عتبة أبوابهم، ورغم ذلك تجدهم لا يترددون في الاستدانة من أجل اصطحاب أبنائهم إلى ديزنيلاند(Disneyland) ليمنحوهم بذلك هذا الوجه الجديد

من الانتماء. هذا النوع من الأشخاص معروف جدا، ولا تخطئهم عين أي سائح تطؤ قدماه أرض بلد متخلف. ولكن، من السهولة بمكان الحديث عن هؤلاء الذين يعيشون عصر ما بعد التنمية، ولعلي أجد في الحكايات الآتية بعض ما يسعفني في تحديدهم بشكل أفضل.
ثقافة الأرض
لم يعد دون ماركوس ساندوفال يفهم شيئا، كما لم يعد قادرا على إجابة أبنائه بشكل مقنع عندما يعاتبهم على امتناعهم عن مرافقته إلى الحقل الذي يعرف كل أبعاده، خاصة وأنه أصبح عاجزا عن العمل بمفرده، وأنه يتوجس خيفة من أنه سيفقد وإلى الأبد خبرة الأجداد، يجيبه أبناؤه: الخطأ خطأك، ويسألونه بكل هدوء وثقة في النفس: "لم أرسلتنا إلى المدرسة إذن يا أبي ؟". ويعود الأب ليسأل نفسه عن الذنب الذي ارتكبه.
لقد ظل لعدة سنوات قائدا مهما لقرية سان أندري شيكاهواكزاتل، إحدى القرى الصغيرة من قومية تريكي. وكان أول عمل قام به بعد تسلم منصبه، هو التجاوب مع جيرانه حيث عمل في صبر على رسم حدود دقيقة للأراضي التابعة لجماعتهم. ومنذ ذلك الحين، وهو يدير المسيرة السنوية التي كان القرويون يجوبون من خلالها أراضيهم وهم يرقصون ويشربون، ويحتفلون رفقة جيرانهم بالسلام الذي يسود بينهم.
ولقد مثل دون ماركوس قريته بشرف عندما كان أحد الرؤساء الشعبيين قد رغب في الدخول في علاقات مباشرة مع أهالي القرى. هذا الوضع أتاح له أن يتردد باستمرار على المدينة ميكسيكو ليتولى فيها قراءة خطابات أمام جمهور عريض من المستمعين. وقد مكنه وضوحه وجرأته وشرفه من أن يحتل أحيانا الصفحة الأولى من الجرائد. ومن خلال هذه التجربة أصبح ذا خبرة بكثير من البرامج الحكومية التي يفترض أنها ستعود على القرى بـ "فوائد تنموية". لقد استشار أولئك الناس، وكلهم عضدوه في إنجاز مساعيه. وبعد بضع سنوات، تمكن من تزويد قريته بالكهرباء والماء الشروب، وبناء مدرسة ومركز صحي، ومبنى بلدي بهيج، وهو يتذكر جيدا ذلك اليوم الذي دشن فيه الطريق الذي امتد إلى مدخل القرية.


عقم المدرسة
لقد اجتاز الأطفال كل أقسام المدرسة الجديدة. وعندما أنهوا تعليمهم، لم يتردد أبوهم دون ماركوس في بذل كل ما بوسعه لإرسالهم قصد الدراسة في المستويات العليا في أقرب الحواضر في تلاكزايكو أو أواكزاكا وحتى في مدينة ميكسيكو. وكما هو شأن أقرانه، كان يعتقد أنه بإمكانه أن يغني حياة القرويين ويهيئ لهم حياة أفضل. وأما الأطفال فقد أصيبوا من جهتهم بحيرة بالغة، والواقع أنهم كانوا كلما تقدم بهم الزمن كلما ازدادت تساؤلاتهم حول جدوى التعليم الذي يتلقونه، ومدى قدرتهم على تطبيقه، مع أن الاتجاه العام للتعليم كان يسير نحو إبعادهم عن عالمهم وأصل بيئتهم. فما كان يتضمنه هذا التعليم من وعود بالرفاه والنفوذ، لم يكن يتطابق مع الواقع كما هو في هذا الوسط. لقد لاحظ هؤلاء بقلق بالغ الصعوبات المتزايدة التي واجهها زملاؤهم الذين كانوا قد أنهوا دراستهم، ولم يفهموا الأسباب التي جعلت بعضهم فخورين جدا بامتهان بعض الوظائف البئيسة بالمدينة. ومع ازدياد استيائهم، قرر اثنان منهم مغادرة دراستهم ليجربوا حظهم باتخاذ مبادرات جديدة في بلدتهم. أما الثلاثة الباقون فقد أخذوا قرارهم بمواصلة مشوارهم الدراسي إلى نهايته، وإخضاع شواهدهم لاختبارات صعبة.
هكذا أصبح أحد المتخرجين معلما، وتم تعيينه في قرية قرب شيكاهيواكزاتلا التي كانت تنتمي أيضا إلى قومية تريكي. ولقد استفاد هذا المعلم من غياب أية رقابة مؤسساتية بحكم بعد المسافة ليدخل بعض التعديلات التربوية على البرنامج الدراسي. وكما هو الشأن في كل المدارس المحلية، فإن معلما واحدا كان يقوم بتدريس كل المستويات. وبالتدريج، تمكن من إشراك الأطفال في عدة ورشات مرتجلة بالشكل الذي يمكنهم من تعلم المهن واكتساب المهارات الضرورية المطلوبة لمجتمعهم. لقد حصل على بعض الآلات، وبعد مدة من الزمن، لم يبق من البرنامج الدراسي الأولي سوى تعليم الحروف والحساب. وعندما اكتشف وزير التعليم أمره وقام باستبداله، كان كل تلامذته قد تأهلوا للعمل بفضل التدريب الذي تلقوه، كما كانت تلك الورشات قد بدأت في الازدهار.
العودة إلى القرية
كان هناك ابن آخر تخرج بدوره معلما قد عاش مأساة حقيقية عندما قرر العودة للحياة في قريته. فقد رفضت زوجته، التي كانت قد تعرفت عليه في مرحلة الدراسة أن تغادر المدينة، الأمر الذي انتهى بهما إلى الفراق. ورغم كل الصعاب، فقد استطاع الثبات وتمكن رفقة أخيه ماركوس، الذي انقطع بدوره عن الدراسة، من تأسيس مركز ثقافي أصيل تحت عنوان: "البيت الذي يواصل طريقنا" ولقد حكى لي فو ستو في أحد الأيام قصة هذا المشروع: "كان أول عمل قمنا به، أننا عقدنا لقاءات مع أولئك الذين تمكنوا من ولوج مناصب مهمة منذ سنة 1940، آملين أن يتمكنوا من ترجمة أفكارنا على أرض الواقع، اعتمادا على خبرتهم. لقد طلبنا منهم أن يحدثونا عن المنجزات المهمة التي تم تحقيقها، والصعوبات التي واجهتهم، والحلول التي اهتدوا إليها. ولقد قمنا بأبحاث حول المعارف الفلاحية التي اكتسبها الشبان الصغار الذين كانوا في مرحلة التعليم الثانوي مع مقارنة ذلك بمعارف أقرانهم الذين لم يسبق لهم أبدا أن التحقوا بالمدرسة. ولقد اتضح من نتائج المقارنة أن هؤلاء التلاميذ غير المتعلمين كانوا متقدمين جدا في معارفهم قياسا إلى الآخرين. ومن حينها، بدأنا ننظر إلى التعليم من خلال زاوية مغايرة، وأصبحنا منذ تلك الفترة نعمل أكثر فأكثر على ربط التعليم بما يمكننا تعلمه في كل ما نقوم به في حياتنا العملية، من غير ما حاجة إلى المرور عبر مؤسسة ما.
لقد أنجزنا سلسلة من الحلقات الإذاعية التي تمكنا من خلالها من إجراء عدة مقابلات مع موسيقيين قدموا شروحا حول أعمالهم، وتحدثوا عن السياق الذي كان يتم فيه إنجاز الإبداعات الموسيقية في ثقافتنا، ومن هنا جاءتنا فكرة تأسيس فضاء موسيقي من أجل تمكين الشبان الصغار من اكتساب المهارات الموسيقية الأولية. لقد بدأت هذا المشروع رفقة آخرين كان لهم إحساس مثلي بأنهم لم يعودوا ينتمون كلية إلى مجتمعهم. ومن ثم جاءتنا هذه الفكرة التي جمعت بيننا. لقد كان في البداية مشروعا يقتصر على بعض الأفراد فقط، ولكننا سرعان ما نظمنا أنشطة اضطلع بها كل الأهالي. إن واحدة من نجاحاتنا الأكثر أهمية كانت بلا شك تنظيم حفل الكرنفال. ابتداء، رصدنا جوائز رمزية لأحسن مجموعة، فقمنا بدعوة الناس للمساهمة في العروض المسرحية التقليدية لحفلاتنا، مع احترامنا لكل قواعدها التي كان بعضها قد أخذ في الانطفاء. واليوم أعدنا تأسيس الحفل، وإنه لأمر مدهش حقا أن نرى أهالي القرية يساهمون من جديد في تلك الأنشطة التي كانت وما تزال تعبر عن تقاليدنا"
من الخطأ أن يقال إن هذا المشروع كان تعبيرا عن الجماعة بأكملها، وذلك أن الجماعة باعتبارها كلا، لا يمكنها أداء وظيفتها من خلال مجموعة صغيرة متخصصة. صحيح أننا استطعنا تحقيق أنشطة وضعت في خدمة الجماعة بأكملها، ولكنه صحيح أيضا أن مجموعات أخرى لم تساهم في هذه الأنشطة. وعلى سبيل المثال فقد أنجزنا أشرطة فيديو حول العديد من تقاليد البلدة، كتلك التي تتعلق بمسيرة الحدود، وهذه التسجيلات لم يستحسنها الناس في البداية، ولكنهم بدأوا لاحقا يتقبلون الفكرة، وأدركوا مدى أهميتها. ولقد حصلنا أيضا على دعم لفائدة مجلس " المايوردومياس" (les mayordomias) ([1] (http://www.saowt.com/forum/)) حيث وفرنا السماد لإيجاد بديل عن الاستعمال المفرط للأسمدة الكيماوية، كما قمنا ببناء معدات صحية وأشياء أخرى، ولكن من البدهي أنه ما يزال الكثير مما ينبغي عمله. لقد كان مشروعنا حلما كبيرا، والإمكانات التي كنا نحتاجها لتحقيقه كانت أكبر بكثير من قدراتنا، ولكننا، بالرغم من ذلك لن نتخلى عنه وسندعه يكبر بيننا كما يكبر الكائن الحي. إن هذا المشروع جزء من حياتنا، لأننا نحن أهالي شيكاهواكزتلا نحيى حياة كريمة، ونحن أسياد أنفسنا. إن لكل واحد منا أرضه، وله الحق في كل ما هو موجود في الجماعة. وبعدما غادرت بلدتي لعدة سنوات، اخترت العودة إليها لأنها موطني وسكني، فهنا أجد عائلتي، وهنا تنغرس جذوري، وهنا أملك كل شيء.
ومنذ فترة كان فوستلو قد دخل في مغامرة جديدة. فقد استفاد من تلك "الهزة" التي شهدتها البيروقراطية الجديدة ليساهم في إعداد كتاب مدرسي باللغة المحلية، وبرنامج خصص للمضامين الجهوية. ولقد أعطت تجربته المتقدة نتائج باهرة. من قبل، حينما كان الأطفال يعودون من المدرسة إلى بيوتهم لإنجاز واجباتهم، كان الآباء يشعرون باستياء وعجر: كيف يمكن مساعدتهم لقياس قمم الهمالايا إذا لم يكونوا واعين أصلا بوجودها ؟ أما اليوم فإن قسم الجغرافيا المستحدث، أصبح يهتم بالخصوص بضواحي شيكاهواكزتلا. ولقد اكتشف الآباء أنهم يعرفون عن هذه الضواحي أكثر بكثير مما يعرفه الأساتذة الذين يعلمون أبناءهم. ففي الوقت نفسه الذي يجدون فيه تحسيسا بالكرامة والجدية، أعيد الاعتبار لمعارفهم وخبراتهم الخاصة، وقد أصبحت اليوم – ولأول مرة- مبرمجة في الكتب المدرسية، ومن ثم بدأوا يطرحوا أسئلة جديدة حول وظيفة المدرسة. وعندما يصطحبون أبناءهم إلى الحقول ليساعدوهم في الحرث، يكون ذلك مناسبة لكي يشاطروهم معارفهم بإدماجهم معهم في العمل، ولم يعودوا يعتقدون- كما كانوا من قبل- أن المعلم سوف يعاتبهم عن إبعادهم أبناءهم عن دراستهم، بل إن عملية التقويم المدرسي أصبحت اليوم تأخذ بعين الاعتبار المجهودات التي يبذلها الأطفال خلال هذا التدريب([1] (http://www.saowt.com/forum/)).
نموذج جديد للحياة الجماعية
لقد استطاع ماركوس الذي أسس هذا المشروع رفقة فوستو أن يتسلق بالتدريج هرمية قاطرة البلدة. فمنذ سنتين، وكل إليه قراءة الخطاب الرئيسي أمام ملك وملكة إسبانيا بمناسبة زيارتهما إلى أوكزاكا. وببالغ التقدير والحفاوة، رحب بقدومهما إلى هذه البلاد القديمة "حيث شعوب شتى، كل يعيش على طريقته الخاصة، يحافظون، ويصمدون، ويعيشون في تناغم وانسجام". ويضيف ماركوس:"إننا ننتهز هذه الفرصة لنقول للعالم الغربي: إن نمط حياتنا كان دائما نمطا جماعيا تضامنيا بالأساس، يطبعه تقدير عميق للأرض، هذه الأم التي تأوينا وتطعمنا. ولأجل هذا التقدير تجد قلوبنا تغتاظ حينما نرى أرضنا تستغل استغلالا سيئا، يخربها الطمع والشح، ويحرم وطؤها على مالكيها الأصليين، ويتعرض توازنها الطبيعي للدمار بسبب المواد المصنعة.
ومن وجهة النظر الغربية، كثيرا ما تم التعمق في دراستنا، لكن، قلما تم التمكن من فهمنا. إن الغرب ما زال مستمرا في فرض نموذجه التنموي علينا، وفرض حضارته وطريقة نظره إلى العالم، وأسلوب تعامله مع الطبيعة، نافيا بذلك كل المعارف التي أبدعتها شعوبنا المختلفة. لقد تمكنا من تطويع زراعة الذرة، هذا الغذاء المقدس الذي ندين له بحياتنا، وما زلنا نعمل على تحسينه. ورغم أهمية هذا في حياة كل أيامنا، عندما يصل أحد المزارعين إلى قرانا يقول لنا: إن الذرة التي يتم إنتاجها وتسجيلها في مراكز أبحاثه هي الأجود. وإذا بنينا منزلا وفق خبراتنا، وبموادنا الخاصة، يأتي إلينا أحد المهندسين ليقول لنا: إنه لكي نحيا حياة كريمة، لا بد لنا من امتلاك منزل مبني بالمواد المصنعة. وعندما ندعو آلهتنا القديمة، تأتي الأديان لتقول لنا بأن عقيدتنا إن هيوبحكم هذه الذهنية السائدة، فإن حكاياتي ستبدو مملة، ولربما أصبحت في نظر البعض بمثابة نبي حالم ورومانسي يناضل في سبيل الرجعية. وباختصار فإن ما يمكن الاعتراف به من مزايا المجتمعات التقليدية، قد لا يسترعي البتة انتباه الإنسان المعاصر. ورغم شكوكي، فقد قررت أن أعرض هذه الحكايات، لأن الأمر يتعلق كما أظنه في الواقع باسترجاع الأرض المسلوبة من تحت أقدامنا، ويجب أن نبدأ من ثقافة الأرض، ومن التجارب المسعفة ببعض مظاهر التجديد ما بعد الحداثي للتراث