تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : '...ولكنه دين الحكمة'



مقاوم
09-25-2006, 10:57 AM
'...ولكنه دين الحكمة'

بقلم إبراهيم العسعس

ملاحظة: أنصح بقراءة مقالة "بل الإسلام دين السيف"، فهذا كالمتمم لذاك...

وهو دينُ الرحمة، وهو دينُ الحكمة! وأصولياً لا يُفهم من قولنا: إنَّ الإسلام دين السيف، أنَّنا سنحملُ السيفَ على عواتقنا ونبدأ بجَزِّ رقاب الخلق، دون مقدمات أو التزام بالترتيب الذي ألزمنا به رسولُنا صلى الله عليه وسلم! فقد روى مسلم رحمه الله (ح 1731) عن بُريدة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... وإذا لقيتَ عدُوَّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيَّتُهُنَّ ما أجابوك فاقبل منهم، وكُفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم،... فإن هم أبَوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، فإن هم أبَوا فاستعن بالله وقاتلهم".

إنَّ هذه الصيغة لا تعني نفيَ الرحمةِ عن الإسلام، بل هو دين الرحمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو أرحمُ الخلق بالخلق.

كما لا تعني أنَّ الإسلام قائمٌ على السيف، ولا شيء غير السيف، لكنَّها تعني أنَّ السيف رُكنٌ من أركان هذا الدين، وهناك أركان غيره! فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: "الحج عرفة" لا يقصد نفيَ رُكنية غيرِه من الأركان، ولكنه صلى الله عليه وسلم يريدُ إعطاء هذا الركن أهميةً خاصة، ومثاله أيضاً أنهم عندما أنكروا على ابن حبان؛ صاحب الصحيح رحمه الله قوله (النبوة: العلم والعمل) ردَّ عنه الذهبي رحمه الله ردَّاً جميلاً فقال: ".. وهذا أيضا له مَحملٌ حسنٌ ولم يُرد حصْرَ المبتدأ في الخبر، ومثله (الحج عرفة)، فمعلومٌ أنَّ الرجلَ لا يصيرُ حاجاً بمجرد الوقوفِ بعرفة، وإنَّما ذَكَرَ مُهمَّ الحجِّ، ومُهمَّ النبوة إذ أكملُ صفاتِ النَّبيِّ: العلمُ والعملُ ... " (نذكرة الحفاظ: 3/922).

قال ابنُ القيم رحمه الله: "فإنَّ الله سبحانه أقامَ دينَ الإسلام بالحجة والبُرهان، والسيفِ والسِّنـان، كلاهما في نَصره شقيقان".

كذلك فإنَّ تقرير هذه القاعدة لا يعني أنَّها تُطبق دون اعتبار للملابسات التي تَحتفُّ بالواقع، مثل حال المسلمين ضعفاً وقوةً، وحال أعدائهم ومدى تجاوبهم مع المسلمين.. الخ. وهذا حال كلِّ القواعد، فإنَّ تقريرَ قاعدةٍ ما شيءٌ، وتطبيقَ هذه القاعدة شيءٌ آخر، لأنَّ التطبيق مرتبطٌ بالإمكانيات، والتوقيت، والاستعداد، ولكنَّ كلَّ هذه الاعتبارات لا تُغيِّر من أصل الحكم. ولا بأس من الأمثلة لأهمية هذه القضية، فهي تحتاج لفقه، وتعمُّقٍ في الأصول، الأمر المفقود عند كثير من طلبة العلم، دَعك من أغلب الدعاة، وهي قضيةٌ أُخرى لعلِّي أتحدثُ عنها في مقالٍ لاحقٍ إن يسَّر الحكيمُ الوهاب.

المثال الأول: إنَّ فقدَ الماء، أو عدمَ القدرة على الوصول إليه، لا يُلغي وجوبَ الوضوء للصلاة، إذ يبقى حكمُ الوضوء كما هو، ولكنَّ الشارع يَضع حكماً استثنائياً لحالة فقد الماء، يزول هذا الحكمُ الاستثنائي بزوال سببه، ويبقى حكمُ الوضوء واحداً في كلِّ الحالات. ولا يُقبل من أحد أبداً أن يُغير حكمَ الوضوء لوجود عارض ما. وهذا معنى قولهم في كتب القواعد الفقهية: "ما جازَ بعذرٍ بطلَ بزواله".

المثال الثاني: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً قادراً على أن يفعل ما يشاء، وكانت الكعبة مبنيةً منذ الطوفان على غير قواعد إبراهيم عليه السلام، وردَّاً على من كان يتوقع تصرفاً منه صلى الله عليه وسلم تجاه هذه المسالة قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "لولا أنَّ قومك حديثو عهدٍ بجاهلية لَهدمتُ الكعبةَ وبنيتها على قواعد إبراهيم"، ولقد تضمَّن هذا القول فائدتين هامتين، الأولى: بيان السبب المانع من إعادة الكعبة على ما كانت عليه؛ وهو مراعاة ظرف قريش، وعدم تقبلهم لمثل هذا الفعل. والثانية: أنَّ هذه المراعاة في التطبيق لم تمنع من إعلان الحقيقة، وبيان الخطأ القائم! والأمثلة كثيرة، وفيما ذُكر كفاية.

وهكذا فعندما نقول: الإسلام دين السيف، فإننا لا نغضُّ الطرف عن استصحاب قدراتنا، وقدرات أعدائنا، ولا نعني بأننا سنُعمِلُ هذه القاعدة في كلِّ ظرف، وكلِّ وقت، مع التنبيه على أنَّ حديثي هنا عن جهاد الفتح، لا عن جهاد الدفع، فكلٌّ له أحكامُه الخاصة به. ولا نعني كذلك إغفالَ المعاني الأخرى التي يشتمل عليها هذا الدين. ولا نعني أنَّ الإسلام لم ينتشر بالوسائل الأخرى . ولكننا نُبرز هذه القاعدة في سياق الردِّ على من يريد مدح الإسلام بسلبه مفهوم القوة الذي قام عليه. وفي سياق الردِّ على المنهزمين تحت ضغط الواقع.

أردتُ أن أقول: أيها المسلمون قد لا نقدر، وقد نجبن، وقد تتكالب علينا الدنيا فتضيق بنا الأرض، ولا ندري ماذا نفعل، عندها لا يَجمُلُ بنا أن نُحمِّل الدينَ عجزَنا، فنبدأ به قصَّاً وتحريفاً وزيادة وتجميلاً. أيها الناس إذا جبُنَّا، أو عجزنا فليسعنا السكوت، وليكن صراطنا المستقيم: "إذا لم تقل الحق فلا تقل الباطل"أبداً، إنه معنى لا ينفي غيره، ولكنه خرج مخرج ما يُسمى بخطاب الموقف، لا الخطاب العام! وخطابُ الموقف خطابٌ يواجه حالةً أو أزمةً أو سؤالاً فيُقدِّم حلاً متناغماً مع ما يواجه، فعندما يقول الله عز وجل مثلا: "ومن أظلمُ ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمُه وسعى في خرابها..."، الآية (البقرة:114).

لا يعني أنه لا أحد أظلم من هذا، فالمشرك، مثلاً، أشد ظلماً منه، ولكنه خطاب خرج مخرجاً يتناسبُ مع السياق الذي يتحدث عنه. وعندما قال صلى الله عليه وسلم لقريش فيما رواه أحمد بسند صحيح: "جئتكم بالذبح"، قاله في مواجهة كِبرهم وتعنُّتهم وشدة مضايقتهم له كما ورد في سبب هذا الحديث! ولا يعني أنه لم يأتهم إلا بهذا.

ولو كنتُ في سياق شرح الإسلام لقلت: إن الإسلام قوة ورحمة، دين ودولة، كتاب يهدي، وسيف ينصر. أَمَا وقد رأيتُ بأنهم يريدون من الإسلام أن يمشيَ على رجل واحدة، فلم يكن بدٌّ ـ عندئذ ـ من أن يقال: الإسلام دين السيف! إن النتيجة في زمن الضعف والذل واحدة هي العجز عن الجهاد ! لكنهما طريقان يوصلان إلى تلك النتيجة؛ طريق لا يتجاوب مع ضغط الآخر ويقول: "... إني على بينة من ربي وكذبتم به، ما عندي ما تستعجلون به، إن الحكم إلا لله، يقص الحق، وهو خير الفاصلين". ويعلن أنه من الذين "يُمسِّكون بالكتاب ...".

وهو طريق لا يتناغم مع غزل العدو، ومدحه له فيُقدِم على التنازل عن المنهج: "وقالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء، إنك لأنت الحليم الرشيد"، بل يقول لهم كما قال صالح عليه السلام: "... يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته ..."، إنه طريق قد يعلن ضعفه، لكنه يعلن تمسكه: "يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون...". وطريق يخضع للضغط، ويتفاعل مع الغزل، فينسلخ عن الآيات بحسن نية أو بغيرها! إنهما طريقان هيهات هيهات أن يتقاطعا، ووصولهما لنفس النتيجة لا يعني شيئا.

إننا نعيش في زمن فتنة، وأعظم الجهاد في مثل هذا الزمن، وأهم علاماته الصبر على المنهج، والتمسك بفقه الرشد حتى يحكم الله، كما قال سبحانه: "واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين" إنه (الصبر على الكيد بشتى صنوفه، والصبر على بطء النصر، والصبر على بُعد الشُّقة، والصبر على انتفاش الباطل، والصبر على قلة الناصر، والصبر على طول الطريق الشائك، والصبر على التواء النفوس ...) كما يقول سيد رحمه الله.

إنه الزمن الذي لا بدَّ أن يقود فيه الفقهاء حقاً مسيرةَ العمل، الفقهاءُ الذين يضبطون حياةَ الناس على أساس الشريعة، ويعلمونهم أن التكليف هو "حمل الناس على إتباع مقتضى الشريعة، وليس مقتضى الهوى"، كما يقول الشاطبي رحمه الله. الفقهاء الذين يمتلكون الحكمة التي هي أسُّ هذا الدين، فيعرفون كيف يتعاملون مع النصوص فهماً وتطبيقاً، إقداماً وتأجيلاً. إنه دين الحكمة، لأنه يتعامل مع كل حالة بما تستحقُّ، وقد علّمنا كيف نجمع بين الأشباه والّنظائر، وكيف نفرّق بين دقائقها في نفس الوقت. إنه دين السيف، وهو دين الرحمة، ولكنه دين الحكمة الذي يضع كُلاً في مكانه:

ووضعُ النَّدى في موضع السيف بالعُلى *** مضرٌّ كوضع السيفِ في موضعِ الندى
وصدق المتنبي.

مجلة العصر

كلسينا
09-28-2006, 09:46 PM
هذا ما نقول به وننادي به ، والغريب أنه لا يلقى قبول عند الغالبية .
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا أتباعه ، ويرينا الباطل باطل ويرزقنا أجتنابه .
كما نسأله سبحانه برحمته أن يؤلف بين قلوب المسلمين ويجعلهم كالبنيان المرصوص في وجه أعداء هذا الدين ،ويسهل لهم أن يكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم .