تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : في زمن حكم الأشراف: مقتل القنصل البريطاني في جدة ... ! الكاتب سليمان الخراشي



سعد بن معاذ
02-11-2006, 06:04 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

هذه الحادثة وقعت بجدة زمن حكم الأشراف ، ذكرها من أرخ تلك الفترة ؛ لعظمها ، وأحداثها المأساوية ، أردتُ نقلها لكم للفائدة والعبرة ؛ لمشابهتها من وجه لفتنة الدنمرك الحالية . يقول صاحب كتاب " خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام " ( ص 367-370) متحدثًا عن وصول الشريف عبدالله باشا من طرف الدولة العثمانية لتولي حكم الحجاز :

( وينبغي أن نذكر هنا الفتنة التي كانت بجدة قبل وصوله من دار السلطنة، وكانت بعد وفاة والده، لأن الفتنة المذكورة كانت في السادس من ذي القعدة سنة أربع وسبعين، وملخصها إجمالاً أن صالحاً جوهرًا أحد التجار بجدة وكان له مركب منشور فيه بنديرة الإنكليز، والبنديرة هي البيرق، فأراد أن يغيرها ويجعل فيه بنديرة من بنديرات الدولة العلية، فسمع بذلك قنصل الإنكليز، فمنعه من ذلك فلم يمتنع، وأخذ رخصة من نامق باشا فأذن له بوضع بنديرة الدولة العلية وكتب له منشوراً بذلك، فوضعها ونشرها، وأزال بنديرة الإنكليز، فطلع قنصل الإنكليز البحر ودخل المركب المذكور، وأنزل بنديرة الدولة التي نشرت، ونشر بنديرة الإنكليز، وشاع أنه لما أنزل بنديرة الدولة وطئها برجله وتكلم بكلام غير لائق، فغضب لذلك المسلمون الذين في جدة، فهاجوا هيجة عظيمة، وقصدوا دار القنصل وقتلوه، وثار من ذلك فتنة عظيمة قتلوا فيها غيره من القناصل الموجودين ومن كان بجدة من النصارى، ونهبوا أموالهم، وأرادوا أن يقتلوا فرج يسر أحد التجار المشهورين بجدة لكونه كان محامياً عن قنصل الإنكليز ومعدوداً من رعيتهم، فاختفى، فأراد عوام الناس أن ينهبوا داره فمنعهم من ذلك عبدالله نصيف وكيل مولانا الشريف محمد بن عون بجدة، وكان نامق باشا بمكة والشريف علي باشا القائم مقام الإمارة كان قد توجه إلى المدينة المنورة لمقابلة الحج، فلما جاء خبر هذه الفتنة لنامق باشا اهتم لذلك، ثم توجه إلى جدة وسكن الفتنة، وقبض على بعض الناس الذي نسب إليهم القتل والنهب ووضعهم في السجن، وأرسل إلى الدولة العلية يخبرهم بما وقع في هذه الفتنة، وطلع إلى مكة لأداء الحج.

فلما كان الثالث من أيام التشريق والناس بمنى، جاء الخبر من جدة بأنه جاءهم مركب حربي للإنكليز وصار يرمي بالمدافع المحشوة بالقُلل على جدة، فخرج كثير من الناس من جدة هاربين بنسائهم وأولادهم وأموالهم ركباناً ومشاة، فانزعج الناس من ذلك انزعاجاً شديداً، فلما فرغ الناس من أداء مناسك الحج، ونزلوا من منى، عقد نامق باشا في مكة مجلساً في ديوان الحكومة أحضر فيه كثيراً من العلماء والتجار وأعيان الناس، وأحضر كثيراً من تجار جدة الذين قدموا مكة لأداء الحج، وكانوا حضروا وقوع الفتنة حين وقعت بجدة، وأخبرهم بمجيء المركب الحربي الذي جاء من الإنكليز وبضربه القلل على جدة وبخروج كثير من الناس منها وقال لهم: " القصد المشاورة معكم فيما يحصل به تسكين هذا الأمر " ، فقال له كثير من الحاضرين " إن الإسلام لله الحمد قوي وأهله كثيرون، وذكروا له عدد قبائل الحجاز مثل هُذيل وثقيف وحرب وغامد وزهران وعسير وأنكم لو تعطون الناس رخصة ينفرون نفيراً عاماً فيجتمع من ذلك الألوف بل اللكوك فيدفعون تعدي الإنكليز ولا يرضون أن يقع عليهم هذا الذل ؟ " ، فقال لهم نامق باشا : " هذا العدد الذي ذكرتموه من قبائل العرب صحيح بل يوجد مثله أضعافاً مضاعفة، لكن إذا اجتمعت هذه القبائل غاية ما يقدرون عليه أنهم يصلون إلى مكة وجدة وبعد ذلك يدفعون هذا المركب عن جدة فيحصل من الإنكليز وغيرهم من النصارى تسلط على بقية مدائن الإسلام، ويجتمعون على محاربة الدولة العلية، وليس عند هؤلاء القبائل التي اجتمعت قدرة على الدفع عن بقية مدائن الإسلام لأنه ليس عندهم مراكب يعبرون فيها ولا ذخائر ولا جبخانات ولا مدافع ولا شيء مما يحتاج إليه أيضاً، مرادنا دفع هذا الضرر الآن ولا يجتمع هؤلاء القبائل إلا بعد مدة طويلة، فلابد من التدبير الآن في دفع هذا الضرر بالسرعة " ، فقال بعض التجار الحاضرين : " يأذن لنا أفندينا في تغريق هذا المركب الحربي الذي جاء يرمي بالمدافع المشحونة بالقلل على جدة فإن كثيراً من أهل البحر الموجودين تحت أيدينا لهم معرفة وصناعة بتغريق المراكب يأتونها من تحت الماء ويغرقونها ببرامات يجعلونها في المراكب " ، فقال لهم: " ليس هذا صواباً، فإنكم إذا أغرقتم مركباً يأتيكم بعده عشرة مراكب، وإذا أغرقتم العشرة يأتيكم مائة، وهكذا، فيتسلسل الأمر ولا يزول الضرر، وأيضاً ربما يتركون جدة، ويتوجهون إلى إضرار بقية مدائن الإسلام، وإنما الأحسن في تدبير هذا الأمر أنا نتداركه باللطف وحسن السياسة بأن نتوجه إلى جدة أنا وكثير من أعيانكم ونجتمع بقبطان هذا المركب ونعقد معه أمراً يندفع به الضرر "، فاستحسنوا رأيه، فتوجهوا إلى جدة وأخذ معه رئيس العلماء الشيخ جمال شيخ عمر ومعه من العلماء الشيخ صديق كمال والشيخ إبراهيم الفتا والشيخ محمد جاد الله وشيخ السادة السيد محمد بن إسحاق ابن عقيل وتجار جدة الذين كانوا جاءوا للحج، فلما وصلوا إلى جدة، صار اجتماعهم بالقبطان المذكور، وعقدوا مجلساً صار القرار فيه على أنه يصير تحقيق هذه القضية ويحصل الانتقام ممن وقع منه التعدي في هذه الفتنة، ويكون ذلك بعد رفع الأمر إلى الدولة العلية وانتظار الجواب منها بما يأمرون به، ورضي الجميع بذلك وكتبوا به مضبطة وختموها بأختامهم.

فلما كان أواخر شهر محرم من سنة خمس وسبعين وصل إلى جدة مأمورون من طرف الدولة ومعهم أناس من كبار الإنكليز والفرنسيس، وكان نامق باشا بجدة، فعقدوا مجلساً معه واتفقوا على أنهم يُحضرون الناس المتهمين في أحداث هذه الفتنة ويقررونهم ويستنطقونهم كل واحد وحده حتى يقفوا على حقيقة الأمر ويعرفوا الذين قتلوا والذين نهبوا والذين هيجوا، فلما تم قرارهم على ذلك، صاروا يعقدون مجالس لا يحضر فيها نامق باشا وإنما يحضر هؤلاء المرخصون الذين جاءوا مرسلين من الدولة ومن الإنكليز والفرنسيس، وصاروا يقبضون على كل من صارت عليه تهمة ويحبسونه في موضع وحده ثم يحضرون كل واحد منهم وحده ويسألونه ويستنطقونه بغاية التلطف والتعظيم والتبجيل، ويحتالون عليهم بكل حيلة، ويكتبون كل ما يقول، فكان ملخص تلك الاستنطاقات أن أهل جدة الذين هاجوا في الفتنة وحصل منهم القتل والنهب قالوا: إنما كان ذلك منا بأمر من التجار وقاضي جدة الشيخ عبدالقادر شيخ والأعيان، وسموا أناساً منهم، وقال الحضارم : أمرنا بذلك شيخ السادة السيد عبدالله باهارون وكبير الحضارم الشيخ سعيد العامودي، وقال شيخ السادة وسعيد العامودي وقاضي جدة وبقية التجار والأعيان: إنما كان ذلك منا بأمر من عبدالله المحتسب، وقال عبدالله المحتسب: إنما كان ذلك مني بأمر من إبراهيم آغا القائم مقام نامق باشا، هذا ملخص استنطاقاتهم، فإنها تتضمن الاعتراف بما وقع، والاعتراف بأنهم تسببوا في ذلك، إلا أنهم أسندوا ذلك لسعيد العامودي وعبدالله المحتسب والقائم مقام نامق باشا .

وكان نامق باشا وهو بجدة يرسل إليهم سراً ويقول لهم: " الحذر أن تقروا بشيء من ذلك فإنه يصير عليكم ضرر كثير " ، فلم يمتثلوا ذلك، بل أقروا بذلك، وسببه أن المرخصين الذين حضروا من الدولة والإنكليز والفرنسيس كانوا يتلطفون بهم ويعظمونهم ويحتالون عليهم بكل حيلة ويقولون لهم: أخبروا بالواقع ولا يحصل لكم ضرر، ويسألون كل واحد وحده، فإذا نطق بشيء مخالف للواقع يقولون له إن فلاناً وفلاناً أخبرا بما هو كذا وكذا، وذلك يخالف ما تقول، ولا يزالون به حتى يطابق كلامه كلام غيره، فلما انتهت الأسانيد كلها إلى إبراهيم آغا القائم مقام نامق باشا، أحضروه وسألوه، فأنكر جميع ما نسبوه له وكذبهم ولم يقر بشيء واحتالوا عليه بكل حيلة فلم يقر بشيء، فحبسوه في موضع وحده، ثم حكموا عليه بالنفي مؤبداً، ثم بحثوا أيضاً عن الأشخاص الذين حصل منهم القتل والنهب فعرفوهم وحبسوهم، ثم تشاور هؤلاء المرخصون المرسلون من الدولة العلية ومن الإنكليز والفرنسيس فيما بينهم واتفقوا

سعد بن معاذ
02-11-2006, 06:05 PM
على أنه يُقتل عبدالله المحتسب وسعيد العامودي ونحو اثني عشر نفساً من عوام الناس الذين وقع منهم القتل، وأنه يُنفي من جدة شيخ السادة وقاضي جدة وبعض التجار بعضهم مؤبداً وبعضهم إلى مدة مؤقتة، ويُحبس كثير من الذين وقع منهم النهب بعد أن أحضروا كثيراً مما أخذوه، وأن ما بقي من الأموال المنهوبة يأخذون قيمته من الدولة العلية، فلما تم قرار مجلسهم على ذلك كتبوا به مضبطة وختموها بأختامهم وأعطوها لنامق باشا وطلبوا منه تنفيذ ذلك على ما جاءه به الأمر من الدولة، فإنهم جاؤوه بأوامر فيها الأمر له بتنفيذ ما يتفقون عليه، فنفذه ؛ فأخرجوا عبدالله المحتسب وسعيد العامودي من الحبس وقتلوهما في سوق جدة على رؤوس الأشهاد، وقتلوا الاثني عشرة الذين من عوام الناس خارج جدة، وكان ذلك اليوم يوماً مهولاً في جدة، واشتد فيه الكرب على جميع المسلمين ، ثم نفوا من حكموا عليه بالنفي، فمنهم من قضى السنين التي أقتوها له ورجع إلى جدة، ومنهم من مات ولم يرجع إليها، فمن الذين رجعوا الشيخ عبدالقادر شيخ قاضي جدة، والشيخ عمر بادرب والشيخ سعيد بغلف، ومن الذين لم يرجعوا وتوفوا وهم منفيون السيد عبدالله باهارون، والشيخ عبدالغفار، والشيخ يوسف باناجه رحمهم الله تعالى، وقبضوا من الدولة قيمة بقية الأموال المنهوبة وكان شيئاً كثيراً، هذا ملخص تلك الفتنة باختصار ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فإن هذه القضية كانت من أعظم المصائب على أهل الإسلام ) . انتهى .

وقد ذكر هذه الحادثة العظيمة - أيضًا - أحمد الحضراوي في كتابه " الجواهر المعدة في فضائل جدة " ( ص 43-45 ) ، ووصفها بأنها " فتنة عظيمة " ، وقال " وكانت أحوال مزعجة لا يُطيق القلب سماعها ، تحتاج إلى مجلدات ، وإنما ذكرت هذه زبدتها ، ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ " ثم أشار إلى أن صاحب كتاب " مختصر تاريخ جدة " ذكرها بتفصيل دقيق .

وقال الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري في كتابه " تاريخ مدينة جدة " ( ص 75-76) : " فقتلوه - أي القنصل البريطاني - وقتلوا معه القنصل الفرنسي وبعض الإفرنج ونهبوا دورهم ، فما كان من دولة بريطانيا إلا أن أرسلت إلى جدة بعض قطع أسطولها تهديدًا ووعيدًا ، وقد ضربت جدة بالقنابل ، ولم تقم القلعة البحرية إزاءها بشيئ من الدفاع يُذكر ؛ نظرًا لقدم مدافعها وتطور أساليب القتال " .

عِبرٌ من الحادثة

1- أن العاطفة الإسلامية الحميدة إن لم تُضبط بالشرع تتحول إلى عاصفة ، تضر ولا تنفع . فحمية أهل جدة لإهانة القنصل الكافر لعلم دولة إسلامية هي بلا شك حمية محمودة ، لكنها تجاوزت حدها حتى طالت الأبرياء ؛ ممن أخذوا ظلمًا بجريرة القنصل . والظلمُ عاقبته وخيمة ؛ مهما كانت نية صاحبه . وكان المفترض أن يُحاسب القنصل المذكور لوحده ، وتتولى ذلك " الدولة " التي أهان علمها ، لا عامة الشعب .

2- أن التصرفات والأفعال غير المبنية على الموازنة بين المصالح والمفاسد قد تكون عاقبتها أليمة على أهل الإسلام ، فتصرف أهل جدة السابق أدى لضربها بالقنابل من العدو الكافر ، وهم لا يملكون القدرة الكافية لمواجهة ذلك . ومثلها في فتنة الدنمرك من يقوم بأفعال قد تؤدي عكس المراد منها . فمن هاجم سفاراتهم أو مزق علمهم أمام الإعلام المنقول لهم قد يتفاجأ بأن يقوم فريق حاقد منهم بحرق المصاحف مثلا أو إهانتها ردًا بالمثل ، أو التضييق على الجالية المسلمة هناك . فكان الأولى من هذا الاقتصار على : مقاطعة بضائعهم ، واستهجان ما قاموا به ، ومواصلة ذلك إلى أن يعتذروا ، ويُسن قانون يُعاقب كل من يتعرض للأنبياء والرسل - عليهم السلام - .

3- أن الفتنة في بدايتها تكون خداعة تأخذ بألباب من استشرفها ؛ حتى إذا شب ضرامها استبصر العقلاء حقيقتها المرة ، ولكن هيهات لهم إطفاؤها . وهذا ما حصل لأهل جدة . قال الشاعر :

الحربُ أول ما تكون فتية * تسعى بزينتـــــها لكل جهول

حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها * ولت عجوزًا غير ذات حليل

شمطاء يُنكر لونها وتغيرت * مكروهة للشـــم والتقــبيل

4- أن العلم الشرعي لا يستلزم " الحكمة " ، فقد يكون المسلم طالب علم أو داعية ، درس على يد كبار العلماء ، لكنه وقت المحن والفتن يتصرف تصرفات غير حكيمة ، يستغرب العقلاء صدورها منه . والله يقول : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرا ) .

5- أن ضعف الأمة " الدنيوي " - تقنية وصناعة - يجعلها عرضة لهجوم الأعداء عليها ، وعدم مبالاتهم بها ؛ حتى يصل بهم الحال إلى ضرب ما حول الحرم بالقنابل ! ، لذا فإن الواجب على الأمة - خاصة ولاة أمرها - أن يسعوا لتقويتها في هذا المجال ، حتى تصل إلى حد الاكتفاء والاستغناء عن الآخرين ، ممتثلة قوله تعالى : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) . والله الموفق ..