تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : زغاريد السماء



no saowt
12-18-2002, 11:28 AM
بقلم: إيمان الحفناوي

عندما تقرأون هذه السطور اكون هناك‏...‏ عصفور أخضر يرفرف بجناحيه في جنة عرضها السماوات والارض‏....‏ أراكم الآن تقرأون‏,‏ وسوف أري دموعكم‏,‏ وقد أسمع غليان الدماء في عروقكم‏...‏ لكن هل ستنبت دموعكم جسدي مرة أخري في أرضكم؟ وهل سيدفئني غليان دمائكم‏...‏ انظر إليكم وتأكلني الحسرة عليكم‏,‏ علي سجونكم التي اخترتموها لأنفسكم‏,‏ أما أنا فهناك حيث تحررت من ذلي وصمتكم‏,‏ ارفرف في فضاء رحب وابكي حالكم‏...‏ واتذكر عندما كنت صغيرة‏.‏
كان بيتنا صغيرا وجميلا كنت مشغولة بجمع حكايا أمي التي تتناثر حروفها‏...‏ آه يا أمي‏...‏ لماذا كنت تبعثرين تلك الحكايا؟ لماذا وعدتني أن نعود؟ وأن أعقد قراني في الاقصي وابتاع الزهور من بيت لحم وأبني عشي في نابلس؟‏...‏ كنا اسرة هادئة شكلا لكنها متفجرة في حقيقة الأمر‏...‏ كانت امي تحاول أن ترضعنا حب الوطن‏,‏ لم تكن تعلم حجم المارد الجبار الذي أطلقته في حنايانا يكبر معنا‏,‏ أو لعلها كانت تقصد ذلك‏,....‏ أحببت أبي الذي لم أره من قبل‏.‏

كثيرا ما كنت أغافل أمي وأصعد علي مقعد صغير‏,‏ ألامس ملامحه المعلقة في صوره فوق جدار‏...‏ دائما كان يلح السؤال‏...‏ متي نعود يا أماه؟‏...‏ عندما تكبرون قليلا‏...‏ هكذا كان دائما ردها‏,,‏ أريد أن أري أرضي‏,‏ ألثم التراب الذي احتضن جسد الغالي وهو يدافع عنه‏...‏ خالتي وأولادها كانوا يزوروننا كل عام‏,‏ ويعودون ليتركوا نار الشوق للوطن تتأجج بداخلنا‏...‏ إلحاحنا المتواصل وزيارات بيت خالتي المتكررة‏,‏ كل ذلك أثر علي أمي فأطلقت سراح لهفتنا‏...‏ سوف نذهب في اجازة قصيرة‏..‏ ليكن‏...‏ المهم أن نذهب‏...‏ آه ايتها البلدة القديمة‏...‏ لم اكن أتصور أنك بهذا الجمال‏...‏ عيني تقبل الجدران‏,‏ قلبي يلثم ابواب الكنائس وأهلة المآذن‏,‏ روحي ترفرف باحثة عن أبي‏...‏ فتحت أمي شقتها القديمة‏,‏ أزالت الاتربة لتدخل في حوار شجي مع ذكرياتها‏...‏ وبدأنا نحضر لاحتفالات العام الجديد‏..‏ سنعود لموطن هجرتنا بعد اسبوع‏...‏ ما الذي يحدث؟‏...‏ أصوات تدوي‏...‏ في ساعات قليلة تحول الهدوء الي صخب ورفض‏...‏ كنت في السادسة من عمري‏,‏ لم أكن أعي تماما معني كلمة انتفاضة التي كانوا يرددونها‏,‏ أشقائي الاربعة أين ذهبوا؟ لا أحد منهم معي‏....‏ وأمي ذعر يملأ قلبها وحقد علي الظلم يحتضن ملامحها‏...‏ أين ذهب الصغار؟‏...‏ ويأتي ابن خالتي مع ثلاثة من اشقائي‏...‏ وفهد؟ اين اخي الرابع فهد؟ لا‏...‏ لم تبك امي‏,‏ لكن نيران انتقام انطلقت من عينيها‏,‏ راح فهد‏,‏ راح حتي قبل أن أعطيه قطعة الحلوي التي وعدته أن ابقيها له‏...‏ ركضت لغرفتي‏,‏ أخرجت قطعة الحلوي احتضنتها وأخذت أبكي‏,‏ مات فهد لكنني يوما سألاقيه وأعطيها له‏...‏ قتلوه‏,‏ قتلوه لأنه دافع عن نفسه بحجر‏....‏ وقررنا ألا نترك بلدتنا‏,‏ اخوتي أصروا علي البقاء‏,‏ لن يذهبوا مكانا آخر حتي يأخذوا بثأر أخيهم‏...‏ من يومها وأنا حزينة‏,‏ كان فهد صديق عمري‏,‏ كان رائعا ويحب الحلوي كثيرا‏...‏ من يومها وأنا أضع قطعة الحلوي في علبة وكأنها ماسة نادرة اطمئن عليها عندما سقط شقيقي الثاني‏...‏

وكبرت اكثر وقاربت ضفيرتي منتصف ظهري ولن استطيع عقد قراني في الاقصي ولا أبتاع الزهور من بيت لحم‏...‏ لماذا وعدتني يا أمي؟ سيحدث يوما أن تصبح الارض لنا‏,‏ هكذا تقول الفضائيات‏,!!‏ سيعم السلام‏...‏ واتساءل كل يوم‏,‏ كيف سيحدث هذا والعدل هنا لاجيء يبحث عن بيت ومدفأة؟ كيف يحدث‏,‏ والعدل هنا سيد سييء السمعة مطارد دائما‏..‏ كيف سيحدث هذا والعصافير هنا ماتت من البرد والخوف‏,‏ كيف وزهورنا باتت فوهات مدافع‏,‏ وقطرات الندي أصبحت طلقات رصاص‏...‏
وانضم اخواي للمقاومة‏...‏ في الثامنة عشرة من عمري‏...‏ اي فتاة في عمري كانت ستعيش حياتها ترفل في حلل الأمل‏...‏ أما أنا فلا‏,‏ لقد صهرتني الاحداث من حولي‏,‏ حملتني ملامحها فصرت ممهورة بحزن يظهر في عيني‏.‏ في ذلك البلد الشقيق بدأت أخطو أولي خطواتي في تعليمي الجامعي‏,‏ أصرت أمي أن اكمل تعليمي هناك لأ ركز في دراستي وابتعد عن التوترات قليلا‏..‏ احببت زميلاتي جدا‏,‏ لكنني كنت أشعر انني لست مثلهن‏,‏ كل واحدة منهن تملك حلما‏,‏ تملك بيتا لا تخاف أن يهدم فوق رأسها أو يأخذوه منها‏,‏ تملك بلدا يمكنها أن تحكم فيه فالحلم عندهن لا يخضع للتفتيش الجمركي ولا يركض اشعث مطاردا‏....‏

كل منهن تبتاع ثوبها وهي تعلم انه سيبلي بعد مده فتبتاع غيره‏,‏ لا تتصور أبدا أن ثوبها هذا يمكن أن يصبح كفنا لها‏!!!‏

كنت أحب الاستماع لحديث زميلاتي فهي تداعب احلام فتاة مثلي في عمر الزهور‏..‏ ولأن قدري دائما يفاجئني‏,‏ وجدته‏,‏ نعم وجدته‏,‏ كيف؟ في إحد مقاهي الانترنت‏,‏ كنت وقتها احادث أخي‏...‏ اي شيء حدث بيننا؟ لا أدري لكن بعد ايام قليلة من لقاءاتنا هناك شعرت أن هذا الانسان هو التلخيص المفيد لأحلامي‏...‏ كل مافيه جميل‏,‏ حتي انتقاده لشجني‏,‏ أخيرا وجد العصفور الصغير ملجأه‏...‏ مرت شهور الدراسة كأنها حلم قد ملأ حياتي لماذا أذكره الآن؟ ان قلبي يخفق بشده لمجرد أنني استحضرت صورته بذهني‏...‏ لا‏..‏ سأبعده قليلا‏...‏ لا أريد أن أضعف‏...‏ احداث الوطن كانت مؤسفة‏,‏ الانتفاضة مشتعلة وشباب يذهبون بلا وداع‏...‏ امهات تنخلع قلوبهن واطفال يتجرعون اليتم‏...‏ واعود بعد اجادتي لعام دراسي جديد‏,‏ يتعمق حبه في قلبي‏,.‏ ويأتي أخي الاكبر وتتم خطبتي‏..‏ لكنني حزينة‏,‏ فلن يعقد القران في الأقصي‏,‏ لكنني قد أبتاع الزهور من بيت لحم‏...‏ أما نابلس فلن أقيم فيها‏,‏ بنود الحلم اهتزت‏,‏ لماذا لا تقصين شعرك سألني‏...‏ لا‏..‏ لا‏..‏ لن يحدث هذا ابدا‏,‏ فمنذ زمن انتظر ضفيرتي‏,‏ وعدتني أمي أن تعود بلادنا عندما تصل الضفيرة نصف ظهري‏,‏ يبتسم‏,‏ لا يقتنع لكنه يحترم حلمي‏...‏ في اجازة نصف العام اعود لمدينتي الجميلة الحزينة‏,‏ أصحو علي أجراس المهد وأفتح عيني علي الأذان ينطلق من مسجد عمر‏...‏ اعانق الجدران الحجرية البيضاء‏,‏ غضونها تحمل في طياتها كل عبق السنين‏.‏ وتشتد الاشتباكات‏,‏ تتحجر الدموع في المآقي‏,‏ ويسقط أخي الثالث جريحا‏...‏ أخي الاكبر انقطعت أخباره‏...‏ لن أعود لاستئناف دراستي‏..‏ لأبقي مع اسرة تواجه مصيرا عجيبا‏...‏ بجوار أخي‏,‏ اخفف عنه وأواظب علي علاجه‏...‏

محادثاتي اليومية مع من ملك عمري مستمرة‏,‏ يستحثني علي العودة‏,‏ قلبي يتآمر معه ضدي ثم يعود ويتشبث بالبقاء‏...‏ لن اعود قبل ان اري شقيقي يملأ البيت علينا كما كان‏...‏ وكعادتي اطمئن كل ليلة علي قطعة الحلوي في علبتها‏.‏ قطعة الحلوي التي يوما سأعطيها لفهد‏...‏
ويبدأ شقيقي في استرداد عافيته‏...‏ أما الاكبر فلا نعلم عنه شيئا‏,‏ اشعر به يلوح لي من فوق سحب جهزت نفسها وسادة حانية له‏...‏ آن الأوان أن اعود لاستأنف دراستي وأجهز بيتي‏...‏ بعد شهور سيكون زفافي فلابد من السفر‏,‏ واخي تحسنت حالته وامي استردت حيويتها بشفاء أخي‏....‏ وبينما كنت أعد نفسي انقلبت السماء وجثمت فوق جثة ارض ذبيحة‏,‏ قطفوا رأس القمر بضربة واحدة‏,‏ سقط القمر فوق حقول الزيتون فروعها اشواك تمزق الجثة الفضية‏...‏ في ساعات قليلة تغير كل شيء‏....‏ رئيسنا محاصر‏...‏ قتل وتشريد‏,‏ حصار لم نر مثله‏...‏ ظلم‏...‏ ظلم‏...‏ ظلم‏...‏ أي جنون تمطي علي ارضنا؟ دبابات تكسر شموخ البيوت وتسحقنا وكأننا حشرات‏...‏ دماء تسيل ولا تجد ما يوقف شلالها‏...‏ البيوت أصبحت مقابر لاصحابها‏,‏ جرافات تبتلع الجدران والبشر‏,‏ ويصاب اخي مرة اخري‏....‏ لا‏...‏ لا يمكنني نقله للمستشفي‏,‏ الاصابة خطيرة‏,‏ كيف اتركه ينزف؟ اسعافات البيت لا تكفي‏,‏ أتصل بالطبيب‏,‏ تعليمات عبر الهاتف‏,‏ يمنعوننا من الوصول للمستشفيات‏...‏ ياربي‏,‏ أي كابوس هذا؟‏...‏ وتجازف أمي‏,‏ تجبرها تأوهات الحبيب الراقد علي عمل اي شيء‏,‏ تخرج بدون علمنا‏,‏ تريد انقاذ فلذتها
باحضار ما طلبه الطبيب عبر الهاتف‏...‏ تعود لاهثة‏,‏ وخلفها يركض جندي‏,‏ تدق الباب بعنف‏,‏ افتحه‏,‏ لكن النذل يدخل خلفها‏,‏ يحاول ابتلاع كرامتها وشرفها‏,‏ اخي يصرخ‏,‏ يعوي بكرامة رجل جريح تطارد امه أمامه‏,‏ لا يملك أن يتحرك لنجدتها وانقاذ شرفه وشرفها‏...‏ لست ادري كيف استطعت أن اخطف منفضة السجائر الزجاجية وأهوي بها علي رأس الجبان‏,‏ وكيف أصابته هذه الضربة‏,‏ وكيف ظللت انهال عليه بجنون‏...‏ لست أدري كيف أرديته قتيلا لأجد أمي في حالة يرثي لها مقطعة الثياب مهلهلة الكرامة‏...‏ وأخي‏...‏ لم اشهده يبكي بهذه القوة ويبدو أن الانفعال ساهم في سوء الحالة بشكل كبير‏...‏ ماذا أفعل؟‏...‏ أخي ينزف بشده‏...‏ أمي منهارة‏,‏ وقتيل تتفجر دماؤه يحتاج إلي أن أخفيه‏...‏ جررت الحقير‏,‏ وضعته في الشرفة الصغيرة لحين النظر في اخراجه من البيت‏,‏ فقد نتعرض للتفتيش في اية لحظة‏,‏ وظللت احاول تطبيب جرح اخي والتخفيف عن حبيبة عمري‏...‏ وجدت نفسي افعل اشياء عجيبة وافكر بمنطق جاد جدا‏...‏ وجه هذا الجندي الجبان لابد من اخفاء معالمه حتي نتمكن من نقله علي انه من ابنائنا‏,‏ اخفيت ملامحه‏...‏ أنا؟ اصبح بهذه البشاعة؟‏...‏ كنت مضطرة‏,‏ ألبسته ملابس غير ملابسه حتي لا يتم التعرف عليه‏...‏ انا أفعل هذا؟ فعلته‏...‏ كل ذلك والحصار مستمر والوضع يزداد سوءا‏,‏ والذين يساندوننا صارت احاديثهم كقصاصات مجلات قديمة‏,‏ يحترفون الحرب علي الفضائيات ويجاهدون علي متون الطائرات وفي فنادق النجوم الخمس‏...‏ غيرتني هذه الحادثة‏....‏ نعم غيرتني‏,‏ جعلتني اشعر ان قلبي صار قطعة صلبة‏,‏ قنبلة موقوتة‏,‏ نبضاته دقات تلك القنبلة التي تنتظر لحظة الانفجار‏...‏ وبدأ أخي يهذي‏,‏ يموت ببطء ولا املك اسعافه وعلمت انه كان من المفروض أن يذهب بعد ثلاثة ايام للقاء ربه شهيدا بعد أن يلف نفسه بشحنة ناسفة ليلقي بنفسه بين احضان العدو‏...‏ لن يذهب بعد ثلاثة ايام‏,‏ تعجلت يا أخي الرحيل‏...‏ ساءت حالته الصحية‏,‏ حتي الغذاء نفد ولم يعد هناك ماء ابلل له به شفتيه‏,‏ قطعوا الماء عنا‏...‏ امي في حالة ذهول وأخي يهذي‏,‏ سيحين الموعد ولا يذهب‏,‏ ويأتي رفاقه رغم الحصار‏,‏ رغم كل شيء‏....‏

جاءوا يحملون بعض الطعام وماء‏,‏ لمن سأعطي هذه الاشياء؟ لقد ذهب‏...‏ رحل‏...‏ مات الحبيب علي يدي‏,‏ دماؤه علي صدري اختلطت بشلال دموعي‏...‏ لكن‏...‏ لا‏...‏ لا دموع بعد اليوم‏...‏ لتصبح دموعي قذائف حارقة‏...‏ مات الحبيب لكنني موجودة‏..‏ ولم لا؟‏...‏ استطعت اقناعهم‏...‏ تجرعت تعليماتهم بدقة‏,‏ أتهيأ في حجرتي لعرسي‏,‏ زغاريد اسمعها في السماء‏,‏ كان من المفروض أن اصبح عروسا هذا الصيف‏,‏ لاعجل بحفل زفافي‏...‏
أمام المرآة أنظر لوجهي‏,‏ أودعه‏,‏ وأري وجه حبيبي‏,‏ كم كنت اتمني أن يظللنا بيت واحد‏,‏ كنت اتمني أن أصبح أما‏,‏ كنت‏...‏ لا‏...‏ لن استرسل في اشياء تمنيتها ذات يوم‏...‏ لن أجعل شيئا يعطلني عن عرسي للسماء‏...‏ ها أنا عروس الآن‏,‏ ولكن بدلا من ثوب ابيض سأرتدي عبواتي الناسفة‏,‏ وبدلا من طرحة ملائكية ستحوطني هالة الشهادة‏...‏ لن يعقد قراني في الاقصي‏...‏ ليكن فكلها ارض الله صوت يأتيني من الخارج اسرعي‏...‏ أهم بفتح الباب‏,‏ لكنني اعود لدرجي‏,‏ لقد تذكرت قطعة الحلوي‏...‏ سآخذها معي‏,‏ سأعطيها لفهد‏,‏ أخيرا سأقابله‏...‏ في طريقي بين الأزقة مع الرفاق‏,‏ أقبل الجدران‏,‏ واترك بصمات قدمي فوق تجاعيد الشوارع‏,‏ قلبي مفخخ بحبك ياوطني‏...‏ ايامي‏,‏ حياتي‏,‏ خريطة عمري كلها تسبح بعينيك يا فلسطين الحبيبة‏,‏ أرجوك‏...‏ لا تغمضي عينيك حتي لا تضيع مني الخريطة‏.‏