تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : في ظلال سورة الكافرون (مقتبس من كتاب الظلال لسيد قطب )



كلسينا
10-01-2005, 08:33 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

لم يكن العرب يجحدون الله . فلما جاءهم محمد (ص) يقول : إن دينه هو دين إبراهيم (عليه السلام) قالوا : نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد ؟. وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول (ص) خطة وسطا بينهم وبينه ؛ وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه .
ولعل اختلاط تصوراتهم ، واعترافهم بالله مع عبادة آلهة أخرى معه . كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة ، يمكن التفاهم عليها ، والالتقاء في منتصف الطريق ، مع بعض الترضيات الشخصية .
ولحسم هذه الشبهة ، وقطع الطريق على المحاولة ، والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة ، ومنهج ومنهج ، وطريق طريق .. نزلت هذه السورة . بهذا الجزم .
((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ)) .. ناداهم بحقيقتهم ، ووصفهم بصفتهم .. إنهم ليسوا على دين ، وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون . ((لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)) .. فعبادتي غير عبادتكم ، ومعبودي غير معبودكم .. ((وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)) .. فعبادتكم غير عبادتي ، ومعبودكم غير معبودي . ((وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ)).. توكيد للفقرة الأولى في صيغة الجملة الأسمية وهي أدل على ثبات الصفة واستمرارها . ((وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ)) .. تكرار لتوكيد الفقرة الثانية . كي لا تبقى مظنة ولا شبهة ، ولا مجال لمظنة أو شبهة بعد هذا التوكيد المكرر بكل وسائل التكرار والتوكيد .
ولقد كانت هذه الفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل ، الاختلاف في جوهر الاعتقاد ، وأصل التصور ، وحقيقة المنهج ، وطبيعة الطريق .
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان ، وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها . وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف . أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلاً . ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى . واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها ، قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد .. وهذا الإغراء في منتهى الخطورة . إن الجاهلية جاهلية ، والإسلام إسلام . والفارق بينهما بعيد . والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته . هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه . لا ترقيع . ولا أنصاف حلول . ولا التقاء في منتصف الطريق .. مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام ، أو ادعت هذا العنوان وتتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس . شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء . لهم دينهم وله دينه ، لهم طريقهم وله طريقه . لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم . ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو ، بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير .
وإلا فهي البراءة الكاملة ، والمفاصلة التامة ، والحسم الصريح .. ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)) ..
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم .. ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة ، وفي اناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة ، ثم طال عليهم الأمد ((فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون )) .. وأنه ليس هناك أنصاف حلول ، ولا التقاء في منتصف الطريق ، ولا إصلاح عيوب ، ولا ترقيع مناهج .. إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان ، الدعوة بين الجاهلية . والتميز الكامل عن الجاهلية .. ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)) .. وهذا هو ديني : التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه ، وعقيدته وشريعته .. كلها من الله .. دون شريك .. كلها .. في كل نواحي الحياة والسلوك .
وبغير هذه المفاصلة . سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع .. والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة . إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح ...
وهذا هو طريق الدعوة الأولى : ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)) ..